حرضت الحرب البونيقية الثانية الجمهورية الرومانية ضد قرطاج، القوة العظمى الأخرى في منطقة البحر الأبيض المتوسط آنذاك، وهي مدينة قديمة تقع فيما يعرف الآن بتونس. سيطرت قرطاج على الساحل الشمالي لإفريقيا وعلى شبه الجزيرة الأيبيرية. أملت روما استخدام هيمنتها البحرية لغزو وإجبار منافستها على قبول شروط السلام الرومانية، لكن قرطاج لجأت إلى أعظم جنرالاتها هانيبعل الأسطوري لإحباط هذا التهديد، والذي توصل إلى خطة جريئة مفادها الهجوم من باب أولى عبر غزو إيطاليا وإجبار الرومان على الدفاع عن أراضيهم. ولكن للوصول إلى إيطاليا كان على هانيبعل أن ينفذ إحدى أكثر الخطوات جسارةً يمكن أن يقدم عليها قائد عسكري على الإطلاق، إذ كان يستوجب عليه قيادة قواته عبر جبال الألب.
وهذا يعني التنقل في التضاريس الوعرة والثلج والجليد والمرور عبر الممرات الجبلية التي يسيطر عليها رجال القبائل المحليين الشرسين الذين بإمكانهم الهجوم من الأعلى، بينما كانت قوات هانيبعل صغيرة نسبيًا لكن ماهرة بعدد 70,000 رجل و 20,000 حصان و 37 فيلًا. هذه الخطوة المحفوفة بالمخاطر كان بالإمكان أن تصبح بسهولة أحد كوارث التاريخ العسكرية، إلا أن هانيبعل لم ينجح فقط في العبور بجيشه عبر جبال الألب، بل نفذ القرطاجيون الرحلة في 16 يومًا فقط وفقًا للمؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس -ليفي-.
تقول إيف ماكدونالد، الأستاذة المدرسة للتاريخ القديم في جامعة كارديف ومؤلفة كتاب السيرة الذاتية في 2015 هانيبعل: حياة هيلينستية، «اضطر هانيبعل لعبور جبال الألب لأنه لم يستطع نقل قواته إلى إيطاليا بحرًا، إذ لم يملك ما يكفي من موانئ الحلفاء لدعم هذا النوع من الحملات البحرية، كما احتاج أيضًا إلى دعم محلي في إيطاليا، لذا فإن الوصول إلى شمال إيطاليا عبر جبال الألب يعني أنه سيكون قادرًا على حشد الدعم السكاني في شمال إيطاليا ممن كانوا معادين جدًا للرومان مسبقًا”.
مسار هانيبعل عبر جبال الألب
كان تحديد المسار الذي سلكه هانيبعل عبر جبال الألب بدقة محل جدل لأكثر من 2200 عام، لكن الأبحاث حول الرواسب القديمة لفضلات الحيوانات تشير إلى أن القرطاجيين ربما مروا عبر كول دو لا ترافيرسيت الممر الضيق في جنوب شرق فرنسا على طول الحدود مع إيطاليا والبالغ ارتفاعه قرابة 7700 قدم. عندما وصل جيش هانيبعل أخيرًا إلى جبال الألب في أواخر أيلول-سبتمبر أو أوائل تشرين الأول-أكتوبر من العام 218 ق.م كان الشتاء يقترب بسرعة، وبدأ الوقت بالنفاذ. ارتدى جنوده ما يلائم البرد والثلوج، وربما جهزوا صنادلهم بما يماثل المسامير لمنحهم مزيدًا من الحرية في الحركة على الجليد.
ليفي الذي اعتمد على سرد قرطاجي سابق في روايته، صوَّر المشهد بعد قرنين من الزمان: «كان المنظر المروع الآن أمام أعينهم، القمم الشاهقة وتلك المكسوة بالثلج التي ترتفع الى السماء والأكواخ الريفية المستندة إلى الصخور. الوحوش والماشية العجاف العطشة من البرد، والناس بشعرهم البري الأشعث، كل ما في الطبيعة سواء الحي أو الجماد متصلب بالصقيع، كل هذا ومشاهد أخرى لا تستطيع الكلمات التعبير عنها زيدت ما سبق من مخاوفهم».
مع تقدم الرتل القرطاجي الأول بحذر، تجلى لهم رجال القبائل من كل مكان حولهم بحسب ما روى ليفي. سرعان ما أمر هنيبعل قواته بالتوقف وأرسل مرشديه من الغاليك للاستطلاع ثم في صباح اليوم التالي أبقى معظم جيشه في معسكرهم بينما شكل مجموعة من جنود المشاة الأشجع والأكثر عزمًا ورشاقة، الذين تسلقوا خلسة بهدف تأمين أعلى الأماكن التي يمكن أن يجدوها على طول الطريق. ويضيف ليفي أنه عندما ظهر السكان المحليون في اليوم التالي صُدِموا حينما «رأوا قوات الهجوم القرطاجية فوق رؤوسهم مباشرة».
المعارك مع رجال القبائل
على الرغم من مشاهدة رجال القبائل للأرتال الطويلة من الرجال وقطيع الحيوانات في مقدمة القوات القرطاجية الرئيسة، إلا أنهم قرروا الهجوم على كل حال وعانى القرطاجيون من خسائر فادحة. كتب المؤرخ الروماني بوليبيوس: «لم يكن الطريق المؤدي إلى الممر ضيقًا ووعرًا فحسب، بل كان محاطًا بالمنحدرات وبالتالي أجبرت أقل حركة أو اضطراب في الخط العديد من الحيوانات على السقوط من الحافة بأحمالها». مع ذلك تمكن هانيبعل ورجاله من إلحاق أضرار فادحة بمهاجميهم، وبعد طردهم هاجموا واستولوا على بلدة قريبة للعدو، حيث استعادوا بعض الجنود والبغال والخيول الذين أسِروا، واستولوا على طعام يكفي لعدة أيام بحسب ما يذكر بوليبيوس.
ثم عقد هانيبعل سلامًا مع زعماء الجبال بعد ذلك بوقت قصير، لكن تبين أنهم لا يقلون غدرًا عن التضاريس، إذ شنوا هجومًا مفاجئًا آخر حينما كان الجيش القرطاجي يشق طريقه عبر جزء صعب من الممر، فتكبد هانيبعل وجنوده خسائر فادحة مرة أخرى، لكنهم تمكنوا من مقاومة المهاجمين وأثبتت قوات هانيبعل من الفيلة جدارتها إذ ذكر بوليبيوس «كان العدو مرعوبًا من مظهرهم الغريب ولم يجرؤ أبدًا على الاقتراب من الرتل الذي كانوا متمركزين فيه»، ولربما كانت تلك الفيلة تنتمي إلى سلالات منقرضة من جبال الأطلس في المغرب والجزائر.
يعتقد ماكدونالد أن التأثير النفسي للتواجد في جبال الألب ساهم في محنة القرطاجيين وليس فقط الطقس والتضاريس والسكان الأصليين المعادين، إذ يقول: «أعتقد أننا ننسى اليوم كيف بدت هذه الجبال ضخمة وغير قابلة للاختراق لجيش (هانيبعل)، مليئةً بالوحوش والأساطير، من المحتم أن يكون جنوده مرعوبين، كان الطقس قاسيًا متجمدًا ومثلجًا». لكن بالإضافة إلى صلابة القرطاجيين، ساعدت براعتهم على النجاة من الرحلة، إذ أشاد ليفي بهانيبعل لتوصله إلى طريقة لقطع مسار جديد من خلال منحدر الانهيار الأرضي باستخدام النبيذ الفاسد والنار، رغم أن ماكدونالد يرى أن هذا «قد يكون مجرد جزء من الأسطورة».
وصل جيش هانيبعل إلى أعلى نقطة من الطريق بحلول اليوم التاسع لكنهم شعروا بالإرهاق واليأس بحسب ما يذكر بوليبيوس. عندما رأى هانيبعل يأسهم ركب حصانه إلى المقدمة وأوقف جيشه وحثهم على النظر إلى وادي بو الإيطالي وقال الجنرال لرجاله «من الآن فصاعدًا سيسير كل شيء بسهولة، لا مزيد من تسلق التلال».
نزول الألب غدار كما تسلقه
لسوء حظ القرطاجيين كان النزول أكثر وعورة وأصعب من تسلق الجبال، ويذكر بوليبيوس أن القرطاجيين تعثروا وانزلقوا إلى أسفل المنحدر وكتب أنه «كان مستحيلًا لرجل أن يثبت قدميه، أقل عثرة تعني السقوط والسقوط يعني الانزلاق لذلك كانت هناك فوضى لا توصف، إذ تعثر وسقط الرجال والحيوانات على بعضهم البعض».
بينما يذكر ماكدونالد أنه «الطقس كان غادرًا في الطريق وكان ذلك التحدي الأكبر ومن المحتمل أن يكون السبب الأكبر للخسائر في الحيوانات، وانهارت سلسلة المؤن بحلول هذه المرحلة، فتضور الجنود والحيوانات جوعًا، والثلج والجليد جعلا النزول مميتًا».
أخيرًا وصل القرطاجيون إلى القاع حيث كان الجو أدفأ وكانت المناظر الطبيعية خضراء، نجح هانيبعل على الأقل في المدى القصير. أمضى السنوات العديدة التالية في محاربة الرومان على أراضيهم، وهزمهم مرارًا وتكرارًا وألحق خسائر فادحة بهم. قتلت قواته ما لا يقل عن 50 ألف من الفيلق الروماني في معركة كاناي عام 216 ق.م. لكن لم يكن لهانيبعل الموارد اللازمة لتمكينه من شن هجوم على روما مطلقًا، ربما بسبب علاقة عائلته المتوترة مع مجلس الشيوخ القرطاجي في وطنه.
يذكر ماكدونالد: «كان للفشل في تعزيز هانيبعل في إيطاليا دورًا هائلًا، وكان افتقار قرطاج للهيمنة على البحار عائقًا كبيرًا. ويكون من المنطقي القول أن مجرد عدم استطاعة قرطاج الاحتفاظ والدفاع عن أيبيريا ضد الرومان عنت تقريبًا هزيمة هانيبعل في إيطاليا».
استُدعي هانيبعل في نهاية المطاف للدفاع عن قرطاج من الرومان الذين هزموه في معركة زاما عام 202 ق.م وهذه الهزيمة في الحرب البونيقية الثانية أنهت تحدي قرطاج لروما، وبعد نصف قرن دمر الرومان المدينة وضموا أراضي قرطاج كجزء من المملكة الرومانية.
ومع ذلك بعد فترة طويلة من كون الإمبراطورية التي قاتل من أجلها في طي النسيان إلى حد كبير، يُذكر هانيبعل لجرأة مسيرته عبر جبال الألب.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: صفا روضان
تدقيق: يوسف صلاح صابوني