قد يتساءل أحدهم لماذا لون عينيه أزرق؟ أو لماذا شعره مجعد؟ وفي الحالتين الإجابة هي الجينات. فمن المعروف أن الحمض النووي يحدد مواصفاتنا مسبقًا من خلال الجينات التي نرثها عن آبائنا، ويحدد حتى استعدادنا للإصابة بحالات صحية محددة.
تشيع فكرة في معرفتنا وفهمنا لعلم الوراثة، مفادها أن مستقبلنا الجيني محدد قبل أن نولد حتى، فقد يرث الشخص مثلًا أليلين يمنحانه عيونًا بنية، أو قد يرث نسخة من جين تجعله معرضًا لخطر الإصابة بالسرطان ومن المحتمل أن يتطور لديه المرض وقد لا يتطور.
لا شك أن الجينات تؤدي دورًا مهمًا، لكن فهمنا السابق يُعد فهمًا مُبسطًا للأشياء، وهذا منطقي لأن محددات مستقبلنا الجيني يجب أن تكون أعقد من اقتصارها على الحمض النووي فقط.
ما هو علم التخلُّق epigenetics؟
يُشار إلى علم التخلُّق (أو علم التعديلات فوق الجينية) إلى دراسة التغيرات التي تؤثر في التعبير الجيني دون تغيير حقيقي بتسلسل الحمض النووي DNA، ويُقصد بالتعبير الجيني أي عملية تتحول فيها التعليمات الموجودة بالحمض النووي إلى منتج وظيفي مثل البروتين.
EPI كلمة يونانية تعني بالإضافة، فيُقصد هنا إضافةً إلى الجينوم، أي العوامل المختلفة عن الكود الجيني التي تؤثر في صفات (النمط الظاهري) الكائن الحي.
تؤثر التعديلات التخلقية في الطريقة التي يقرأ بها جسمنا تسلسل الحمض النووي DNA، إذ أنها تشغّل الجينات أو توقف عملها.
ترتبط التعديلات التخلقية بسلوكنا والبيئة المحيطة بنا، فقد يسبب النظام الغذائي والتمرين مثلًا تغييرات تخلُّقية تغير التعبير الجيني، وهذه التغيرات عكوسة لأن شريط DNA بقي كما هو دون تغيير.
كيف تغير العوامل التخلُّقية الحمض النووي؟
يتكون شريط DNA من سلسلة من أربعة أسس (أدنين A، وغوانين G، وسيتوزين C، وتايمين T)، ولا تغير التعديلات التخلقية تسلسل الأسس المكونة للحمض النووي لكنها تؤثر فيه بعدة طرق.
فمنها مثلًا عملية المتيلة (أي إضافة مجموعة متيل إلى DNA)، إذ تؤدي إضافة مجموعة المتيل في المكان الصحيح من الحمض النووي إلى منع ارتباط البروتينات إليه ما يعني منع قراءته.
ومنها أيضًا تعديلات الهيستونات، وهي بروتينات تتداخل مع الحمض النووي وتساعد على تعبئته في الصبغيات، وعندما يكون DNA محكم الارتصاص ضمن عدة هيستونات، يكون من الصعب الوصول إليه من بروتينات الترجمة فلا يُعبّر عنه. وبإضافة مجموعات كيميائية إلى الهيستونات أو حذفها، قد تغير التعديلات التخلقية الطريقة التي يتفاعل فيها الحمض النووي مع الهيستونات، ما يعني إيقاف الجينات أو تشغيلها.
يقول ديفيد سكوت ويشارت بروفيسور في جامعة ألبيرتا في أقسام علوم الحاسوب والعلوم البيولوجية «تتضمن التعديلات التخلقية أيضًا تغيرات التعبير الجيني في أثناء التطور الجنيني، وقد تؤدي إلى تطور بيضة ملقحة غير متمايزة واحدة إلى مجموعة كبيرة من أنماط الخلايا المختلفة والأنسجة المختلفة (دماغ، وقلب، وعضلات، وأنسجة أخرى) خلال تطور الجنين».
تؤثر هذه التعديلات التخلقية وتعديلات أخرى في التعبير الجيني وتساهم بتحديد مستقبلنا الجيني.
أسباب التعديلات التخلقية
بحسب ويشارت توجد أسباب كثيرة لهذه التعديلات، ويقول: «تنشأ التعديلات الجينية بسبب مكونات بروتينية أو كيميائية داخل الخلية (في حالة التطور الجنيني)، أو من خلال مواد كيميائية أو بروتينات أو قطع صغيرة من (RNA (siRNA, miRNA التي تسبب تغيرات عكوسة في بنية الحمض النووي، أو تغيرات في قراءته أو نسخه… وتنشأ التعديلات التخلقية أيضًا عن أكسدة الحمض النووي (بفعل مواد كيميائية)، أو التعبير عن بروتينات محددة أو قِطَع RNA التي تتداخل مع التعبير الجيني».
وقد تكون البيئة أيضًا مسببًا للتعديلات التخلُّقية، مثل الضغط النفسي والنظام الغذائي والتعرض لمواد كيميائية محددة والعدوى بالفيروسات والجراثيم ووجود بروتينات محددة، وتعكس التعديلات التخلقية تأثير البيئة في الجينوم.
ولا تؤدي كل التعرضات البيئية إلى تغييرات جينية أو تخلُّقية، أي أنها أحيانًا وليس دائمًا قد تتحول إلى تعديلات تخلُّقية.
تؤثر البيئة أكثر بكثير من تأثير الحمض النووي، وبعض هذه التأثيرات هام فيما يخص الصحة والمرض أكثر من التعديلات التخلقية والمطفرة.
تأثير التعديلات التخلقية
قد يكون للتعديلات التخلُّقية تأثير هام في التعبير الجيني وفي مستقبلنا الجيني بالنتيجة، ولكن كيف تظهر هذه التعديلات؟ وكيف تؤثر في تطور الشخص ونمطه الظاهري وصحته؟
تُعد التعديلات التخلقية بحسب ويشارت عاملًا أساسيًا في تطور الجنين البشري، إذ تؤدي دورًا مهمًا في تشكل الأطراف وأعضاء الجسم وفي تمايز خلايا وأنسجة الجسم.
بينما تؤدي التعديلات التخلقية عند البالغين دورًا في تطور الأمراض مثل السمنة، والسرطان، وأمراض القلب، والسكري، وعلى حد تعبيره «هذه الأمراض بيئية».
قد تنتج هذه الأمراض عن النظام الغذائي السيء، لكن النظام الغذائي السيء يعدل التعبير الجيني، لذلك حتى لو تحسن النظام الغذائي للشخص فإن التعديلات التخلقية قد تبقى مستمرة وقد تنتقل إلى الأجيال اللاحقة.
تؤثر التعديلات التخلقية في النسل أيضًا، وقد تنتقل هذه التعديلات من جيل لآخر، ما يجعل هذه التعديلات مهيمنة على مستقبلنا في الأجيال اللاحقة
علم الجينات مقابل علم التخلُّق مقابل فرضيات أخرى؟
يعد علم الوراثة هامًا عندما يتعلق الحديث بالمستقبل، ولا نستطيع أيضًا تجاهل دور علم التخلُّق، ولكن أيهما يملك التأثير الأكبر في مستقبلنا الجيني؟
بحسب ويشارت، تُعد الجينات أكثر أهمية من التعديلات التخلقية في تحديد مستقبل الشخص، ومع ذلك فإن دور الجينات والتعديلات التخلقية ثانوي في تحديد مستقبل الشخص أو صفاته العامة.
وعليه، كلمة الفصل ليست للعلم الجيني ولا للعلم التخلّقي، فمن يملكها إذن؟
إن العوامل مثل البيئة المحيطة بالشخص، ونظامه الغذائي، ونمط حياته، والنبيت الجرثومي الطبيعي الخاص به، وتعرضه للفيروسات والجراثيم، والعوامل الجينية وفوق الجينية الأخرى، تؤدي كلها دورًا أكبر بكثير في تحديد صحة الشخص وجودة حياته وكم سيعيش، وبحسب ويشات هذه العوامل هي جزء من مفهوم (التعرض الكلي exposome)، وهو مجموع العوامل التي يتعرض لها الفرد خلال حياته وتؤثر في صحته. لا تؤثر هذه العوامل في الحمض النووي، وإنما تؤثر في البروتينات والخلايا والأعضاء.
يقول ويشات أن 5% فقط من الوفيات والأمراض تعود إلى الجينات، بينما 95% من الوفيات تعود إلى ما يتعرض له الفرد من عوامل خلال حياته، تسبب الفيروسات والجراثيم 30% من حالات السرطان، أما التعرض للدخان والهواء الملوث فيقتل 10 مليون شخص نتيجة للأذية المباشرة على أنسجة الرئتين، وتسبب السمنة معظم حالات الأمراض القلبية والجلطات والسكري.
من الصعب تغيير الجينوم ولكن من السهل تغيير العوامل التي يتعرض لها الفرد خلال حياته، ولهذا السبب مستقبل الشخص بين يديه ولا يقرره حمضه النووي.
اقرأ أيضًا:
ما هو علم التخلق أو علم ما فوق الجينات؟
الجينات: ما هو الجين؟ ما أهميته وما مدى ارتباط صفتنا بالجينات
ترجمة: بتول السليمان
تدقيق: لين الشيخ عبيد
مراجعة: محمد حسان عجك