منذ نصف قرن تقريبًا، تمكن عالمان في مرصد لأشعة الراديو في هولمديل بولاية نيوجيرسي من النظر إلى الكون في الماضي، وتحديدًا إلى ما قبل 13.8 مليار سنة.
يشبه مرصد هولمديل هورن لأشعة الراديو أداة حفر عملاقة، فهو صندوق ألمنيوم بمقاس 20 قدمًا مربعًا عند الفم ومدبب حتى يصل إلى فتحة بعرض ثماني بوصات تتوجه منها أمواج الراديو.
وفي مايو 1964 التقط الهوائي إشارة غريبة ومستمرة، تبين في النهاية أنها تعود إلى بدايات الزمان والمكان، فمصدرها الانفجار العظيم الذي ولّد الكون قبل 13.8 مليار سنة، وبالوسع الآن اكتشافه فقط على هيئة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وقد نال كل من أرنو بينزياس وروبرت ويلسون جائزة نوبل عام 1978 لهذا الاكتشاف.
فتح إشعاع الخلفية الكونية الميكروي نافذة جديدة لنا على طبيعة الواقع، فقبل ذلك كان العلماء يتناقشون ما إذا كان للكون بداية، وربما كان بلا بداية. ولكن حينها أجيب هذا السؤال، والأهم من ذلك، جلب الاكتشاف بداية الزمان إلى المختبر، حيث يمكن التحليل والاستكشاف بطرق مفصلة.
يحوي الضجيج الميكروي آثارًا للأحداث التي وقعت عندما كان الكون في أولى بداياته (بعد جزء من ترليون من الثانية)، وحينها كان مليئًا بالطاقات التي تفوق قدرة المصادمات الجزيئية الحديثة بكثير.
مشكلة طيور الحمام:
عام 1959 بنت مختبرات بيل الهوائي في هولمديل لإجراء تجربة مشروع إيكو الذي كان يهدف إلى إرسال رسائل إلى مكان آخر بموجات الميكروويف لتنعكس عن بالونات ضخمة مطلية بالألومنيوم. وعندما انتهى المشروع، استلم بنزياس وويلسون الهوائي، اللذان أرادا استخدامه لقياس سطوع المجرات. فغالبًا ما يصف علماء الفلك سطوع مصادرهم بدرجة حرارة جسم دافئ (يعرف بالجسم الأسود) الذي يجب أن يكون لديه نفس كمية الإشعاع. ولقياس سطوع الكواكب المهمة بدقة، وجب عليهما معايرة الهوائي أولاً بدراسة مصادر يُعرف سطوعها أو حرارتها.
يقول الدكتور ويلسون: «في 20 مايو 1964 فعلنا كل ما هو ضروري» وفي إشارة إلى الهمس المستمر أينما وجهوا التلسكوب قال: «السماء كانت دافئة جدًا، يجب أن تكون أبرد».
كان الضجيج المزعج متوافقًا مع درجة حرارة تقريبية قدرها 3.5 كلفن، وقد كان واضحًا أنه فوق الصفر المطلق الذي كانوا يتوقعونه من الفراغ، وكان موجودًا بغض النظر عن الاتجاه الذي كانوا يوجهون به الهوائي، وحاولوا قدر استطاعتهم التخلص من الحرارة الزائدة، لكنهم لم ينجحوا.
قال الدكتور ويلسون: «وبالطبع، كنا قلقين، ما هو الخطأ في هذا النظام؟».
كانت قائمة احتمالات الأمور الخاطئة طويلة، ومنها أن حمامة عششت في الطرف الضيق للهوائي، فتخلصوا منها عدة مرات ظنًا بأنها تشكل مادة عازلة، ولكن حتى بعد تنظيف التلسكوب بالكامل، استمر هذا الضجيج وتجاوز كل محاولة لتفسيره طوال عام تقريبًا.
كان الفيزيائي روبرت ديكي في جامعة برينستون حينها قد بدأ مع طلابه دراسة الظروف التي ربما بدأ الكون فيها إذا كان له بداية. واستنتجوا أن أي انفجار عظيم مثل الانفجار العظيم يجب أن يكون ساخنًا بما يكفي لدعم التفاعلات النووية الحرارية عند ملايين الدرجات لتوليد العناصر الثقيلة من الهيدروجين البدائي. وأدركوا أن هذه الطاقة لا بد أنها ما تزال موجودة. ولكن مع تمدد الكون، ستكون الكرة النارية البدائية قد بردت إلى بضعة درجات كلفن فوق الصفر المطلق، وحسبوا أنها ستضع الإشعاع الكوني في منطقة الميكروويف في الطيف الكهرومغناطيسي. وكانت نفس الحسابات قد ظهرت قبل 20 عامًا على يد الفيزيائي جورج غامو وزملائه في جامعة جورج واشنطن.
خطط الدكتور لتكليف طالبي دراسات عُليا (ديفيد ويلكنسون وجيمس بيبلز) بمحاولة اكتشاف هذه الموجات الدقيقة، لكنه تلقى مكالمة هاتفية من الدكتور بينزياس بهذا الشأن، ليلتقي الفريقان لاحقًا وينشرا بحثين متتالين في مجلة الفيزياء الفلكية. وصف فريق مختبرات بيل الضجيج الراديوي، واقترح فريق برينستون أنه ربما تكون هذه الحرارة المتبقية من الانفجار العظيم. لكن الفريقين احتفظا ببعض الشك بنتائج الفريق الآخر وأرادا ترك الفكرة مفتوحة عن احتمال وجود مصدر آخر لهذا الضجيج.
على مدى العقود اللاحقة، انضم علماء الفلك والفيزيائيون الآخرون وتنافسوا في سبيل قياس إشعاع الخلفية الكونية الميكروي عند ترددات مختلفة وملء الطيف الكهرومغناطيسي لها. انتقلت الجهود من هضبة كروفورد إلى قمم الجبال، والقطب الجنوبي، والبالونات والفضاء، حيث يمكن للأجهزة دراسة الميكروويف دون تصفية من جانب الغلاف الجوي للأرض.
في عام 1990، رصد القمر الاصطناعي كوبي أن درجة حرارة الخلفية الميكروويفية كانت 2.7 كلفن متسقة في كل اتجاه (أي 2.7 درجة مئوية فوق الصفر المطلق). وهذه النتيجة أسعدت الدكتور ويلسون لأنها كانت قريبة من تقديره الأصلي مع الدكتور بينزياس. واكتشف كوبي أيضًا أن الكون الميكروي لم يكن بهذه السلاسة كما يبدو، فقد كان ملطخًا ببقع تكون أحيانًا بحرارة أعلى أو أبرد بقليل من متوسط الحرارة بنسبة عدة أجزاء من الكلفن. يعتقد العلماء الآن أن هذه البقع هي بذور المجرات وتجمعات المجرات التي تزين السماء الآن.
أسفرت نتائج كوبي عن جائزتي نوبل إضافيتين، إحداهما لجون ماثر من مركز غودارد لرحلات الفضاء في جرينبلت ماريلاند، والأخرى لجورج سموت من جامعة كاليفورنيا في بيركلي.
استمرت دراسات الأمواج الميكروويفية الكونية جنبًا إلى جنب مع علم الفلك العادي في ترسيخ رؤية تسمى أحيانًا بالكون المنافي للعقل، ﻷن المادة الذرية تُكوّن فقط 5% من الكتلة، وبتحليل الأحجام النسبية والترددات لهذه البقع والتموجات، يبدو الآن أن الكون عمره 13.8 مليار سنة ويتكون من حيث الكتلة، من 4.9% من المادة العادية مثل الذرات إلى جانب 27% من المادة المظلمة بالإضافة إلى 68% من الطاقة المظلمة.
يعود تاريخ الإشعاع الميكروي الذي اكتشفه الدكتور بينزياس والدكتور ويلسون إلى 380 ألف سنة بعد الانفجار العظيم، عندما كان الكون بأكمله ساخنًا مثل سطح الشمس وتشكلت الذرات الأولى، ما أسفر عن إطلاق الضوء في هذه العملية، وهذا هو أبعد مكان تستطيع التلسكوبات البصرية والراديوية الوصول إليه.
لكن الأنماط داخل هذه الموجات الميكروويفية تعود إلى أقل من تريليون جزء من الثانية من الانفجار العظيم. يتخيل علماء الكون أنه في تلك اللحظة الصغيرة، عاش الكون انفجارًا قصيرًا وعنيفًا من التمدد الهائل المعروف باسم التضخم. مثل هذا الاندفاع العنيف كان سيترك موجات جاذبية مطبوعة على الخلفية الميكروية. في عام 2014، ادعى علماء الفلك الذين يديرون تجربة حساسة باسم Bicep2 أنهم اكتشفوا تلك الموجات ولكنها كانت من الغبار البين نجمي. حتى الآن، لم يُكتشف أثر التضخم.
تشير سوزان ستاجز عالمة الفلك في برينستون إلى أنه مع سفر إشعاع الخلفية الكونية الميكروي على مدى 14 مليار سنة ضوئية إلى أجهزتنا، قد مرت خلال تاريخ الكون بأكمله، وتقصد بذلك جميع المجرات وتجمعات المجرات التي كانت موجودة في أي وقت مضى، وحينها تشوه إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بواسطة جاذبية هذه الأجسام الضخمة في عملية تسمى التعرض الجاذبي.
تعمل ستاجز في تعاون دولي باسم تلسكوب الكوزمولوجيا في أتاكاما، الذي يتألف من عدة تلسكوبات وآلاف من أجهزة الاستشعار الميكروية الفردية الموجودة في تشيلي. وخلال العقد الماضي استخدم الفريق البحثي هذا التأثير لرسم توزيع المادة في الكون ومن ضمنها المادة السوداء.
استخدم علماء الفلك تلسكوب القطب الجنوبي حديثًا تقنية مماثلة لتحديد كتلة مجموعة كاملة من المجرات التي وجدت قبل نحو 12 مليار سنة. ويستعد تعاون عالمي من العلماء والتجارب باسم CMB-S4 للتعمق في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وهو بحث سيستغرق سبع سنوات على مدى العقد القادم لاكتشاف أنماط أضعف داخل الأنماط. وإذا عُثِر عليها، قد تشهد على القوى التي سادت في بداية الزمن.
ستشمل هذه الجهود مرصد سيمونز الذي يُشيَّد حاليًا بجوار تلسكوب الكوزمولوجيا في أتاكاما، وتجارب أخرى في القطب الجنوبي وفي أماكن أخرى.
اقرأ أيضًا:
هل كان الزمن أبطأ عند نشأة الكون؟
العثور على عنقود مجري يُخفي أسرار نشأة الكون
ترجمة: حمداش رانية
تدقيق: محمد حسان عجك