أثناء جولتهما الاستطلاعية في مصادم الهدرونات الكبير Large Hadron Collider، كان قد شاطر ستيفن هوكينغ صديقه توماس هيرتسوغ بحلمه وأمله في خلق ثقوب سوداء على الأرض يومًا ما، فهل بالإمكان إجراء ذلك الآن؟
في سرده تفاصيل تلك الجولة، يقول هيرتسوغ: «قادنا مصعد الشحن إلى ما تحت الأرض حيث يقبع بناء مؤلف من خمسة طوابق أُجريت ضمنه تجربة ATLAS التابعة لمختبرات المنظمة الأوروبية لأبحاث الطاقة النووية CERN قرب مدينة جنيف».
ويتابع هيرتسوغ كلامه: «يعود زمن هذا الكلام تحديدًا لعام 2009 حين كان رالف هوير المدير العام لمختبرات CERN وقتها، حينها رفع أحد الأشخاص دعوى قضائية ضد مختبرات CERN في محكمة أمريكية؛ متزعمًا خلق ثقوب سوداء أو مواد سامة لها هدف مشابه وهو تدمير الكرة الأرضية، بواسطة مصادم الهدرونات الكبير».
مصادم الهدرونات الكبير LHC:
بُني هذا المصادم على شكل حلقة؛ وكان غرضه الأساسي توليد بوزونات هيغز، وهي الحلقة المفقود آنذاك في نموذج فيزياء الجسيمات القياسي.
يقع المصادم في نفق صُمم تحت خط الحدود الفاصلة ما بين فرنسا وسويسرا بمحيط 27 كيلومترًا، وظيفته الأساسية تسريع البروتونات والبروتونات المضادة بسرعة مقاربة لسرعة الضوء بنسبة 99.9999991% ضمن الأنابيب الدائرية المفرغة كليًا من الهواء.
يُوجّه شعاع الجسيمات المتسارعة عند ثلاثة مواقع على طول تلك الحلقة؛ بهدف خلق اصطدامات شديدة النشاط؛ لإعادة خلق الظروف التي تواجدت في أولى اللحظات التي سادت بعد الانفجار العظيم الساخن؛ الذي تجاوزت درجة حرارته مليون مليار درجة مئوية آنذاك.
بعد توجيه الشعاع، تلتقط مسارات الرذاذ الجسيمات المتطايرة الناتجة من التصادمات العنيفة بواسطة مستشعرات متكدسة كقطع الليغو الصغيرة التي تشكّل كاشفات عملاقة نسبيًا، مثلما هي في كاشف (ATLAS) وكذلك لولب جزيء الميون -Compact Muon Solenoid واختصارًا (CMS).
عودةً إلى موضوع تلك الدعوة القضائية، فهي سرعان ما أُسقطت؛ بحجة أن الخوف المسبق من أذىً مستقبلي لا يعطي المدّعي حقًا بإدانة المدّعى عليه.
وفي نوفمبر من نفس عام تلك القضية، أُمكن تشغيل LHC بنجاح منقطع النظير. وبعد أولى محاولات توليد الانفجارات نجح كلا الكاشفين ATLAS وCMS في استشعار آثار بوزونات هيغز في بواقي حطام اصطدامات الجسيمات. مع كل ما سبق ولغاية الآن لم يكن بمقدور LHC خلق أي ثقوب سوداء.
وصف هوكينغ وهوير فكرة إنتاج ثقوب سوداء بواسطة LHC بأنها أمر غير معقول كليًا؛ بسبب آلية تشكّل الثقوب السوداء المعروفة التي عادةً ما تكون نتيجة لانكماش بقايا نجوم عملاقة على نفسها.
لاحقًا، اتسمت هذه الفكرة بالمحدودية، وخاصةً بعدما آلت إليه الأبحاث فيما يتعلق بإمكانية تشكّل ثقوب سوداء فقط بضغط المادة إلى حجم صغير كفايةً. بل يمكن تشكيل ثقب أسود بواسطة ضغط زوجين من البروتون والبروتون المضاد إلى حدٍ كاف وذلك بعد منحهما سرعة تقارب سرعة الضوء بواسطة مسرّع جسيمات مناسب، ونتيجة طاقة اصطدامهما المركزة في مكان صغير نسبيًا سيتشكل ثقب أسود، ولكن ما هو مؤكد أيضًا أن هذا الثقب الأسود سيكون ضئيل الحجم، إضافةً إلى آنية وجوده، إذ سرعان ما يتبخر بسبب انبثاق إشعاع هوكينغ.
فيما لو تحققت آمال هوكينغ وهوير بخلق ثقب أسود على الأرض، سيكون ذلك سببًا صريحًا واضحًا لوقف السعي العلمي المستمر منذ عشرات العقود لعلماء فيزياء الجسيمات نحو أبحاث تهدف إلى استكشاف ومحاكاة الطبيعة، وذلك بإيجاد آليات تقليص المسافات الطويلة بين الجسيمات بالاعتماد على تصادمها وتوليدها طاقات تتزايد تدريجيًا.
تؤثر الجاذبية في تصادم الجسيمات وتحدّ من الدقة؛ فعلى فرض خلق ثقوب سوداء متغيرة الحجم تبعًا لتغيّر الطاقة في محاولة جدية لاستعراض ثقوب سوداء صغيرة الحجم تسهل دراستها وتفحصها عن كثب.
ولكن عند عتبةٍ ما، تؤول عملية ازدياد الطاقة إلى خلق ثقوب سوداء أكبر حجمًا استعاضةً عن ازدياد طاقة التصادم المضخمة. وعندها أيضًا، تقلب الثقوب السوداء والجاذبية التفكير الفيزيائي النمطي المتعلق بفكرة تزايد الطاقة وتقليص المسافات رأسًا على عقب.
إذ لا يُكتفى بعملية بناء مسرعات ضحمة، فهي قد لا تتعدى كونها لبنةً صغيرة وأساسية، وفي كثير من الأحيان يمكن عدّها حالة طارئة ومجهرية لمنحى الزمكان.
ما يجب التنويه إليه وذلك لدى تمديد أطوال المسافات القصيرة، بأن الجاذبية تنال من فكرة الواقعية الفيزيائية وتبنيها للنظام المعماري المثالي وخصوصًا طبقاتها المتداخلة التي ما تضحى تتفتت تدريجيًا كاشفةً مكونات تأسيسية أصغر حجمًا؛ وبنتيجته يمكن القول أن الجاذبية -وبدوره الزمكان أيضًا- تمتلك عناصر مقاومة للاختزال.
ولكن عند أي نطاق مجهري، تتحول فيزياء الجسيمات معدومة الجاذبية إلى فيزياء جسيمات مع جاذبية؟
أو بكلمات مماثلة، كم هي التكلفة الإجمالية المطلوبة لتحقيق حلم ستيفن هوكينغ في خلق ثقوب سوداء؟
ببساطة وللإجابة على هذا السؤال، لا بد من توحيد جميع القوى الموجودة، وهو ما يسعى إليه الباحثون حاليًا. فعملية البحث عن إطار عمل يجمع كل القواعد الفيزيائية المحاكية للطبيعة كان حلمًا يراود آينشتاين أولًا. ويمكن القول إنه يتوقف على فيما لو كان هناك أرجحية لعلم الأكوان المتعددة تأمين بدائل لوجهات النظر المباشرة لتصميم كون يزخر بالحياة يشابه كوننا الحالي. ففقط ومن خلال فهمنا لكيفية التفاعل والتكامل ما بين الجسيمات والقوى الموافقة يمكن تحسين نتائج الوصول إلى التفرد بقوانين الفيزياء الأساسية؛ ومنه يمكن معرفة وتحديد مستويات تمايزها لحظة اختلاف الأكوان.
اقرأ أيضًا:
محاكاة ثقب أسود في المختبر، فما الذي حدث؟
لأول مرة، تطوير صورة عالية الدقة لثقب أسود فائق الكتلة باستخدام الذكاء الاصطناعي!
ترجمة: علي الذياب
تدقيق: عمار نايف