كان من المفترض أن تُفني المادة والمادة المضادة إحداهما الأخرى تمامًا منذ دهور، لتتركا الكون خاليًا تمامًا. حسنًا، من الواضح أن هذا لم يحدث.
كشفت التجارب في مصادم الهدرونات الكبير (LHC) أدلة جديدة حول كيفية تجنب هذه الكارثة، مُلمِّحة إلى اختلاف مفاجئ في تحلل جسيمات تُسمى الباريونات وتوأمها من المادة المضادة.
كان من المفترض أن تكون المادة المضادة مُتطابقة جوهريًا مع المادة العادية، باستثناء أن جسيماتها المضادة تحمل شحنة معاكسة لجسيماتها المُناظرة. لكن لهذا الاختلاف الطفيف عواقب وخيمة، فإن التقت الجسيمتان يومًا ما، ستفني كل منهما الأخرى في انفجار من الطاقة.
تشير النماذج إلى أن الانفجار العظيم كان من المفترض أن يُنتج المادة والمادة المضادة بكميات متساوية، لكن هذا يعني أن المجموع الإجمالي للجسيمات التي تشكلت في تلك اللحظات المبكرة كان سيفنى قبل وقت طويل من تكون النجوم والكواكب والحياة.
لمّا كنا هنا لنتأمل هذا اللغز في المقام الأول، فمن الواضح أن شيئًا ما قد حدث. يبدو أن الكون قد تبقّى فيه جزء من المادة أكثر بقليل من المادة المضادة بواسطة آلية غير معروفة. حلل فيزيائيو سيرن بيانات مصادم الهدرونات الكبير ليكتشفوا أدلة دامغة على وجود اختلافات أخرى في سلوك المادة والمادة المضادة، ما يُسهم في هذا الاختلال الذي ندين له بوجودنا.
نظريًا، تخضع جميع الجسيمات لما يُعرف بتناظر تكافؤ الشحنة (CP). بمعنى أنه إذا قُلِبَت شحنة جميع الجسيمات في الكون وعُكِست إحداثياتها المكانية، فسيظل هذا الكون المرآتي يتبع جميع قوانين الفيزياء نفسها التي تتبعها البشرية.
اتَّضح أن بعض التفاعلات تنتهك هذا التناظر، فقد وجدت تجربة بارزة أُجريت عام 1964 أن الجسيمات المسماة ميزونات (K2) قد تتحلل أحيانًا إلى نواتج لا يمكن أن تتحلل دون انتهاك تناظر تكافؤ الشحنة. كان هذا الأمر نادرًا جدًا -نحو 2 من كل 1000 حدث اضمحلال- لكنه كان كافيًا للمساس بوجهات النظر المقبولة عن الفيزياء آنذاك.
وجدت العديد من التجارب في العقود اللاحقة انتهاكات مماثلة في مجموعة من الجسيمات الأخرى، ذلك فقط في أنواع أخرى من الميزونات، لكن ذلك لم يكن كافيًا لتفسير ندرة المادة المضادة. لم تُرصَد انتهاكات تناظر الشحنة الموجبة بعد في الباريونات، وهي الفئة الرئيسية الأخرى من الجسيمات التي تُشكل غالبية المادة القابلة للرصد في الكون.
حددت الدراسة الجديدة أخيرًا انتهاكات تناظر الشحنة الموجبة في الباريونات، باستخدام نظام تجريبي مشابه لدراسة عام 1964، وإن كان على نطاق أوسع بكثير.
بدلًا من ميزونات K2، ركز الفريق على جسيمات تُسمى باريونات بيوتي-لامدا (Λb) وجسيماتها المضادة. إذا كان تناظر الشحنة الموجبة مؤثرًا، فيجب أن تتحلل جسيمات Λb ومضاداتها بالمعدل ذاته. أما إذا وُجد فرق كبير بينهما، فهذه علامة على انتهاك تناظر الشحنة الموجبة.
حلل باحثو مشروع (LHCb) عشرات الآلاف من حالات التحلل الملتقطة خلال أول دورتين من (LHC) بين عامي 2009 و2018. من المثير للاهتمام أنهم وجدوا فرقًا يقارب 2.45% بين حالات تحلل المادة والمادة المضادة، وهذا يمثل 5.2 انحرافًا معياريًا عن الصفر، ما يجعله تباينًا كبيرًا بما يكفي لتأكيد ملاحظة انتهاك تكافؤ الشحنة.
يقول فينتشنزو فاجنوني، المتحدث باسم مشروع (LHCb): «يعود استغراق رصد خرق التناظر الشحني في الباريونات وقتًا أطول من وقت رصده في الميزونات إلى حجم التأثير والبيانات المتاحة. وُجدت حاجة إلى جهاز مثل LHC قادر على إنتاج عدد كافٍ من الباريونات ونظيراتها من المادة المضادة، وحاجة أيضًا إلى تجربة يُستخدَم فيها الجهاز وتكون قادرة على تحديد نواتج اضمحلالها بدقة. لقد استغرق الأمر أكثر من 80,000 اضمحلال باريون لنرى لأول مرة عدم تماثل المادة والمادة المضادة مع هذه الفئة من الجسيمات».
قد يوفر هذا الاكتشاف الكبير أدلة على قوى وجسيمات جديدة كليًا، ما قد يساعد على حل لغز عدم تدمير المادة المضادة لمحتويات الكون بأكملها. يقول فينتشنزو: «كلما زاد عدد الأنظمة التي نرصد فيها خرق التناظر الشحني وزادت دقة القياسات، فإن فرصنا لاختبار النموذج القياسي والبحث عن فيزياء تتجاوزه تزداد فعلًا».
اقرأ أيضأ:
يبدو أن العلماء قد وجدوا طريقة لنقل المادة المضادة
ما يزال الدفع بالمادة المضادة بعيدًا، لكنه قد يغير كل شيء
ترجمة: محمد الشرقاوي
تدقيق: نور حمود