إن جزءنا الصغير من الكون محاط بغلاف واسع من المادة المظلمة. ومع أن المسافة بين النجوم القليلة المعزولة والمنتشرة في جميع أنحاء هذا المجال غير المرئي تبدو فارغةً إلى حد كبير، فإن هنالك أحداثًا كثيرةً تجري في أطراف مجرة درب التبانة وأرجائها.
عن طريق دراسة الغاز الساخن الذي يتوهج في الفضاء المحيط بالمجرة اكتشف علماء الفيزياء الفلكية أدلةً على وجود مجالات مغناطيسية عملاقة تتحرك عبر هالة المادة المظلمة في مجرتنا وحولها.
يوضح عالم الفيزياء الفلكية هي شو تشانغ في المعهد الوطني للفيزياء الفلكية (INAF) في إيطاليا: « يقدم هذا العمل أول قياسات تفصيليةً للمجالات المغناطيسية ضمن الهالة المولدة للأشعة السينية ضمن مجرة درب التبانة، ويكشف أيضًا عن روابط جديدة بين الأنشطة المكونة للنجوم ودفق المجرات».
وأضاف: « تُظهر النتائج التي توصلنا إليها أن التلال المغناطيسية التي لاحظناها ليست مجرد هياكل بالمصادفة، لكنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمواقع تكوّن النجوم في مجرتنا».
طُبِّقت الدراسة على ضوء الأشعة السينية المنبعثة من هيكلين ضخمين يمتدان فوق مستوى مجرة درب التبانة وأسفلها.
اكتشف الباحثون أيضًا فقاعات إي روزيتا e ROSITA عام 2020، التي تمتد لأكثر من 45 ألف سنة ضوئية على جانبي مركز المجرة.
هذه الفقاعات مدعومة بتدفقات هائلة من الغاز والبلازما، لذلك تؤدي الصدمات في هذا الوسط إلى توهج الفقاعات توهجًا ساطعًا ضمن نطاق الأشعة السينية.
عندما اكتُشفت الفقاعات، ظن العلماء أن هناك تفسيرين رئيسيين متناقضين عن المصدر.
أحدهما كان الناجم عن الثقب الأسود هائل الكتلة في مركز مجرة درب التبانة. إذن، في حال مرَّ الثقب الأسود بفترة من النشاط النفاث فمن المحتمل أن تكون الحرارة والطاقة المتولدتان قد تسببتا في تفجير الفقاعات.
أما التفسير الآخر، فكان نشاط انفجار النجوم. إذ إن المجرة حاليًا هادئة جدًا، لكن من المحتمل أن تكون قد مرت بفترة من التكوين المكثف للنجوم، ومن المحتمل أيضًا أن يؤدي ذلك إلى إنتاج ما يكفي من الحرارة والطاقة لتكوين فقاعات إي روزيتا التي تتوسع في الهالة المجرية.
يظن تشانغ وفريقه أن أية مجالات مغناطيسية -في حال وجودها- قد يتوفر لها بعض التفسيرات.
عند مرور الضوء عبر مجال مغناطيسي، فإن هذا الضوء يتجه تبعًا لاتجاه المجال المغناطيسي فيما يسمى بالاستقطاب. لذا يمكننا فحص الضوء الذي جمعته التلسكوبات لرؤية ما يُعد ليس مجرد دليل على استقطابه فحسب، بل أيضًا على اتجاه المجال المغناطيسي الذي أنتج هذا الضوء.
يقول الباحثون عند دراستهم لاستقطاب الطيف الواسع للضوء المنبعث من فقاعات إي روزيتا، أنهم اكتشفوا خيوطًا ضخمةً وطويلةً ناتجةً عن المغنطة. وإذا تمكنا من رؤية هذه الخيوط بأعيننا، فسوف نلاحظ امتدادها عبر السماء حتى 150 مرةً أطول من عرض القمر المكتمل.
تشير هذه الخيوط إلى أن تكوّن النجوم هو ما كان أصل فقاعات إي روزيتا.
على مسافة تتراوح بين 10 آلاف إلى 16 ألف سنة ضوئية من مركز المجرة، ربما تكون إحدى حلقات التكوّن النجمي قد أنتجت الحرارة والرياح اللتين أدتا إلى تصاعد الغاز الساخن والبلازما إلى الهالة المجرّية على مسافة عشرات الآلاف من السنوات الضوئية، وما زال هذا مستمرًا.
يوضح عالم الفيزياء الفلكية غابرييل بونتي من المعهد الوطني للفيزياء الفلكية (INAF) ذلك قائلًا: «من المعروف الآن أن جزءًا من المجرات النشطة قد تولّد تدفقات من المادة التي يغذيها التراكم على الثقوب السوداء ذات الكتل الهائلة. أو عن طريق الأحداث المكثفة للتكوين النجمي التي تؤثر بعمقٍ على المجرة المضيفة لتلك المجرات. ويُظن أن مثل هذه التدفقات تكون عناصر أساسيةً في تنظيم نمو المجرات والثقوب السوداء في مراكزها».
وأضاف أيضًا: «ما يستدعي اهتمامي في هذه الحالة هو ملاحظة أنه حتى مجرة درب التبانة، وهي مجرة هادئة مثل العديد من المجرات الأخرى يمكنها أن تطرح تدفقات قويةً، وبخاصة أن حلقة التكوّن النجمي تساهم مباشرةً في التدفق المجري. وربما تكشف لنا مجرة درب التبانة عن ظاهرة شائعة في المجرات المشابهة لمجرتنا، ثم تساعدنا على إلقاء الضوء على نمو هذه الأجسام وتطورها».
هذا ليس أمرًا مؤكدًا بطبيعة الحال، إذ إنه سوف يتطلب إجراء المزيد من الأبحاث والدراسات للتوصل إلى ما يرشدنا إلى حقيقة منشأ الفقاعات.
تتوافق نتائج الفريق مع عمليات المحاكاة الأخيرة، لكن ستكون هناك حاجة إلى المزيد من عمليات المحاكاة التفصيلية لتحديد قدرة التكوّن النجمي على إنتاج أنواع التدفقات التي نلاحظها في فقاعات إي روزيتا. إلا أن المجالات المغناطيسية تمثل جزءًا مهمًا من هذه الأحجية أيضًا.
يقول تشانغ: «تفتح الدراسة آفاقًا جديدة لإمكانية فهم الهالة المجرية وسوف تسهم في تعميق معرفتنا بالنظام البيئي المعقد والديناميكي للتكوّن النجمي في مجرة درب التبانة».
نُشر البحث في صحيفة Nature Astronomy.
اقرأ أيضًا:
دراسة جديدة على الحقول المغناطيسية للثقوب السوداء تفاجئ علماء الفلك
طريقة جديدة قد تثبت فعالية في التنبؤ بحدوث العواصف الشمسية الخطيرة قبل حدوثها
ترجمة: سليمان عبد المنعم
تدقيق: منال توفيق الضللي
مراجعة: باسل حميدي