مر عقدان منذ أن تخلصت ألمانيا من لقب رجل أوروبا المريض عن طريق سلسلة من الإصلاحات في سوق العمل مهّدت لأعوام من الأداء الاقتصادي المتفوق.
لكن لسوء حظ برلين، فإن هذه العبارة عادت لتُستعمل مجددًا؛ وذلك لأن التضخم المستعصي وثلاث ثلاثيات متواصلة من الركود أو الانخفاض في الإنتاج تركا الاقتصاد الأكبر في أوروبا في وضع لا يُحسد عليه.
وصلت خطورة الأمر إلى درجة أن صندوق النقد الدولي يتوقع أن تكون ألمانيا الاقتصاد المتقدم الوحيد الذي ينكمش هذا العام، مع تكهنات بانكماش بنسبة 0.3% مقارنةً بمعدل نسب نمو تعادل 0.9% للدول العشرين التي تستعمل اليورو بصفته عملة، بما فيها ألمانيا.
إن ركودًا مُطوّلًا قد يكون مصيرًا مخيبًا للآمال لاقتصاد نما بمعدل 2% سنويًا في العقد الذي لحق الأزمة العالمية في عامي 2008-2009، ما أدى إلى فائض في الميزانية وارتفاع ملحوظ للصادرات.
لا تعاني ألمانيا داءً واحدًا رئيسيًا بل «حزمة من المتاعب المنفردة» بحسب تعبير مدير الأبحاث بمعهد كيهل للاقتصاد العالمي ستيفان كوثس.
يقول كوثس إن بعض هذه المتاعب مؤقتة، مثل ضعف الاقتصاد الصيني الذي أدى إلى انخفاض الطلب على صادرات البلاد، وبعضها الآخر هيكلي مثل التهرم السكاني السريع وارتفاع نسبة الضريبة على الشركات.
دفع هذا الوضع بعض المراقبين إلى تسمية ألمانيا بلقب (رجل أوروبا المريض) مرة أخرى، بعد 25 عامًا من نيلها هذا اللقب في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، وهي فترة تميزت بنمو اقتصادي باهت وارتفاع في نسبة البطالة.
يقول كوثس: «إن هذه التسمية ليست خاطئة في المطلق، لكن المرض مختلف هذه المرة».
فما التشخيص إذن؟
(تشاؤم) في الداخل والخارج:
إن التضخم في ألمانيا يرتفع بوتيرة أعلى من أغلبية جيرانها الأوروبيين، إذ ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 6.2% في يوليو مقارنةً بالشهر نفسه عام 2022، وفاقت على نحو ملحوظ معدل 5.3% المُسجل في منطقة اليورو.
يُضعف التضخم المستعصي من القدرة الشرائية للألمان ويُغذي «التشاؤم عند الأفراد»، بحسب ما يقوله كبير الاقتصاديين بمعهد كولن للأبحاث الاقتصادية توماس أوبست.
كان انخفاض الإنفاق العمومي والإنفاق الخاص العاملين الأساسيين وراء الركود -الذي يُعرّف بثلاثيتين متتاليتين من تدهور الإنتاج- الذي سجلته البلاد الشتاء الأخير، بحسب تصريح أوبست لشبكة سي إن إن CNN.
رفع البنك المركزي الأوروبي من نسبة الفائدة الأساسية إلى رقم قياسي يساوي 3.75% لكبح ارتفاع الأسعار. غير أن ارتفاع تكلفة الاقتراض قد أضر بقطاع البناء السكني في ألمانيا بشدة، إذ إن أكثر من 40% من شركات البناء سجلت نقصًا في الطلبات بنسبة 10.8% أو أكثر، بحسب ما صرحت به في استبيان لمعهد إيفو الشهر الماضي.
يقول كلاوس ووهلرابي المشرف على الدراسات في معهد كولن: «إن زيادة نسب الفائدة والارتفاع المهول في تكاليف البناء يخنق الشركات الجديدة».
أما قطاع الصناعة عامةً، الذي يتضمن المُصنعين الألمان ذائعي الصيت مثل فولكسفاغن وسيمنس، فقد تلقى بدوره ضربة موجعة، إذ تُظهر التقديرات الرسمية أن الإنتاج الصناعي تقلص بنسبة 1.7% في يونيو مقارنةً بالشهر نفسه من العام الماضي.
وفقًا لبيانات شركة إس أند بي جلوبال S&P Global التي صدرت يوم الأربعاء الفائت، شهد النشاط التجاري في ألمانيا في مجالي الخدمات والصناعة على حد سواء انخفاضًا بأسرع وتيرة سُجلت منذ شهر مايو 2020، عندما بدأت السلطات للتو برفع الضوابط القاسية على الاقتصاد؛ تلك التي وُضعت للتصدي للجائحة.
يقول مدير الأبحاث في الاقتصاد الشامل بمجموعة إي إن خي ING كارستن برزيسكي: «إن سجلات الطلبات على المنتجات الصناعية [الألمانية] فرغت في الأشهر الإثني عشر الماضية». ويضيف: «تباطأت الصادرات الألمانية إلى الصين كثيرًا حتى بلغت وتيرة أقل بكثير مما كانت عليه قبل الجائحة».
إن الصين هي الوجهة الرابعة لصادرات ألمانيا من حيث قيمة الصادرات، لكنها تواجه مزيجًا من المشكلات الاقتصادية -من بينها تباطؤ النمو الاقتصادي ونسبة بطالة بين الشباب بلغت مستوىً قياسيًا- كان من شأنها تقليص الطلب على البضائع الألمانية. فقد كان السوق الصيني ثاني أهم وجهة للصادرات الألمانية حتى عام 2021.
يُعد هذا التحول نتيجةً لتغيرات أعمق في اقتصاد الصين بحسب قول برزيسكي: «لقد باتت الصين ببساطة منافسًا، ولم تعد بحاجة إلى القدر نفسه من البضائع التي تنتجها ألمانيا مثلما كانت في السابق».
إشكاليات أعمق:
يمكن لوم الحرب في أوكرانيا والجائحة التي أعاقت حركة سلاسل الإمداد لتسببها على نحو كبير في المأزق الحالي لألمانيا مثلما يرى برزيسكي، غير أن كثيرًا من مشكلاتها أكثر عمقًا ولها أسباب ذاتية.
يقول برزيسكي: «لم تُفعّل ألمانيا أية إصلاحات اقتصادية في الأعوام العشر الماضية، وتراجع ترتيبها العالمي في كل ما يتعلق بالرقمنة والبنية التحتية والتنافسية العالمية، وهي الآن تستفيق لترى حقيقة وضعها».
كانت مشكلة تكلفة الغاز الطبيعي بالذات حادةً جدًا بخاصة للمصنعين المستهلكين للطاقة بكثرة. إذ ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا ارتفاعا قياسيًا غير مسبوق الصيف الماضي. وبالرغم من انحدارها الحاد في الأشهر القليلة الماضية، فإنها بدأت بالارتفاع تدريجيًا نظرًا لإمكانية حدوث إضراب في منشآت الغاز الطبيعي المسال في أستراليا، ما يثير مخاوف من نقص حاد في المعروض العالمي.
يصرح أوبست من معهد كولن للأبحاث الاقتصادية: «لقد أثّرت الاضطرابات في أسعار الطاقة الناتجة عن اندلاع الحرب في أوكرانيا تأثيرًا بالغًا على اقتصاديّ صناعيّ مهم مثل ألمانيا بالذات، وأن خطر التراجع عن التصنيع لم يعد مجرد نقاش أكاديمي».
على الرغم من خروج ألمانيا من أزمة الطاقة العام الماضي بأضرار أخف مما توقع الكثيرون، فإنها ما زالت هشة أمام الاضطرابات في المعروض من الغاز الطبيعي، مثلما يصرح الاقتصاديون على شبكة CNN.
يعود ذلك جزئيًا إلى إيقافها التام لإنتاج الطاقة النووية، ما جعل خياراتها لمصادر الطاقة محدودة، مقارنةً بجيرانها مثل فرنسا. ويقول كوثس مدير الأبحاث بمعهد كيهل: «هذا يجعل من مشكلة التنوع في المعروض من الطاقة أكثر ضررًا من دول أخرى تسعى إلى الحد من انبعاثاتها من ثاني أكسيد الكربون، لهذا فألمانيا في وضعية فريدة جدًا».
الجوانب المشرقة:
يظن هولغر شميدينغ؛ أول اقتصادي أطلق لقب (رجل أوروبا المريض) على ألمانيا عام 1998 أن «موجة التشاؤم الحالية» حيال اقتصاد ألمانيا مُبالغ فيها.
كتب شميدينغ وهو الآن كبير الاقتصاديين في بنك بيرنبيرغ الألماني في مذكرة بحثية الأسبوع الماضي أن اقتصاد البلاد في وضعية أفضل بكثير مما كان عليه في ذلك الزمن. وقال إن ألمانيا اليوم تسجل مستويات قياسية في التشغيل ومؤشرات مالية عمومية عفوية تجعل «من السهل التصدي للصدمات الاقتصادية».
كتب أيضًا أن الحكومة بصدد أخذ الإجراءات اللازمة لإصلاح قوانين الهجرة لديها؛ كي تُعوض النقص في اليد العاملة وتُسرّع إجراءات المصادقة على مشاريع البنية التحتية.
لقد أظهرت ألمانيا بالفعل أن بإمكانها التحرك بسرعة. ففي العام الماضي، صادقت على بناء خط لنقل الغاز المسال، وشرعت في بنائه للتقليل من اعتمادها على الطاقة الروسية.
يرى شميدينغ أن هذه القدرة على التأقلم هي ما يميز ألمانيا عن اقتصادات كثيرة أخرى، ويعزو هذه القدرة إلى وجود عدد كبير من الشركات الصغيرة والمتوسطة القادرة على «التجاوب بمرونة مع مشهد مُتحول تكثر فيه المنافسة».
اقرأ أيضًا:
كيف تحاول ألمانيا الحد من نفوذ شركات التقانة الكبرى
ترجمة: زياد نصر
تدقيق: منال توفيق الضللي
مراجعة: هادية أحمد زكي