من المُحير جدًا مصدرُ هذا الصوت الغريب الذي صدرَ من المحيط الهادي! هذا الـصوت العالي والغريب، أُطلقَ عليه اسم (بلوب – Bloob)، وقد التقطته المسجِّلات الصَّوتيَّة في أعماق البحر عام 1997. رغم أنَّ البلوب من أعلى وأشد الأصوات التي سُجلت في أعماق المحيطات على الإطلاق، إلا أنَّ مصدرهُ لا يزالُ مجهولَا. ذلك وقد تم تحديد مكان حدوث الصوت عند السَّاحل الجَّنوبيّ لأميركا الجَّنوبيَّة، وقد كان مسموعًا من على بعد 5000 كلم. ورغم تشابه الصوت الكبير مع أصوات الأحياءِ المائيَّة، إلا أنَّه لا يُعرف حيوانٌ حتى الآن، وحتى الحوت الأزرق، يمكنهُ اصدارُ هذا الصَّوت القويِّ. فهذا الصوت Bloob يفتح فرضيَّة وجود أحياءٍ عملاقةٍ، غير مكتشفةٍ في أعماقِ البحارِ المظلمةِ. كما يوجدُ هناك احتمالٌ آخر، يفترضُ أنَّ هذا الصَّوت ناتجٌ عن انفصالِ الجِّبال الجَّليديَّة. وقد تمَّ تسجيلٌ عدة أصواتٍ أخرى مشابهة ولكن لم يتم تسجيل أي بلوب آخر منذُ عام 1997.
كيف ومتى الُتقطَت هذه الأصّوات الغريبة؟
في عام 1960، خلالَ الحربِ الباردةِ، ثبَّتتْ البحريّةُ الأمريكيّة شبكةً سرّيَّةً للغاية من الميكروفوناتِ تحتَ سطحِ الماءِ، أُطلقَ عليها (الهيدروفونات – hydrophones)، وذلكَ لتعقّبِ وسماعِ تحركاتِ الغواصاتِ النَّوويَّةِ السّوفيتيَّة. سُمي هذا النِّظام (نظامَ مراقبةِ الصَّوتِ – SOSUS). على مدى عقود، كان يُعد وجودها سرًا عسكريًا هائلًا وتحتَ حراسةٍ مشددةٍ.
وعندما انهارَ الاتحادُ السّوفيتيُّ في عام 1991 وانتهت الحربُ الباردةُ، أصبحَ نظامُ مراقبةِ الصوتِ مُتاحًا لعلماءِ المحيطاتِ في أغراض البحث، وكانَ ذلكَ بتوجيهٍ من (الإدارةِ الوطنيّةِ للمحيطات والغلاف الجَّويِّ – NOAA). ولأنَّ الموجات الصَّوتيّة تُسافرُ لمسافاتٍ أبعدَ تحتَ الماءِ أكثرَ مما تفعلُ في الهواء، فقد تمكَّن علماءُ المحيطاتِ من استخدامِ الميكروفونات للاستماعِ لأيِّ شيءٍ بدءًا من نداءاتِ الحوتِ وصولًا للزلازلِ تحت سطحِ البحرِ.
بعدَ ذلكَ، وفي يونيو عام 1997، التقطَ نظامُ مراقبةِ الصّوتِ صوتًا غريبًا بواسطة هيدروفونٍ مائيٍّ مستقلٍ. تبلغُ مدتهُ حوالي الدقيقة الواحدة ويتكون من تردداتٍ منخفضةٍ جدًا “تحت صوتيّة” وغير قابلةٍ للكشفِ بواسطةِ آذانِ الإنسان، وارتفعَ ترددُ الصّوتِ بسرعةٍ، ثمَّ توقَّف. شدةُ الصّوتِ هو ما أثارَ حيرةَ الباحثين، فقد كان واحدًا من أعلى الأصواتِ تحتَ الماءِ التي تمَّ تَسجيلها على الاطلاق. خلالَ الأسابيعِ القليلةِ التاليةِ، سُجِّلت أيضًا أصواتٌ مماثلةٌ في المحيط الهنديِّ بواسطة نظامٍ آخرَ من ميكروفونات البحوثِ ذاتيةِ التَّحكم تُدعى (نظام مراقبة الصَّوت في المحيط الهادئ الاستوائي – (the Equatorial Pacific Ocean Autonomous Hydrophone Array.هذهِ الأصواتُ الغريبةٌ أصبحت معروفةً باسم (Bloob).
التفسيرات حول بلوب:
وفقًا لوصف NOAA (يرتفعُ التَّرددُ بسرعةٍ لمدّةِ دقيقةٍ واحدةٍ تقريبًا وسعةُ التَّردد كافية ليتم الاستماعُ إليهِ بواسطةِ العديدِ من أجهزةِ الاستشعار، وفي مدىً أكبرَ من خمسةِ آلافِ كيلومتر). الدكتور (كريستوفر فوكس- Christopher Fox) من NOAA لا يعتقدُ أنَّ مصدرهُ من صنعِ الإنسانِ مثل غواصةٍ أو قنبلةٍ، ولا حتى من الأحداثِ الجِّيولوجيةِ المعروفةِ مثل البراكين أو الزلازل، ومع ذلك فإن هذا الصوت يُماثلُ كائناً حياً، وذلك ما جعلَ مصدرهُ لغزًا محيرًا، لأنهُ مختلفٌ للغايةِ عن الأصواتِ المعروفةِ ولأنهُ أعلى مراتٍ عديدةٍ من أعلى الأصواتِ المسجَّلةِ لكائنٍ حيٍّ وهو الحوت الأزرق.
نَسبَ برنامج NOAA مصدرَ الصَّوتِ بشكلٍ مبدئيٍ إلى ظواهرَ زلزاليةٍ جليديةٍ كبيرةٍ، وذلك لأنَّ العديد من الزلازل الجًّليدية تشتركُ في صورٍ طيفيَّةٍ مشابهةٍ لبلوب، وأيضًا لأنَّ السِّعة اللازمة لاكتشافها تتجاوزُ مداها الـ خمسة آلاف كيلومتر، تمَّت معرفةُ ذلكَ أثناءَ تتبعِ جبل الجليد A53a الذي تفككَ قربَ جزرِ جورجيا الجَّنوبيَّة في بدايةِ العام 2008، وإذا كانَ هذا بالفعل هو أصلُ الصَّوتِ بلوب فإنَّ جبالَ الجليدِ التي ساهمت في توليدِ الصَّوتِ كانت في الغالب بين مضيقِ برانسفيلد و بحر روس، أو ربما في كيب أدار, الذي هو مصدرٌ معروفٌ جدًا لإشاراتِ التَّجميدِ.
أصوات أخرى غامضة
لم يكن البلوب هو الصوت الغامض الوحيد القادم من أعماقِ البحارِ والمحيطاتِ. فإن الهيدروفونات في جميع أنحاء المحيطات قد قامت بالتقاط أصواتٍ غريبةٍ وغير مُفسرةٍ على مدى عقود.
ذلك وقد تم تسجيل الصوت (جوليا – Julia) بتاريخ الأول من مارس عام 1999، وقالت NOAA أن مصدرَ الصوت هو في الغالبِ جبلٌ جليديٌ ضخمٌ اصطدمَ بالأرضِ قبالةَ أنتاركتيكا. تم أيضًا تسجيلُ الصَّوتِ (تبطئ – slow down) بتاريخ التاسع عشر من مايو عام 1997 في المحيط الهادئ الاستوائي، وتمت تسميتهُ بذلكَ لأنَّ ترددَ الصَّوتِ ينخفضُ ببطءٍ في حوالي سبع دقائق، ولأنَّ طيفيات اهتزازات الصَّوت صادرةٌ عن احتكاكٍ مشابهٍ لطيفيةِ التباطؤ.
وصوتٌ آخرٌ يدعى (قطار – Train) بتاريخ الخامس من مارس عام 1997، يرتفع الصَّوت إلى ترددٍ شبه ثابتٍ، ووفقًا لـ NOAA فإنَّ مصدرَ الصَّوتِ على الأغلب هو اصطدامُ جبلٍ جليديٍ هائلٍ بالأرض في بحر روس قربَ كيب أدار.
وآخر يدعى (تصاعد Upsweep) في شهر أغسطس عام 1991, هذا الصَّوت يتكون من سلسلةٍ طويلةٍ من الأصواتِ المتصاعدةِ ضيقةِ النِّطاقِ، يدوم كل صوت فقط لثواني معدودةٍ، ارتفاعُ مستوى مصدر الصَّوت كان كافٍ حتى يتم تسجيلهُ في جميع أنحاءِ المحيط الهادئ. الصَّوت (صفارة – Whistle) تم تسجيله هو الآخر بتاريخ السابع من يوليو عام 1997 بواسطة هيدروفونِ مستقلٍ، وتردد هذه الإشارة المتموجةِ مشابهٌ للإشاراتِ البركانيةِ المسجَّلةِ من ثوراتِ البراكينِ تحتَ الماءِ.
رغم أنَّ NOAA قدمت العديد من التفسيرات لهذه الأصوات، لا تزالُ هذه الأصوات ومصدرها تعززُ الخيالَ بشكلٍ كبيرٍ. فقاع المحيطاتِ دائمًا ما يحوي كائناتٍ لم يتم الكشف عنها ولا يزالُ غامضًا، لدينا تفسيرٌ لتلك الأصواتِ التي تبدو لنا كصراخٍ غامضٍ قادمٍ من الأعماق.