مرّت عقود وكبار العلماء يحاولون فكّ طلاسم عالم ميكانيكا الكم، إذ تتصرف الجسيمات الأولية مثل الإلكترونات والبروتونات بغرابة منقطعة النظير. على سبيل المثال، ينصّ «مبدأ التراكب الكمي» على أن يكون للجسيم عدة مواقع وسرعات وكميات فيزيائية أخرى في نفس الوقت قبل الرصد والقياس.
تساءل عدد من الفيزيائيين هل لقوة الجاذبية دور في هذه الظاهرة المحيّرة، لكن دراسة حديثة تقلل من هذا الاحتمال، إذ اختبر باحثون أوروبيون فرضية تفسر “الانهيار الواضح للشكل الموجي”، ووُضح هذا من خلال هندسة الزمكان.
تعود جذور هذه الفرضية إلى ورقة بحثية نُشرت عام 1966 على يد الفيزيائي المجري فريجيس كاروليهازي، ودافع عما جاء فيها بعد عقود من الزمن علماء كبار منهم روجر بنروز ولاجوس ديوسي الذي عمل مع مجموعة من العلماء لمعرفة تأثير الجاذبية على أحد أكبر المعضلات في الفيزياء الكمومية: التراكب الكّمي.
يقول ديوسي: «انتُقدتُ في بلدي مدة 30 سنةً لانشغالي بدراسة شيء لا يمكن عرضه بالتجربة تمامًا».
لحسن الحظ، أصبح بإمكان ديوسي أن يختبر فرضيته بفضل تكنولوجيا حديثة، لكن قبل معرفة آلية عملها، يجب علينا أن نغوص قليلًا في متاهات العالم الكمي.
في بدايات القرن الماضي، جسّد علماء الفيزياء النظرية الجسيمات على صورة موجات بالتوافق مع نظرياتهم حول الذرة والضوء. مع ذلك، لم تكن هذه الجسيمات تتصرف بوصفها موجاتٍ تتحرك على سطح بركة ماء، بل كان سلوكها أقرب إلى مجرى أحداث لعبة النرد.
بالنسبة إلى بعض الفيزيائيين كان تشبيه سلوك الجسيمات الكمومية بسلوك أحجار لعبة النرد مجرد محاولة يائسة للخروج من متاهات عالم الكم بأقصى سرعة، لكن هذا التشبيه تعزّز أكثر لاحقًا عندما تمكّنا من حل بعض الطلاسم والتعرف أكثر على طبيعة فيزياء الكم، فيما أصرّ آخرون أنّ هذا العالم غير المتناهي في الصغر فوضى عارمة موغلة في عمق الفيزياء. لكن حتى في ظل هذه الفوضى تمكن العلماء من وضع أرقام ومعادلات محددة تصف بوضوح أشياءً دقيقة في العالم الكمي مثل دوران الجسيمات وموضعها وعزوم دورانها.
حاول الفيزيائي السويسري إيروين شرودنجر -أحد مؤسسي فيزياء الكم- أن يوضح لنا غرابة سلوك الجسيمات دون الذرية عبر عرضه لمثال تخيلي عن قطة محاصرة في صندوق فيه ذرة مشعة يُحتمل بنسبة 50% أن تتحلل إلى غازات سامة وتقتل القطة. يقول المنطق أن القطة إما ميتة وإما حية ولا يمكن أن نتأكد من ذلك حتى نفتح الصندوق ونرى بأمّ أعيننا، لكن وفقًا لشرودنجر فالقطة ميتة وحية في الوقت ذاته، ولا يمكن معرفة الحقيقة حتى نقوم بفتح الصندوق ورصدها.
هذا المثال التخيلي يصف لنا حالة التراكب الكمي وأن الجسيمات الكمومية ليس لها موضع أو خاصية محددة إلى أن نقيسها، فلا توجد إلا مجموعة متشابكة من الاحتمالات، وليس السبب في ذلك عجز أجهزة الرصد والقياس لدينا، إنما هي حالة طبيعية أصيلة في الجسيمات الكمومية، التي تعتبر من المبادئ الأساسية في تطوير الكثير من التطبيقات والتكنولوجيا كالحوسبة الكمومية.
تجنبًا لحشر مفاهيم افتراضية مثل العوالم غير المتناهية وتقديم تفسير أكثر عقلانية لكيفية انهيار حالة التراكب الكمي للجسيمات، احتاج العلماء كبينروز وديوسي إلى شيء أكثر ألفة بالنسبة إليهم، وكانت الجاذبية الكلاسيكية ضالتهم المنشودة لتفسير ذلك الانهيار، بينما أحال أينشتاين سبب ذلك السلوك الشاذ إلى انحناء نسيج الزمكان ثلاثي الأبعاد، لكن المحبط للآمال في الوقت الراهن افتقار علماء الفيزياء النظرية إلى وصف كمي لنسيج الزمكان. مع ذلك فإن التعارض بين مجال فيزياء الكم والجاذبية قد يرجح الكفة أكثر في صالح أنصار مبدأ الاحتمالات.
تؤكد فرضية بينروز أنّ الجسيمات تمتلك كميات مختلفة من الطاقة حتى تحافظ على امتلاكها لعدة حالات مختلفة، وتبعًا لمعادلة اينشتاين الشهيرة (E=mc^2)، فإن الاختلاف في الطاقة يظهر جراء الاختلاف في الكتلة، الذي يؤثر بدوره على نسيج الزمكان، وهو ما نلاحظه ونسميه الجاذبية.
ونظرًا للتباين في جميع الحالات أو النسخ التي يمكن أن يشغلها الجسيم في آنٍ واحد، فإن شكل نسيج الزمكان الثابت يعمل على تفكيك حالة التراكب الكمي ويختار نسخةً واحدة من خصائص الجسيم بشرط أن تكون منخفضة الطاقة لتظهر إلى الوجود وتستقرّ في موضعها.
تبدو الفرضية مغريةً وقابلةً للاختبار، فالانهيار الكمي يؤثر على موقع الجسيمات. يقول الفيزيائي في معهد فرانكفورت للدراسات المتقدمة ساندرو دونادي لمجلة ساينس: « يبدو الأمر كما لو أنك سددت ضربةً إلى جسيم».
إذا دفعت إلكترونًا بقوة كافية، فإنك ستجبره على إصدار فوتونات ضوئية. للتحقق من هذه الفرضية، صمّم العلماء تجربةً مشابهة لقطة شرودنجر فوضعوا بلورةً صغيرةً من الجرمانيوم داخل صندوق من الرصاص دُفن تحت سطح الأرض في مختبر جران ساسو الوطني الإيطالي بعيدًا عن أي مصدر للإشعاع.
لو كانت فرضية بنروز صحيحةً، فإن هذه البلورة من الجرمانيوم ستولّد عشرات الآلاف من الومضات الإشعاعية على مدى عدة أشهر، وذلك لأن جسيماتها المتراكبة ستستقر في حالات محددة بعد حدوث الانهيار بفعل الجاذبية. غير أن ديوسي وفريقه لم يرصدوا إلا بضع مئات الإشعاعات فقط على مدى شهرين، وهو عدد متوقع جدًا من أي تحلل إشعاعي طبيعي.
لم يتفاجأ بنروز من نتيجة التجربة، فلو دفعت الجاذبية الجسيمات فور انهيارها إلى إصدار الإشعاعات فإن ذلك قد يتعارض مع القوانين الصارمة للديناميكا الحرارية.
من المؤكد أن القصة لم تنتهِ بعد، لأن احتمال اجراء تجارب مستقبلية توضّح تأثير الجاذبية على الموجات الكمومية يبقى واردًا.
اقرأ أيضًا:
ما هي ميكانيكا الكم ؟ تفسير ميكانيكا الكم وتبسيطها
ما هو الاحتمال الكمومي ؟ ومن أين يأتي؟
ترجمة: رضوان بوجريدة
تدقيق: علي البيش
مراجعة: آية فحماوي