قد يبدو للوهلة الأولى أن وحدات قياس المواد موضوع ممل، لكن إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على استخدام الأوقية لقياس المشروبات، والغالون لقياس الغازات يعود لأسباب وطنية وسياسية ولعدم ثقتهم بالفرنسيين.
قال بروفسيور التاريخ كين ألدر في جامعة نورث وسترن إيلينوي، مؤلف كتاب (مقياس لكل شيء: ملحمة الأعوام السبعة والخطأ الخفي الذي غير العالم): «قد يبدو أن مفارقة استخدامنا لنظام قياس مختلف تمامًا عادية ومملة، لكنها تمثل أسلوب حياة كامل بالنسبة إلينا. ليس بوسعك أن تبني اقتصادًا عالميًا دون تحديد المعايير الأساسية، وقد خاض أسلافنا قتالًا مريرًا لتحديد المعايير الخاصة بنا».
في تسعينيات القرن الثامن عشر، طلبت الحكومة الفرنسية من الأكاديمية الفرنسية للعلوم ابتكار نظام قياس جديد ومنطقي. قررت الأكاديمية أن تتبع نظامًا منطقيًّا يقوم على أساس طبيعي قابل للحساب، لهذا قرروا أن المتر الواحد يساوي واحد من عشرة ملايين جزء من ربع محيط الأرض، وهو الخط الممتد من القطب الشمالي إلى خط الاستواء. ومن هنا بدأ النظام المتري.
يُعَد النظام المتري أسهل بكثير من النظام الأمريكي. كل وحدات النظام المتري تنقسم إلى كسور عشرية، إذ يتكون السنتيمتر من 10 مليمترات، والكيلوغرام من 1000 غرام، إلخ. يُستخدم هذا النظام في معظم دول العالم لسهولته، فمثلًا يتجمد الماء عند درجة صفر سيليزية بدلًا من درجة 32 فهرنهايت، ويغلي الماء عند درجة 100 سيليزية بدلًا من 212 فهرنهايت، وهكذا.
إذن لماذا اختارت الولايات المتحدة النظام الأصعب؟ لماذا تُصر على استخدام الياردة والميل والمكيال؟ (المكيال pint: وحدة لقياس حجم السوائل تساوي نصف لتر تقريبًا). بدأ النظام الخاص بالولايات المتحدة خليطًا من عدة أنظمة مختلفة للقياس، أصل هذه الأنظمة يعود إلى العصور الوسطى الإنكليزية. حاول الرئيس الأمريكي جورج واشنطن توحيد العملة وتوحيد نظم القياس، نجح في الأولى لكنه فشل في الثانية، إذ حاولت الولايات المتحدة أن تتحول إلى النظام المتري عدة مرات، لكن النظام البريطاني كان متجذرًا بعمق بين الشعب الامريكي.
قال ألدر: «في الماضي لم تختلف أنظمة القياس بين البلدان وحسب، بل اختلفت حتى بين مدينة وأخرى. استغرقت فرنسا زمنًا طويلًا ومحاولات عديدة لتوحيد نظم القياس، ولم تنجح إلا بعد الثورة الفرنسية عام 1789. يعتقد المؤرخون أن فرنسا وحدها كانت تملك أكثر من 250 ألف نظام مختلف للقياس». كان توحيد نظم القياس مهمًا جدًا لعملية التبادل التجاري، قال ألدر: «أحبطت الأنظمة المحلية للقياس العديد من التبادلات التجارية بين البائعين، لكن مع توحيد النظام، أصبح بوسع البائع والمشتري تحديد الكمية المُباعة بالضبط، لكن الكثير من السكان المحليين رفضوا النظام الجديد لأنهم لم يألفوه».
لاحظ أن الأنظمة المحلية المختلفة كانت مفيدة في وقتها. أحد هذه الانظمة هو نظام (اليوم) وهو نظام يُستخدم لقياس مساحة الحقول، استنادًا إلى عدد الأيام المطلوبة لحرث الحقل. نظام آخر كان يُسمى (البوشيل) لقياس مساحة الحقول أيضًا، حسب عدد الأيام المطلوبة لنثر البذور في الأرض.
لكن بعد الثورة الفرنسية، تولت الحركة التنويرية زمام الأمور، وعُرف ذلك العهد بعصر المنطق، وتقرر استخدام الكيلوغرام وحدةً لقياس الوزن. قال ألدر: «كان ذلك عصر المنطق، وكان من المفترض أن تعتمد الولايات المتحدة النظام المتري اقتداءً بفرنسا».
سنة 1793 أرسل وزير الخارجية الأمريكي توماس جيفرسون يطلب حضور العالم الفرنسي جوزيف دومبي. أبحر دومبي إلى العالم الجديد، ومعه أسطوانةً نحاسية تزن كيلوغرامًا واحدًا تمثل المعيار الرئيسي الجديد، لكن السفينة واجهت عاصفةً شديدة أبعدتها عن مسارها الصحيح، واعترضها قراصنة بريطانيون، ومات العالم دومبي سجينًا لديهم ولم يصل الكيلوغرام إلى الولايات المتحدة قط.
لكن العواصف السيئة لم تكن السبب الوحيد في ألا تعتمد الولايات المتحدة النظام المتري، كان الأمر في نظرهم قضية هوية وطنية، فلم يكن جميع الأمريكيين يحبون فرنسا كما كان جيفرسون، يقول ألدر: «أتفهم لماذا يرفض الناس قوة العولمة والنظام العالمي الواحد، من الطبيعي جدًا أن يفضلوا نظامهم المحلي المألوف. وقد يكون الرفض لكون النظام فرنسيًا. حتى أن فرنسا نفسها استغرقت قرنًا كاملًا ليكون النظام المتري معتمدًا لديهم». لم ينته الجدال حول أنظمة القياس حتى يومنا هذا، ففي مقالة سابقة ناقش العلماء التغيرات التي طرأت على الكيلوغرام والمتر.
عامل آخر ربما لم يكن في مصلحة النظام المتري هو الاستقرار السياسي، فمنذ استقلال الولايات المتحدة صارت تعتمد الانتخابات بدلًا من الانقلابات والثورات. يرى البروفيسور ألدر أن تغيير الأنظمة القياسية يحتاج إلى حدوث اضطرابات داخلية كبيرة، وحتى الحرب الأهلية الأمريكية لم تكن كبيرةً بما يكفي لتُغيّر النظام القياسي.
حتى المملكة المتحدة لم تبدأ استخدام النظام المتري قبل سبعينيات القرن الماضي، عندما انهارت الإمبراطورية البريطانية وبدأت الدولة بالتبادل التجاري مع جاراتها القارية بدلًا من مستعمراتها.
ومع ذلك لم تعتمد بريطانيا النظام المتري بالكامل، فما زالت إشارات الطرق تقيس المسافات بالأميال، وما زالت الحانات تقدم البيرة بالمكيال (لاحظ أن المكيال الأمريكي يختلف عن البريطاني). حاولت المملكة المتحدة اعتماد النظام المتري بالكامل، واستُبدلت الكيلومترات في إشارات الطريق بالأميال، لكن الشعب فقد صوابه واضطروا الى إعادة الأميال مرةً أخرى.
وافق مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1975 على قانون يقر تغيير نظم القياس، لكن -على عكس ما حدث في المملكة المتحدة- كان التغيير طوعيًا لا إجباريًا، وليس له موعد نهائي محدد.
كل من يتمنى أن تتحلى الولايات المتحدة بالمنطق وتستبدل الجرام بالأوقية، عليه أن يحذر من هذه الأمنية، لأن عادةً ما يكون التحول مصحوبًا بتغير سياسي كبير.
اقرأ أيضًا:
لماذا لا تستخدم أمريكا النظام المتري؟ الجواب لدى قراصنة الكاريبي
ترجمة: زينب سعد
تدقيق: رزوق النجار
مراجعة: أكرم محيي الدين