قد لا نفكر في عنصر الكربون كثيرًا، رغم أننا لن نكون أحياء من دونه لأنه المكون الرئيسي في المركبات العضوية الموجودة في كل أنواع الكائنات الحية على الأرض، لكن ما يزال المصدر الذي جاء منه الكربون موضوع جدال بين العلماء.
توصّل بحث جديد إلى أن المصدر الرئيسي للكربون في مجرة درب التبانة هو النجوم القزمة البيضاء، وهي نوى نجوم ميتة كانت في وقت ما تشبه شمسنا كثيرًا.
من المعروف أن العناصر الأثقل من الهيدروجين والهيليوم تشكَّلت داخل النجوم المختلفة في الكون الشاسع. إذ تَنتج عن التحام العناصر داخل نوى النجوم عناصر أخرى بثقل الحديد في عملية يُطلَق عليها اسم «التخليق النووي النجمي» حتى العناصر الأثقل من ذلك تتشكل في عمليات مثل التقاط النيوترونات في المُستَعِرات العظمى الضخمة.
يتكون الكربون نتيجة لعملية ألفا الثلاثية التي يُطلَق عليها أيضًا اسم عملية «تخليق العناصر»، إذ تندمج ثلاث نوى هيليوم معًا لتكوين ذرة كربون، وهي عملية تحدث في نهاية عمر النجم.
لكن لم يكن علماء الفلك يعلمون على وجه التحديد هل ترجع وفرة الكربون في مجرتنا إلى النجوم المُحتضِرة التي كانت تتخلص من قشرتها بهدوء في أثناء تحولها إلى أقزام بيضاء أم أنه انفجر في الفضاء من النجوم الأكبر كتلة في أثناء تحولها إلى مستعرات عظمى؟
بحث فريق من علماء الفلك بقيادة باولو ماريجو من جامعة بادوفا في إيطاليا عن إجابات لهذه الأسئلة في عناقيد النجوم المفتوحة، وهي مجموعات تصل إلى آلاف النجوم المتقاربة في العمر والمتكونة في السحابة الجزيئية ذاتها.
حدَّد فريق البحث النجوم القزمة البيضاء في خمس سحابات جزيئية، مستخدمين مشاهدات مرصد دبليو. إم. كيك في هاواي سنة 2018. استطاع العلماء بفضل هذه المشاهدات رؤية «أطياف النجوم» وهي بمثابة البصمة المميزة للضوء التي يمكن عند فك شفرتها الحصول على معلومات عن النجم، مثل درجة حرارته -التي تدل على عمره- وتركيبته الكيميائية وجاذبية سطحه التي يُستَدلُّ منها على كتلته.
يقول عالم الفيزياء الفلكية إنريكو راميريز رويز من جامعة كاليفورنيا سانتا كروز: «استطعنا حساب كتل الأقزام البيضاء بتحليل أطياف النجوم التي رصدها مرصد كيك، وتعقُّب النجوم السلف لهذه الأقزام واستنتاج كتلها عند الولادة باستخدام نظرية التطور النجمي».
من المعروف أن كتلة النجم الميت لها علاقة بكتلة نجمه السلف. فمن المنطقي أنه كلما زادت كتلة القزم الأبيض زادت كتلة نجمه السلف الذي كوّنه، لكن الكتلتين ليستا متطابقتين، لأن النجم السلف يلفظ كميات كبيرة من المادة في الفضاء. تُعرَف العلاقة بين الكتلتين في النجوم القزمة البيضاء بعلاقة «الكتلة الأولية-النهائية».
من الممكن حساب العلاقة بين الكتلتين في الأقزام البيضاء إن عرفنا طيف القزم الأبيض، إذ إن هذه الأقزام لم تعد قادرة على دمج النوى لأنها نجوم ميتة، ودرجة حرارتها آخذة بالانخفاض. وأي حرارة يحتفظ بها القزم الأبيض هي حرارة متبقية أنتجها نجمه السلف وسوف تشع متلاشية ببطء في الفضاء على مدى مليارات السنين. ولو عرفنا كتلة القزم الأبيض ودرجة حرارته وتركيبه الكيميائي نستطيع حساب السرعة التي سيبرد فيها، ما يسمح للفلكيين بحساب عمر القزم الأبيض ومتى انهارت نواة النجم.
يأتي هنا دور عناقيد النجوم المفتوحة، لأن أعمار هذه العناقيد معروفة فنستطيع طرح وقت انهيار نواة النجم من عمر عنقود النجوم لنعرف متى مات النجم السلف، ونستطيع استخدام هذه المعلومة لحساب الكتلة الأولية للنجم السلف.
لكن عندما طبَّق فريق البحث ذلك على الأقزام البيضاء -خاصة تلك التي فاقت كتلة نجومها السلف كتلة الشمس بمرة ونصف- لاحظوا شيئًا شديد الغرابة، كانت كتل الأقزام البيضاء أكبر من المتوقع بالنسبة لكتل أسلافها، وهو ما أطلق عليه الفريق اسم «شذوذ في علاقة الكتلة الأولية-النهائية».
يقول ماريجو: «تفسر دراستنا هذا الشذوذ في علاقة الكتلة الأولية والنهائية بأنه العلامة على أن تركيب الكربون يحدث في النجوم ذات الكتل الصغيرة في درب التبانة».
يرى أعضاء الفريق البحثي أن هذه العملية تحدث في أسلاف الأقزام البيضاء قُبيل نهاية حياتها. إذ تلتحم نوى الهيليوم لتتحول إلى كربون داخل نواة النجم، ثم تنتقل ذرات الكربون إلى السطح حيث يُقذف بها في الفضاء بفعل الرياح النجمية الخفيفة نسبيًا. تحدث هذه العملية ببطء شديد يستطيع النجم معها استعادة الكتلة المفقودة من نواته وهذه الكتلة المُكتَسبة هي المسؤولة عن زيادة الكتلة المُتوقعة التي يجدها العلماء في الأقزام البيضاء.
تحدث هذه الظاهرة -زيادة كتلة القزم الأبيض عن الكتلة النهائية المتوقعة- عادة في النجوم التي تزيد كتلتها عن كتلة الشمس مرتين ولم تُلاحَظ في النجوم التي تقل كتلتها عن كتلة الشمس بمرة ونصف، ويعني هذا وجود حد أدنى لكتل النجوم المُنتِجة للكربون.
تساعدنا مراقبة النجوم المشابهة في المجرات الأخرى على تكوين فهم أفضل لتوقيت موت النجوم المُنتِجة للكربون في مجرة درب التبانة، وهذا ما يجعل أسلاف الأقزام البيضاء المصدر الأكثر ترجيحًا للكربون.
قد يساعدنا هذا أيضًا على فهم ما يحدث في المجرات البعيدة، إذ تدلّنا بصمة الكربون في الضوء على تعداد الأقزام البيضاء البعيدة.
وقد يفيدنا هذا البحث أيضًا في تكوين فهم أفضل عن طريقة انتشار الكربون عبر مجرة درب التبانة والذي قد يؤثر في بحثنا عن حياة أخرى خارج كوكب الأرض.
نُشر هذا البحث في مجلة Nature Astronomy.
اقرأ أيضًا:
نحن عبارة عن غبار من النجوم. نجم الكربون يحمل التفسير والدليل
أنواع النجوم.. كيف تصنف النجوم ؟
ترجمة: هاني عبد الفتاح
تدقيق: وئام سليمان