يعتقد بعض العلماء أن ميكانيكا الكم يمكنها تفسير عملية اتخاذ القرار عند البشر!

إن المجال الأساسي ذاته الذي سمح لقطة شرودنجر بأن تكون حية وميتة في ذات الوقت، ومكّن جسيمين مختلفين من التواصل عبر المسافات بين المجرات، بإمكانه أن يساعد على تفسير أكثر الظواهر غموضًا: السلوك البشري.

قد يبدو كل من الفيزياء الكمِّية وعلم النفس البشري غير مرتبطين على الاطلاق، لكن يعتقد بعض العلماء أن المجالين يتداخلان تداخلًا مثيرًا للاهتمام. يحاول كِلا التخصصين توقع مسار سلوك الأنظمة غير المتوقَّعة في المستقبل. الفرق هو أن أحدهما يحاول فهم الطبيعية الأساسية للجسيمات الفيزيائية، في حين يحاول الأخر تفسير طبيعة الإنسان، إلى جانب المغالطات المتأصلة فيه.

قال زياشو زانغ Xiaochu Zhang، عالم الفيزياء الحيوية وعالم الأعصاب من جامعة العلوم والتكنولوجيا الصينية: «وجد علماء الإدراك العديد من السلوكيات البشرية غير المنطقية». حاولت نظريات اتخاذ القرار الكلاسيكية توقع أي قرار قد يتخذه شخص ما ضمن معايير محددة، لكن البشر غير المعصومين لا يتصرفون دومًا وفق المتوقَّع. تقترح الأبحاث الحديثة أنه: «يمكن تفسير هذه الهفوات منطقيًّا بواسطة نظرية الاحتمال الكمِّي quantum probability theory»، وفق قول زانغ.

كان زانغ من مؤيدي نظرية الوعي الكمِّي quantum cognition. في دراسة جديدة نُشرت في 20 يناير 2020 في صحيفة (طبيعة السلوك البشري)، درس زانغ وفريقه كيف أن المفاهيم الجديدة المُستمَّدة من ميكانيكا الكم يمكنها مساعدة علماء النفس على توقع قرارات البشر بدرجة أفضل.

راقب الفريق نشاط الدماغ لدى المشاركين في أثناء تسجيل القرارات التي اتخذوها في إحدى اختبارات علم النفس المعروفة جيدًا. سلطت هذه الدراسة الضوء على مناطق معينة من الدماغ يُعتقد أنها تشارك في عمليات فكرية شبه كَمِّية.

قال زانغ إن هذه الدراسة هي الأولى من نوعها لدعم فكرة الوعي الكمِّي عصبيًّا.

عظيم! والآن ماذا يعني ذلك؟

مبدأ عدم اليقين

تصف ميكانيكا الكم سلوك الجسيمات الدقيقة التي تصنع كل المواد في الكون، أي الذرات وعناصرها دون الذرية. تقترح إحدى الأفكار الرئيسية وجود قدر كبير من عدم اليقين في هذا العالم متناهي الصغر، وهو شيء لا يُرى على مستويات أكبر، مثلًا يستطيع أي شخص في العالم الكبير أن يعلم أين هو القطار في رحلته ومدى السرعة التي ينطلق بها، ومن ثم يستطيع توقع توقيت وصول القطار إلى وجهته التالية.

والآن دعونا نستبدل بالقطار إلكترونًا، سنجد حينها أن قدرتك على التوقع قد انمحت، إذ لا يمكنك معرفة الموقع الصحيح لإلكترون محدد أو القوة الدافعة له، لكن يمكنك حساب احتمالية أن يظهر الجسيم في نقطة محددة، إذا كان يسير في نسق محدد، وستحصل بذلك على فكرة مبهمة حول ما قد يصبح عليه هذا الإلكترون.

إن مبدأ عدم اليقين الذي هو من أسس العالم دون الذري، قد يتدخل أيضًا في عملية صنع القرار البشري، مثلما يحدث عندما نختار مسلسلًا جديدًا لنشاهده معًا أو نُدلي بأصواتنا في الانتخابات الرئاسية، هنا تؤدي ميكانيكا الكم دورها. وعلى عكس النظريات الكلاسيكية حول صناعة القرار، يحوي العالم الكمِّي مجالًا واسعًا من درجات عدم اليقين.

تستند نظريات علم النفس الكلاسيكي إلى فكرة أن البشر يصنعون قراراتهم بغية الحصول على أكبر قدر من المكاسب وأقل قدر من العقاب، بعبارة أخرى: لضمان أن يحصلوا نتيجة أعمالهم على عوائد إيجابية أكثر وعواقب سلبية أقل.

يرتبط هذا المنطق، المعروف بالتعليم المعزز reinforcement learning، بالإشراط البافلوفي Pavlovian Conditioning (نسبةً إلى تجربة كلب بافلوف)، إذ يتعلم الناس توقع عواقب أفعالهم بناءً على تجاربهم السابقة، وذلك استنادًا إلى تقرير نُشر سنة 2009 في صحيفة علم النفس الرياضي.

إذا كان البشر مقيدين فعلًا بهذا الإطار، فسيكون عليهم تقييم أي خيارين موضوعيًّا قبل اختيار أحدهما. لكن البشر لا يعملون دائمًا بهذا الأسلوب في العالم الواقعي، إذ تعطل مشاعرهم الذاتية حول موقف ما قدرتهم على اتخاذ قرارات موضوعية.

صورة ونقش (في ذات الوقت)

تخيل مثلًا أنك تراهن على عملة نقدية مقذوفة في الهواء إن كانت ستستقر على الصورة أم النقش. ستكسب 200 دولار إذا استقرت على الصورة أو ستدفع 100 دولار إذا استقرت على النقش، ويمكنك اختيار رمي العملة النقدية مرتين. حين نجد أنفسنا في هذا السيناريو، فإن أكثر الناس سيختارون أن يجربوا الرهان مرتين سواءً كانت الرمية الأولى رابحة أم خاسرة، وذلك استنادًا إلى دراسة نُشرت سنة 1992 في صحيفة علم النفس المعرفي. يراهن الفائزون مرةً ثانية لأنهم يتمنون الفوز في كل مرة، في حين يراهن الخاسرون مرةً ثانية في محاولة لتعويض خسارتهم. لكن إن لم يُسمح للاعبين برؤية نتيجة الرمية الأولى، فلن يختاروا غالبًا أن يراهنوا ثانيةً.

ما هو الوعي الكمومي؟ نظرية فيزيائية يمكنها التنبؤ بسلوك الإنسان - يعتقد بعض العلماء أن ميكانيكا الكم يمكنها تفسير عملية اتخاذ القرار عند البشر!

عند معرفة النتيجة فإن الجولة الأولى لا تؤثر على خيار اللاعب، أما عند عدم معرفة النتيجة فإن هذا يُحدث فرقًا كبيرًا. تتعارض هذه المفارقة مع التعليم المعزز الكلاسيكي الذي يتوقع أن الخيارات الموضوعية ينبغي أن تكون متماثلة دومًا. وعلى النقيض تأخذ ميكانيكا الكم عدم اليقين بعين الاعتبار، وتتوقع هذه النتائج الشاذة.

قال إيمانويل هافن وأندري كيرنيكوف، مؤلفا كتاب علم الكم الاجتماعي Quantum Social Science: «يمكن القول أن نموذج صناعة القرار المبني على الكم يشير أساسًا إلى استخدام الاحتمال الكمِّي في مجال الوعي».

تفترض ميكانيكا الكم أن الرمية الأولى للعملة النقدية يمكن أن ينتج عنها صورة ونقش في ذات الوقت (خسارة وربح معًا)، تمامًا مثلما قد يكون الإلكترون في مكانين مختلفين في نفس الوقت (ومثلما كانت قطة شرودنجر حية وميتة في نفس الوقت).

عندما نجد أنفسنا في هذه الحالة الغامضة، المعروف باسم التراكب superposition، يكون الخيار الثاني غير معروف وغير قابل للتوقع. تعترف ميكانيكا الكم بأن معتقدات الناس حول نتيجة قرار محدد -سواء كان هذا القرار جيدًا أم سيئًا- تعكس أحيانًا ما سوف يكونه خيارهم الأخير. تتفاعل معتقدات الناس مع بعضها بهذه الطريقة، أو تصبح متشابكةً entangled مع تصرفهم الأخير.

بإمكان الجسيمات دون الذرية كذلك أن تصبح متشابكةً وأن يؤثر كل منها في سلوك الآخر، حتى حين تكون متباعدةً عن بعضها بمسافات هائلة. مثلًا قد يغير قياس إلكترون موجود في اليابان سلوك الإلكترون المتشابك معه في الولايات المتحدة. يوجد تماثل جزئي في علم النفس بين المعتقدات والسلوك.

يقول هافن وكيرنيكوف: «إن هذا التفاعل بالتحديد، أو حالة التشابك، هو ما يؤثر على نتيجة القياس». تشير نتيجة القياس في هذه الحالة إلى القرار النهائي الذي يتخذه الفرد، ويمكن صياغة هذه الفكرة بدقة بمساعدة الاحتمال الكمِّي quantum probability.

استطاع العلماء صياغة حالة التشابك رياضيًّا (إذ يؤثر كل من الجسيمين في الآخر وإن كانت تفصلهما مسافة شاسعة). شُرح ذلك في تقرير نُشر سنة 2007، وبدرجة ملحوظة تتنبأ الصيغة الأخيرة بدقة بالنتيجة المتناقضة لمفارقة رمي العملة النقدية: «بالإمكان تفسير الهفوات المنطقية تفسيرًا أفضل من طريق استخدام منهج يستند إلى الكم»، وفق ملاحظة هافن وكيرنيكوف.

المراهنة على الكم

قارن زانغ وزملاؤه في دراستهم بين نموذجين لصناعة القرار يستندان إلى الكم وبين 12 نموذجًا في علم النفس الكلاسيكي، لتحديد أي منها يستطيع توقع سلوك الإنسان في اختبارات نفسية مختلفة. صُممت النظرية التي عُرفت باسم اختبارLowa Gambling لتقييم إمكانية تعلم الناس من أخطائهم وضبط استراتيجية صناعة القرار مع الوقت.

في ذلك الاختبار، سحب المشاركون ورقًا من 4 مجموعات مختلفة. تعطي كل بطاقة المشارك مبلغًا من المال أو تكلفه مبلغًا من المال، والهدف من اللعبة هو أن تكسب المال بأكبر قدر ممكن. تكمن الفكرة في كيفية تجميع كل مجموعة من الورق.

يعطي السحب من إحدى المجموعات المشارك قدرًا كبيرًا من المال في البداية، لكنه يكلفه المزيد من المال عند نهاية اللعبة. تُعطي مجموعات أخرى مقدارًا ضئيلًا من المال في وقت قصير، لكن يترتب عليها غرامات أقل عمومًا. تعلم الرابحون مع استمرار اللعبة أن يسحبوا من المجموعات التي تعطيهم أموالًا أقل لكنها مضمونة، في حين سحب الخاسرون من المجموعات التي تكسبهم أموالًا بسرعة ويترتب عليها غرامات باهظة.

تاريخيًّا، كان المقامرون ومدمنو المخدرات ومرضى تلف الدماغ يسجلون في اختبار Lowa Gambling نتائج أسوأ من المشاركين الأصحاء، ما قد يعني ضعف قدرات صناعة القرار لديهم، وجاء ذلك في دراسة نُشرت سنة 2014 في صحيفة علم نفس الأعصاب المطبّق. وتطابق ذلك مع نتائج تجربة زانغ، التي ضمَّت 60 مشاركًا بصحة جيدة و40 مشاركًا مدمنًا على النيكوتين.

لاحظ مؤلفو الدراسة أن النموذجين الكميين يقدمان توقعات أدق مما تقدمه النماذج الكلاسيكية. وأضافوا: «مع أن النماذج الكمِّية لا تتفوق على نحو ساحق على النماذج الكلاسيكية، ينبغي أن ندرك أن إطار التعليم الكمِّي المعزز ما زال في طور التكوين، ويتطلب دراسات إضافية دون أدنى شك».

أخذ الفريق صور مسح الدماغ لكل مشارك أنهى الاختبار لتقييم الدراسة. حاول الفريق بهذا إلقاء نظرة على ما كان يجري داخل أدمغتهم عندما كانوا يتعلمون ويضبطون استراتيجية ممارسة اللعب مع الوقت. توقعت نتائج النموذج الكمِّي اكتشاف عملية التعلم، وتوقع الباحثون نشاط مناطق معينة من الدماغ قد ترتبط بطريقة ما بتوقعات النماذج.

أظهر المسح نشاط عدة مناطق من الدماغ لدى المشاركين الأصحاء في أثناء اللعبة، من ضمنها عدة ثنيات في الفص الجبهي من المعروف أنها تشترك في عملية صناعة القرار.

أما في مجموعة المدخنين، فلا يرتبط أي من المناطق النشطة في الدماغ بتوقعات النموذج الكمِّي. استنتج المؤلفون أن ذلك قد يعني أن النموذج قد توقع قدرات المشاركين الأصحاء على التعلم من الأخطاء، في حين أوضح الاعتلال في صناعة القرار عند مجموعة المدخنين.

في كل الأحوال، توجد دراسات أخرى تستطيع تحديد ما تعكسه هذه الاختلافات في أنشطة الدماغ لدى المدخنين وغير المدخنين، ويضيف هافن وكيرنيكوف: «إن اقتران النماذج شبه الكمِّية مع العمليات العصبية النفسية في الدماغ هو إشكال مُعقد جدًّا. إن هذه الدراسة ذات أهمية قصوى باعتبارها الخطوة الأولى نحو حل ذلك الإشكال».

أظهرت نماذج التعليم المعزز الكلاسيكي نجاحًا باهرًا في دراسات المشاعر والاضطرابات النفسية والسلوك الاجتماعي والإرادة الحرة والكثير من الوظائف الإدراكية، وفق قول زانغ: «نأمل أن يسلط التعلم المعزز الكمِّي الضوء أيضًا على هذه المجالات، معطيًا رؤى فريدة».

ربما تساعد ميكانيكا الكم مع الوقت على تفسير الخلل المنتشر في المنطق البشري، إضافةً إلى تفسير كيفية ظهور هذه الثغرات على مستوى الخلايا العصبية الفردية.

اقرأ أيضًا:

ما هو الاحتمال الكمومي ؟ ومن أين يأتي؟

التشابك الكمومي عبر الزمن

ترجمة: هاني عبد الفتاح

تدقيق: سلمى عفش

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر