لنطرح التساؤل بطريقة أخرى: هل نسيج الزمكان كيان متصل smooth أم متقطع chunky؟ يتطرق هذا التساؤل إلى جوهر النظريات الأساسية في الفيزياء، ويربط بين الطريقة التي يتقاطع فيها الزمان والمكان مع المواد الأساسية في حياتنا اليومية.

مع ذلك يظل اختبار نسيج الزمكان تجريبيًا أمرًا مستحيلًا؛ نظرًا للطاقة العالية التي نحتاجها للبحث في مثل هذه المقاييس الصغيرة من الكون، هذا هو واقعنا حتى الآن، لكن فريقًا من رواد الفضاء اقترح خطةً جديدةً لاستخدام أسطول من المركبات الفضائية لاستكشاف التغيرات الطفيفة في سرعة الضوء، هي السمة المميزة لبعض أكثر النظريات المعقدة للكون. إذا كان نسيج الزمكان مقسمًا بالفعل إلى قطع صغيرة، فإن هذا البحث سيمهد الطريق لمعرفة جديدة كليًا بالواقع.

متصل أم متقطع؟

يعود التساؤل عن ماهية الزمان والمكان إلى آلاف السنين، وتستند معرفتنا الحديثة على ركيزتين بالغتي الغرابة في اختلافهما، ميكانيكا الكم quantum mechanics والنظرية النسبية العامة لأينشتاين Einstein’s theory of general relativity.

وفقًا للنسبية العامة، فإن الزمان والمكان مرتبطان في نسيج واحد هو الزمكان Space-time، وهو ما يشكل مجالًا رباعي الأبعاد يتكون منه كوننا، ونسيج الزمكان مستمر، ما يعني عدم وجود ثغرات أو ثقوب في أي مكان منه، إنه نسيج متشابك متصل؛ إذ إن نسيج الزمكان ليس فقط المنصة التي يوجد عليها الكون، بل هو أحد لاعبيها أيضًا، فالجاذبية ما هي إلا انحناء أو تشوه في هذا النسيج.

في المقابل، تحكم قوانين ميكانيكا الكم تفاعلات العناصر بالغة الصغر في الكون. تستند ميكانيكا الكم إلى فكرة أن عددًا غير قليل مما نختبره يوميًا ليس متصل أو مستمر، بل متقطع؛ بمعنى آخر، إنه كمي quantized، إذ إن الطاقة والزخم والدوران وغير ذلك من خواص المادة وُجدت في صورة حزم منفصلة.

ماذا لو كان نسيج الزمكان متقطعًا؟ سيتغير الواقع إلى الأبد - هل نسيج الزمكان كيان متصل smooth أم متقطع chunky؟ - الزمان والمكان

إضافةً إلى ذلك، تنقسم ميكانيكا الكم إلى قسمين. في القسم الأول، نجد الجسيمات الأساسية التي نقابلها يوميًا، مثل الإلكترونات والبروتونات، التي تتفاعل وتقوم بالعديد من الأمور المثيرة للاهتمام، إنها حتمًا متقطعة تمامًا، فهي «أشياء» منفصلة.

أما في القسم الثاني، فنجد الحقول الكمية quantum fields، ففي العالم دون الذري، لكل نوع من الجسيمات حقله الخاص الذي ينتشر في نسيج الزمكان. عندما ندرس الجسيمات، فإننا نفكر في الاهتزازات الصغيرة لتلك الحقول، التي بدورها تتفاعل مع الجسيمات الأخرى؛ لتقوم بالعديد من الأشياء الرائعة، ومن الواضح أن هذه الحقول متصلة.

أجزاء الزمان والمكان

الآن أصبح لدينا تصور عما نقصده بالمتصل والمتقطع في كوننا، وعندما نتحدث عن نسيج الزمكان ذاته، يمكن لنا أن نتخيل بسهولة تطبيق مفاهيم ميكانيكا الكم وصولًا إلى استنتاج منطقي، وهو أن الزمان والمكان مُقطعان، إذ إن النسيج الحقيقي مقسّم، مثل البكسلات على شاشة الحاسوب، فما نراه في صورة حركة مستمرة متواصلة ما هو إلا شبكة من البكسلات المنفصلة على مقاييس أصغر.

تتوقع العديد من النظريات التي توفق بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة، مثل نظرية الأوتار string theory والجاذبية الكمية الحلقية loop quantum gravity، بعض الأشكال من نسيج الزمكان المنفصل، مع أن التوقعات الدقيقة والتفسيرات والتأثيرات لفكرة التقطع ما زالت غير مفهومة تمامًا، لكن إذا تمكنا من إيجاد الدليل على تقطع نسيج الزمكان، فلن يكون ذلك بدايةً لإعادة صياغة معرفتنا بواقعنا الكوني فحسب، بل سيفتح الباب لثورة في عالم الفيزياء.

لا يمكن لصفة التقطع هذه أن تُكشف إلا عبر أدق الطرق، وإلا لاكتشفناها بالفعل، تتوقع النظريات المختلفة أنه إذا كان نسيج الزمكان متقطعًا بالفعل، فلن تكون سرعة الضوء ثابتة تمامًا عبره، بل ستتغير قليلًا اعتمادًا على طاقة الضوء، إذ إن الضوء الأعلى طاقةً له طول موجة أقصر، وعندما يصبح طول الموجة قصيرًا كفاية، يمكن حينها أن يتأثر بتقطع النسيج الكوني.

لتفهم ذلك، تخيل أنك تسير على رصيف المشاة، وقدمك كبيرة لدرجة تجعلك لا تلاحظ الشقوق والنتوءات فيه، لكن إذا كان لديك قدمًا مجهرية، حينها ستسافر في رحلة صغيرة على كل خلل في الرصيف؛ ما يعني أنك ستلاحظها وتتأثر بها، ما يجعلك تُبطئ من سرعتك. إلا إن هذا التغير صغير لدرجة لا تُصدق، فإذا كان نسيج الزمكان مقطعًا، فسيكون هذا التقطع على مقياس أصغر بمليارات المرات مما يمكن لنا ملاحظته في أكثر تجاربنا دقة.

البحث عن المستحيل

استجابةً لدعوة وكالة الفضاء الأوروبية ESA للبحث عن أفكار جديدة لاستكشاف نسيج الزمكان، قدم فريق من علماء الفلك مقترحًا لمهمة مختبر أشعة غاما لعلم الفلك لاستكشاف نسيج الزمكان كميًا GrailQuest، ووُضع اقتراحهم في قاعدة بيانات موقع arXiv، ما يعني بأنه لم يُراجع بعد من قِبل خبراء المجال.

إن الهدف المأمول تحقيقه من مهمة GrailQuest، هو جمع كم هائل من الضوء الأعلى طاقةً في الكون، لنرى ما إذا كانت سرعة الضوء تتغير مع تغير الطاقة.

تتكون مهمة GrailQuest المزمعة من أسطول من المركبات الفضائية البسيطة (العدد الدقيق غير محدد بعد، قد يكون بضع عشرات إذا استخدمنا الأقمار الصناعية الكبيرة وقد يصل إلى بضعة آلاف إذا كانت صغيرة)؛ بهدف مراقبة دفقات أشعة غاما في الفضاء، وهي أحد أكثر الانفجارات طاقةً.

تحرر هذه الدفقات كميات كبيرة من الفوتونات عالية الطاقة، المعروفة باسم أشعة غاما، وتسافر أشعة غاما لملايين السنين قبل أن تصل إلى أسطول المركبات الفضائية (كما هو مخطط)، الذي يسجل طاقتها والاختلافات في زمن وصولها إلى الأسطول.

ربما تصبح مهمة GrailQuest -إذا حققت الدقة المطلوبة- قادرةً على اكتشاف ما إذا كان نسيج الزمكان متقطعًا، إن لديها على الأقل الأسس الصحيحة لتحقيق ذلك:

  •  يختبر الأسطول الضوء الأعلى طاقةً، وهو الأعلى تأثرًا وفقًا للنظريات التي تزعم انفصال نسيج الزمكان.
  •  تسافر أشعة غاما لملايين السنين، ويتراكم تأثيرها مع الوقت.
  •  المركبات الفضائية بسيطة كفاية لكشف ذلك التأثير بشكل جماعي، لذلك يمكن للأسطول بأكمله أن يكشف أكبر عدد ممكن من الأحداث في الفضاء.

إذا عثر GrailQuest على أدلة تُثبت تقطع نسيج الزمكان، كيف سيتغير مفهومنا للكون؟ يمكن القول أنه ستتغير نظرياتنا الحالية، ولكن سيكون علينا الانتظار، فهذه المهمة من المقرر ألا تنطلق قبل الفترة بين عامي 2035 و2050، وبينما ننتظر، يمكن لنا نقاش ما إذا كان الوقت من الآن وحتى ذلك الحين متصلًا أو متقطعًا.

اقرأ أيضًا:

الزمكان – كيف فسرت نظرية النسبية العامة الجاذبية ؟

ما هي المتفردة الزمكانية؟

ترجمة: فارس بلول

تدقيق: أكرم محيي الدين

المصدر