المركنتالية Mercantilism هي نظام اقتصادي مرتبط بالتجارة، انتشر في أوروبا بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وارتكز على مبدأ محدودية الثروة في العالم، وأدى إلى اتجاه العديد من الدول الأوروبية إلى تكديس أكبر نصيب ممكن من تلك الثروة، وذلك بالعمل على زيادة صادراتها وتقليص وارداتها عن طريق التعريفات الجمركية.

ميناء عند الشروق Seaport at sunrise، لوحة للرسام الفرنسي كلود لورين Claude Lorrain عام 1639، تمثل ميناء فرنسي في أوج المركنتالية

ميناء عند الشروق Seaport at sunrise، لوحة للرسام الفرنسي كلود لورين Claude Lorrain عام 1639، تمثل ميناء فرنسي في أوج المركنتالية

تاريخ المركنتالية

انتشرت المركنتالية في أوروبا خلال القرن السادس عشر، واعتمدت على فكرة أن الوسيلة المُثلى لزيادة ثروة الدول وقوتها هي زيادة الصادرات، وجمع المعادن الثمينة مثل الذهب والفضة.

حلت المركنتالية محل النظام الإقطاعي في دول أوروبا الغربية، وكانت إنجلترا حينئذ مركز الإمبراطورية البريطانية، إلا أنها كانت فقيرة نسبيًا في الموارد الطبييعة، ولكي تنمي من ثروتها، اعتمدت السياسات المالية التي تحد من قدرة سكان المستعمرات على شراء البضائع الأجنبية، وتحفزهم على شراء البضائع البريطانية فقط.

من أمثلة ذلك، قانون السكرthe Sugar Act الذي صدر سنة 1764، وفرض رسومًا على الواردات الأجنبية من السكر المكرر والمولاس عند استيرادهما من قِبل المستعمرات، وذلك لدعم زراعة قصب السكر في جزر الهند الغربية West Indies واحتكار تجارته بين المستعمرات.

وأيضًا قانون الملاحة the Navigation Act سنة 1651، الذي منع السفن الأجنبية من التجارة على امتداد السواحل البريطانية، وألزم البضائع الواردة من المستعمرات بالاتجاه أولًا إلى بريطانيا، قبل أن يُعاد إرسالها إلى الدول الأوروبية الأخرى. أدت تلك القوانين إلى أن يكون الميزان التجاري في صالح بريطانيا، ما ساعد على زيادة ثروتها القومية.

في ظل المركنتالية، اعتمدت الدول على القوة العسكرية من أجل حماية الأسواق المحلية والموارد، ولدعم مبدأ ارتباط سلامة الاقتصاد الوطني بمصادر رأس المال. من مبادئ المركنتالية أن ما تملكه الدولة من معادن نفيسة، مثل الذهب والفضة، يُعد مقياسًا لقوة اقتصادها، ومن نتائج ذلك: التوسع في إنشاء المنازل الحديثة، وزيادة الإنتاج الزراعي، وظهور أساطيل تجارية قوية ساعدت على فتح أسواق جديدة أمام السلع والمواد الخام.

كولبير: نموذج المركنتالية

يُعتبر جان بابتيست كولبير Jean-Baptiste Colbert (1619-1683) رئيس وزراء فرنسا (1661-1683) أحد أهم مؤيدي المركنتالية وأكثرهم تأثيرًا. درس كولبير النظريات الاقتصادية المرتبطة بالتجارة الدولية، وأتاح له منصبه تنفيذ أفكاره، وبسبب كونه ملكيًا متعصبًا، اعتمد سياسات اقتصادية تهدف إلى حماية التاج الفرنسي من طبقة التجار الهولندييين الصاعدة.

وإيمانًا منه بأهمية السيطرة على خطوط الملاحة الدولية، سعى كولبير إلى تدعيم قوة الأسطول الفرنسي بهدف استخدامه في تنمية الاقتصاد. في النهاية، ثبت فشل مثل هذه الأساليب، إلا أنها كانت ذائعة الصيت، واستمرت طويلًا إلى أن طغت عليها مبادئ السوق الحرة.

المركنتالية الاستعمارية البريطانية

كان للسياسات المركنتالية البريطانية على مستعمراتها تأثيرات مباشرة وأخرى غير مباشرة، ومن أمثلة ذلك:

 الإنتاج والتجارة الموجهان

تبنت المركنتالية العديد من القيود التجارية، التي أدت إلى الحد من نمو وحرية الأعمال التجارية في المستعمرات.

 ازدهار تجارة الرقيق

أدت الروابط التجارية التي نشأت بين الإمبراطورية البريطانية ومستعمراتها والأسواق الأجنبية، إلى ازدهار تجارة الرقيق في المستعمرات، كما حدث في أمريكا. أمدت المستعمرات الدول الإمبريالية في أفريقيا بحاجتها من الروم والقطن وغيرهما من المنتجات، وجُلب العبيد إلى المستعمرات في أمريكا وجزر الهند الغربية مقابل السكر والمولاس.

المركنتالية: النزعة التجارية - كيف يمكن لدولة ما تقليص وارداتها وزيادة صادراتها؟ - ما هي تأثيرات التعريفات الجمركية على اقتصادات الدولأدت المركنتالية إلى ظهور نمط التجارة الثلاثية في شمال المحيط الأطلسي، وفيها تنقل المواد الخام إلى الدول الأوربية، ويعاد توزيعها في صورة منتجات مصنعة على المستعمرات

 التضخم والنظم الضريبية

بسبب السعي إلى أن يكون الميزان التجاري في صالحها، ألزمت الحكومة البريطانية المستعمرات باستخدام الذهب والفضة في التجارة معها، ما أدى إلى نقص سبائك المعدنين في المستعمرات، ولذلك لجؤوا إلى استخدام العملات الورقية، ولكن تسبب سوء إدارة العملات المطبوعة في حدوث التضخم.

هذا إلى جانب فرض الحكومة البريطانية الضرائب الباهظة على المستعمرات لدعم الجيش والأسطول، بسبب كونها في حالة حرب دائمة أكثر الوقت. تسبب التضخم مع الضرائب الباهظة في حالة استياء عارمة في المستعمرات.

المركنتالية والثورة الأمريكية

يحتج أنصار المركنتالية بأنها أدت إلى نشوء اقتصادات أقوى من خلال الربط بين أهداف المستعمرات وأهداف الدول المؤسِسة. نظريًا، عندما ينتج المستعمرون بضائعهم الخاصة ويبادلونها ببضائع أخرى عن طريق التجارة مع الأوطان المؤسِسة، فإنهم يبقون مستقلين عن تأثير الدول المعادية، وفي نفس الوقت، تستفيد الدول المؤسِسة بكم هائل من المواد الخام الواردة من المستعمرات والضرورية لقطاعها الصناعي.

على الجانب الآخر، آمن منتقدو المركنتالية بأن القيود على التجارة الدولية قد زادت من النفقات، إذ إن واردات المستعمرات، أيًا كان منشؤها، تشحنها السفن بريطانية من بريطانيا، ما أدى إلى تحمل سكان المستعمرات تكلفة هائلة على الواردات، فأدركوا أن سلبيات المركنتالية تفوق ميزات الانتماء إلى بريطانيا العظمى.

كانت الإمبراطورية البريطانية متعطشة لسد العجز في إيراداتها بعد حربها المكلفة مع فرنسا، فرفعت الضرائب على سكان المستعمرات، الذين تمردوا على تلك الضرائب بمقاطعة البضائع البريطانية، ما أدى إلى انخفاض واردات المستعمرات بمقدار الثلث.

تلا ذلك حادثة حفل شاي بوسطون the Boston Tea Party سنة 1773، إذ تنكر مستوطنون من بوسطون بزي الهنود وأغاروا على ثلاث سفن بريطانية، وألقوا بحمولتها المكونة من المئات من صناديق الشاي في الميناء، احتجاجًا على الضرائب البريطانية على الشاي والاحتكار الممنوح لشركة الهند الشرقية the East India Company، وفي محاولة منها لتعزيز سيطرتها التجارية، صعّدت بريطانيا من إجراءاتها ضد المستعمرات، ما أدى في النهاية إلى اندلاع حرب الاستقلال الأمريكية.

المركنتالية والتجار

مع بداية القرن السادس عشر، أدرك المُنظرون الماليون في أوروبا أهمية طبقة التجار في إنتاج الثروة، إذ ازدهرت التبادلات التجارية بين المدن والبلدان في أواخر العصور الوسطى.

ولذلك ساد الاعتقاد أن على الدولة منح امتيازات لتجارها الرئيسيين، وذلك بمنحهم عقودًا cartels واحتكارات حصرية تحت سيطرة الحكومة، وتستخدم الحكومة التشريعات والمساعدات والقوة المسلحة إذا لزم الأمر لحماية شركاتها الاحتكارية من المنافسة المحلية والأجنبية، وأصبح بإمكان المواطنين استثمار أموالهم في تلك الشركات مقابل أسهم ملكية ومسؤوليات محدودة، ومُنحوا حصصًا من الأرباح في ما يُعد أول تداول لأسهم الشركات.

يعتبر بعض الباحثين أن المركنتالية هي سلف الرأسمالية، إذ أرست مبادئ النشاط الاقتصادي مثل مبادئ الربح والخسارة.

كانت شركة الهند الشرقية البريطانية، ونظيرتها الهولندية، أشهر وأقوى نماذج تلك الشركات التجارية. حصلت الشركة البريطانية على حق التجارة حصريًا بين بريطانيا والهند والصين، وكفلت البحرية الملكية البريطانية بحماية طرقها التجارية لأكثر من 250 عامًا.

المركنتالية والإمبريالية

بينما تلاعبت الحكومات المركنتالية باقتصادات الأمم لخلق توازنات تجارية لصالحها، استخدمت الامبريالية مزيجًا من القوة العسكرية والهجرة الجماعية لفرض المركنتالية في الأقاليم الأقل نموًا لإجبارهم على الخضوع للدول الأقوى. يُعد إنشاء بريطانيا للمستعمرات الأمريكية من أوضح الأمثلة على العلاقة بين المركنتالية والإمبريالية.

المركنتالية والتجارة الحرة

تمنح التجارة الحرة مزايا عديدة للأفراد والشركات والدول أكثر مما تمنحه المركنتالية، ففي إطار التجارة الحرة، يستفيد الأفراد من وجود خيارات متعددة في المنتجات المتاحة لهم، بينما تقيد المركنتالية الاستيراد وتسمح بخيارات أقل، لأن وارادت أقل تعني منافسة أقل وأسعارًا أعلى.

وبينما اشتبكت الدول المركنتالية دومًا في حروب من أجل الموارد، ازدهرت الدول التي تبنت نظم التجارة الحرة بواسطة الفوائد التي جنتها من إقامة علاقات التبادل التجاري.

أشار أسطورة الاقتصاد آدم سميث Adam Smith في كتابة الرائد ثروة الأمم The Wealth of Nations إلى كيف أن التجارة الحرة تمكن الشركات من التخصص في إنتاج سلع معينة بكفاءة أكبر، ما يسمح بزيادة الإنتاج والنمو الاقتصادي.

اليوم، تُعتبر المركنتالية نظامًا عتيق الطراز، ومع ذلك، فإن القيود على التجارة ما زالت موجودة بغرض حماية الصناعات المحلية، ومن أمثلة ذلك تبني الولايات المتحدة سياساتٍ تجارية وقائية ضد المنتجات اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، وفرض قيود على الحكومة اليابانية أدت إلى الحد من صادرات اليابان إلى الولايات المتحدة.

اقرأ أيضًا:

ما هي النيوليبرالية ؟

ما هو الاقتصاد الموجه ؟

ترجمة: أحمد السقا

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: اسماعيل اليازجي

المصدر