هل سبق لك أن تساءلت: كيف تتمكن طبيبة مُحنكة من أن تفطن بسهولة إلى دلالة ظل عابر في صورة الأشعة السينية لمريض بينما يفوت ذلك متدرب حديث الخبرة؟! هل انتبهت من قبل أنك تستطيع قراءة جملة ما دون ملاحظة وجود حررف زائد في إحدى كلماتها كما يُحتمل أن تكون قد فعلت في هذه الجُملة؟ إن كنت قد وقعت في هذه الخدعة، لا عليك عزيزي القارئ، فأنتَ لست غافلًا، فقد قام جهازك العصبي بذلك.

منذ أمد بعيد تخبرنا الأبحاث المختلفة أن ما يُطلق عليه “الخبرات المُسبقة” والتي اجتزناها في الماضي هي التي تساعدنا على فهم وإدراك المجهول الذي نواجهه اليوم، إذ تُمزج المعلومات الجديدة -والتي قد لا تكون كافيةً- بالمعرفة القديمة فيما يُسمى في الأوساط العلمية الدمج البايزي Bayesian integration تلك العملية التي تمتلك نصيب الأسد في التحكم في أفكارنا وتصوراتنا وسلوكياتنا، عندما يلتبس علينا أمر ما فإننا نلجأ تلقائيًا لخبراتنا المُسبقة كي نضبط تصرفنا.

منذ أيام قليلة، رصد الباحثون في معهد ماكغافرن لبحوث الدماغ التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إشارات دماغية خاصة تحوي تشفيرًا لخبراته المُسبقة، كما توصلوا إلى الطريقة التي يستخدمها جهازك العصبي المتمثل في الدماغ بواسطة هذه الإشارات في اتخاذ القرار الحكيم رغم عدم توفر المعلومات اللازمة لذلك.
التجربة

دَرّب الفريق البحثي الذي قاده مهرداد جزائري عددًا من الحيوانات على مشاهدة ثلاث ومضات ضوئية متتالية، إذ يراقب الحيوان الومضة الأولى: ومضة استعد Ready، والومضة الثانية: تأهب Set، ثم يبدي رد فعل فور إعطاءه الومضة الثالثة: انطلق Go.

قسَم الفريق الفترات الزمنية بين الومضتين الأولى والثانية إلى نوعين، إما فترة زمنية قصيرة بين 480 و800 ملي ثانية، أو فترة زمنية طويلة بين 800 و1200 ملي ثانية، بينما كانت الفترة الزمنية بين الومضتين الثانية والثالثة ثابتةً. غيّر الباحثون الفترة الزمنية بين الومضة الأولى والثانية لكي يتغير توقع الحيوان للفترة الزمنية التالية لها، وشاهدوا النتيجة.

جهازك العصبي يحتفظ بخبراتك السابقة ليغير تصرفاتك القادمة دور الجهاز العصبي في عملية التذكر والتعليم الهندسة العكسية الخلايا العصبية

يمثل إجراء هذه المهمة تحديًا كبيرًا؛ نظرًا لأن الشعور بالوقت يفتقر عادةً إلى الدقة؛ فإما أن يكون أسرع أو بشكل أكثر بطءًا. بالنسبة لنا نحن البشر تكون الاستراتيجية المُثلى هي الانحياز للاستجابة عند منتصف هذه الفترة الزمنية المتوقعة، المفاجأة أن هذا ما فعلته الحيوانات في التجربة بالضبط.

على سبيل المثال، عندما توقعت الحيوانات أن الفترة الزمنية ستكون قصيرة ثم أُعطيت فترة زمنية مقدارها 800 ملي ثانية استجابت برد فعل بعد فترة زمنية أقصر قليلًا من 800 ملي ثانية، وعلى النقيض من ذلك، عندما توقعت أن تلك الفترة ستكون أطول أنتجت رد فعل بعد فترة زمنية أطول قليلًا من 800 ملي ثانية.

خلال التجربة، رصد الباحثون نحو 1400 خلية من الجهاز العصبي مسؤولة عن الزمن في منطقة القشرة الجبهيّة الأماميّة للحيوانات، وبتحليل تطور النشاط العصبي لهذه الخلايا تبين أن التوقعات المُسبقة ضللت تمثيل الزمن في 60% من تلك الخلايا ما جعل أنماط النشاط العصبي تنحاز للتوقع بأن الفترات الزمنية القادمة ستكون ضمن الفترة الزمنية المتوقعة! ما أثر على الاستجابة السلوكية لها وجعلها تستجيب عند منتصف الفترة الزمنية المتوقعة!

يشير ميت لينجييل أستاذ علم الأعصاب الحاسوبي بجامعة كيمبريدج إلى أهمية هذا الاكتشاف قائلًا: «لم نر من قبل مثالًا ملموسًا كهذا عن كيفية استغلال الدماغ للخبرات المُسبقة لتعديل الديناميكيات العصبية Neural Dynamics والتي تُولَّد من خلالها متواليات من الأنشطة العصبية لتصحح من أخطائها.

يميّز ذلك هذه الورقة البحثية عن غيرها فقد جمعت بين التصور والديناميكات العصبية وحسابات الدمج البايزي في عمل واحد متسق مدعوم بقياسات السلوك مع الأنشطة العصبية«.

لم يكتف الباحثون بهذا، فقد طوروا نموذجًا حاسوبيًا يحاكي شبكة من الخلايا العصبية قادرًا على أداء نفس التجربة السابقة، وتمكنوا من ضبط هذا النموذج الحاسوبي ليحاكي سلوك الحيوانات.

تكمن الأهمية البالغة لهذه النماذج في كونها تمهد الطريق نحو التحليل التفصيلي لأليات عمل هذه الخلايا العصبية والموصلات، عن طريق تطبيق عملية يُطلق عليها اسم الهندسة العكسية Reverse Engineering.

ما يلفت النظر هو أن النموذج الحاسوبي المُحاكي للخلايا العصبية للحيوانات أدى التجربة بنفس الطريقة التي فعلتها أدمغة القرود! وقد تشوه أيضًا السلوك الحاسوبي بناء على الخبرة المُسبقة.

يقول جزائري قائد الدراسة: »يبدو أن الدماغ يُدخِل الخبرات المُسبقة ضمن الموصلات التشابكية synaptic connections ما يتسبب في ذلك التحيز الحادث لأنماط الأنشطة الدماغية«.

يعتزم الباحثون حاليًا دراسة كيفية تكوين الدماغ للموصلات المشبكية وتشذيبها تدريجيًا، تلك الموصلات التي تُشفر خبراتنا السابقة وتسمح لها بالتأثير على تصرفاتنا.

اقرأ أيضًا:

كيف يميل العقل وينحاز لفكرة أو معتقد معين؟

كيف تحمي دماغك من الأخبار المزيفة؟

كيف تحل أعظم العقول المشاكل؟

ترجمة: فابيان أيوب

تدقيق: عون حداد

مراجعة: آية فحماوي

المصدر