كانت إمبراطورية الإنكا مزدهرة في منطقة الأنديز في جنوب أمريكا ما بين بداية القرن الخامس عشر بعد الميلاد إلى غاية الغزو الإسباني للمنطقة في سنة 1530. استمر قادة الإنكا في مقاومة الإسبان حتى بعد الغزو إلى غاية سنة 1572، حين سقطت آخر مدينة للإمبراطورية، وهي فيلكابامبا (البيرو حاليًا).

بنى شعب الإنكا إمبراطوريتهم التي أطلقوا عليها اسم “توانتينسويو” أو “أرض الزوايا الأربعة”، دون الحاجة إلى عجلات أو حيوانات سحب قوية أو تعدين الحديد أو عملات نقدية، بل حتى إنهم لم يمتلكوا ما يمكن تسميته بنظام كتابة حقيقي. امتدت الإمبراطورية من الأرجنتين حاليًا إلى غاية جنوب كولومبيا، وكانت مقسمة إلى أربع “سويو” أو مناطق تتقاطع عند العاصمة “كوزكو”. وكانت تلك “السويو” بحد ذاتها مقسمة إلى عدة مقاطعات.

تقبع مدينة “ماتشو بيتشو” بين جبال الأنديز لما يسمى بدولة البيرو حاليًا وحوض الأمازون، وتعتبر من أشهر مدن الإنكا التاريخية والمواقع الأثرية للإمبراطورية التي نجت من الدمار أو الضياع.

تلك المدينة التي تقطع الأنفاس عند رؤيتها مكونة من حوالي 200 بناية وضعت على أعلى الجبال، ولا تزال طريقة بنائها وحقيقتها محيرة للغاية. لا يعلم علماء الآثار عن جدوى كل تلك البنايات، لكن الطرق المعقدة وقنوات الري والمساحات الزراعية المنتشرة في المدينة تشير إلى استخدام البشر للموقع لمدة طويلة حسب منظمة اليونيسكو.

أصل شعب الإنكا وانتشارهم

يُعتقد أن أصل إمبراطورية الإنكا هو مدينة كوزكو التي تقع جنوب ما يسمى اليوم بدولة البيرو.

تقول بعض القصص الميثولوجية أن الإنكا قد خُلقت على يد إله الشمس، الذي يطلق عليه “إنتي”، والذي أرسل ابنه “مانكو كاباك” إلى الأرض. تقول الأسطورة أن هذا الأخير قد قتل إخوته ثم قاد أخواته إلى وادٍ بالقرب من كوزكو، حيث استقروا هناك في سنوات 1200 بعد الميلاد تقريبًا حسب موقع (History.com).

كانت كوزكو تقع في نقطة اتصال بين إمبراطوريتين سابقتين، الأولى هي إمبراطورية “واري” والثانية كانت قاعدتها في مدينة “تيواناكو”. حسب ماك إيوان (McEwan) في كتابه “الإنكا: آفاق جديدة”، الشيء الذي سمح للإنكا بالانتشار هو توفر البنايات في تلك المناطق أساسًا، أشياء مثل الطرقات الكبيرة وأنظمة المياه كانت قد تركتها الإمبراطوريات السابقة من خلفها.

بدأ توسع إمبراطورية الإنكا في عصر الإمبراطور الرابع “مايتا كاباك”، لكنها لم تصل إلى ذروتها حتى وصول الإمبراطور الثامن “فيراكوشا إنكا”، إذ بدأ هذا الأخير بترك قوات عسكرية في المدن من أجل الحفاظ على الأمن.

يقترح تاريخ الإنكا الشفهي المسجل من طرف الإسبان، أن انتشار الإنكا بدأ بجدية خلال فترة حكم الإمبراطور “باتشاكوتي إنكا يوبانكي” ابن “فيراكوشا إنكا” والذي حكم ما بين 1438 إلى غاية 1471.

عمل شعب الإنكا بجهد في الأمور الدبلوماسية، وحاولوا دائمًا دفع منافسيهم إلى الاستسلام بطريقة سلمية قبل اللجوء إلى العمل العسكري، حسب تيرينس دالتروي (Terence D’Altroy) عالم الأنثروبولوجيا بجامعة كولومبيا – الولايات المتحدة.

كوزكو: عاصمة امبراطورية الإنكا

أمر باتشاكوتي بإعادة بناء العاصمة كوزكو وتقويتها. كما زعم أنه قام برفع المدينة برمتها لكي يعاد بناؤها على شكل أسد الجبال (Puma).

يكتب ماك إيوان في هذا الصدد: «مُثِّل شكل الحيوان في المدينة، حيث تُشكل المباني السكنية الجسم… الغابة العظيمة أو المعبد على الهضبة فوق كوزكو تشكل رأسه، والتقاء نهري تولو وسافي يشكل الذيل».

ويضيف كذلك أن عوام الناس لم يكن يُسمح لهم بالعيش في المدينة، وكان عليهم السكن في المستوطنات النائية. من بين أروع المباني الدينية في كوزكو كان معبد الشمس، الذي يطلق عليه اسم “كوريكانشا” والذي يعني منزل الذهب.

قام الإسبان بنهب الذهب لاحقًا وبناء مدينة جديدة فوق كوزكو. في حين لم تطور الإنكا ما يمكننا تسميته بنظام كتابة معين، إلا أنهم استخدموا أجهزة للتسجيل، مثل ما يطلق عليه “كيبو”، وهو عبارة عن حبل مع سلاسل معلقة عليه. معظم الكتابات حول الإنكا تأتي من أشخاص أجانب بسبب نشر الإنكا للمعرفة فيما بينهم شفهيًا.

دين الإنكا والتضحيات

حسب ماك إيوان، كان للإنكا مجموعة متنوعة من الآلهة، على غرار الإله الخالق “فيراكوشا” وإله الشمس “إنتي” وإله الرعد “إلابا” وإلهة الأرض “باشاماما”، من بين آلهة كثيرة أخرى.

كما نجد آلهة محلية كذلك كان تعبَد من طرف الشعوب التي قام الإنكا بغزوهم.

أظهر شعب الإنكا تقديسهم لآلهتهم على عدة أشكال، من بين ذلك الصلوات والصيام والتضحية بالحيوانات، لكن أكثر أنواع الشرف كانت التضحية بالبشر، خصوصًا بالأطفال والمراهقين.

اكتشف علماء آثار في سنة 1999 ثلاثة مومياءات لأطفال تمت التضحية بهم في ضريح قرب قمة بركان في الأرجنتين. فتاة مراهقة تعرف اليوم بالعذراء تبدو وكأنها التضحية الرئيسية إلى جانب فتاة أخرى وصبي. كشفت الأبحاث أن الأطفال الثلاثة كانوا قد تلقوا حمية غذائية خاصة غنية بالذرة ولحم اللاما المجفف، كما تم تخديرهم بأوراق الكوكا والكحول.

التحنيط والمومياءات لدى الإنكا

كان التحنيط جزءًا هامًا من تقاليد الدفن في إمبراطوية الإنكا، حتى بالنسبة لعوام الناس.

قام رجل من الأنديز يدعى جوامان بوما (Guaman Poma) بعد الغزو الإسباني بنشر سجلات تاريخية، يصف فيها نوفمبر بـ “شهر حمل الموتى”، حيث يحاول الناس في ذلك الشهر تغذية مومياءات أسلافهم.

«في هذا الشهر يخرِجون الموتى من مخازنهم التي تسمى بالبوكولو ويعطونهم الغذاء والشراب ويلبسونهم أفضل ما يملكون من ألبسة… يغنون ويرقصون معهم… يمشون معهم من منزل إلى منزل عبر الطرقات والساحة».

ويشير كروجل ( Krögel) إلى أنه بينما يُمنح الغذاء لمومياءات عامة الناس في مناسبات خاصة فحسب، فمومياءات العائلات الملكية تحصل على أطباق خاصة بها يوميًا (بما في ذلك بيرة الذرة).

الطعام، الاحتفال وافتقار حضارة الإنكا للعملات

تعتبر الذرة واللحم من أطعمة النخبة لدى شعب الإنكا. بالإضافة إلى تلك الأطعمة نجد أمورًا أخرى في الحمية الغذائية للإنكا بما في ذلك البطاطا الحلوة والكينوا والفلفل الحار.

إمبراطورية الإنكا الغزو الإسباني لأمريكا الجنوبية حضارة من أمريكا الجنوبية جبال الأنديز مدينة ماتشو بيتشو القديمة مدينة كوزكو

كانت تقدم حكومة الإنكا الطعام للسكان مقابل عملهم، وذلك في فترة معينة من السنة.

يقول ماك إيوان في هذا الصدد: «من الأمور غير المعتادة في اقتصاد الإنكا هو افتقاره لنظام السوق والأموال». وبوجود استثناءات قليلة، لم يكن هناك باعة في إمبراطورية الإنكا. «كل مواطن في الإمبراطورية يحصل على أساسيات الحياة من مخازن المدينة، بما في ذلك الطعام والأدوات والمواد الخام والملابس ولم يكن عليهم شراء أي شيء».

لم يكن هنالك محلات أو أسواق، ومن ذلك «لم يكن هنالك حاجة لعملة تقليدية أو أموال» كما يقول ماك إيوان.

فن وهندسة الإنكا

قام شعب الإنكا بصناعة أشياء رائعة من الذهب والفضة، ولعل أبرز المجالات التي تُبرز فنون شعب الإنكا كان المنسوجات.

يقول ماك إيوان: «فوق كل شيء، كانت الملابس عزيزة للغاية على الإنكا وكانت تمثل أعظم انجازاتهم الفنية». وكانت أفضل درجة من الملابس تسمى بـ “كومبي”، وتخصص للإمبراطور والنبلاء.

كانت قدرات صناعة الحجارة لدى الإنكا رائعة كذلك، إذ رفع حرفيوها الحجارة فوق بعضها بشكل مثالي دون استخدام الملاط، لدرجة عدم إمكانية مرور شيء رقيق للغاية بينها مثل موس الحلاقة.

سقوط امبراطورية الإنكا على يد الإسبان

وصلت الإمبراطورية إلى ذروة قوتها بعد غزوات الإمبراطور هيوايا كاباك، الذي حكم ما بين 1493 و 1527.

في ذلك الوقت، ضمت الإمبراطورية حوالي 12 مليون نسمة من حدود الإكوادور وكولومبيا إلى 80 كيلومتر جنوب ما يعرف اليوم بسانتياغو عاصمة تشيلي. من أجل دعم الإمبراطورية، انتشرت الطرقات على طول 40.000 كلم، حوالي ثلاثة أضعاف قطر الأرض.

كان الإسبان معجبين للغاية بما رأوه عندما غزوا إمبراطورية الإنكا. يقول ماك إيوان: «كانت مدن الإنكا بحجم مدن أوروبا، لكنها كانت أكثر تنظيمًا ودون شك أكثر نظافةً وأفضل مكانًا للعيش». في حقيقة الأمر، كانت أنظمة الطرقات وقنوات المياه أكثر تطورًا عند الإنكا مقارنةً بنظيراتها الأوروبية في ذلك الزمن.

من الجانب الآخر، جلب الإسبان معهم أقوى أسلحتهم وأكثرها فتكًا ــ الأمراض التي لم يتعرض لها شعب الإنكا من قبل أبدًا. قضى الجدري على الكثير من سكان الإنكا، بما في ذلك كاباك والشخص الذي قام باختياره لخلافته.

بعد موت كاباك، تقاتل قريبه وابنه على السلطة، حيث تفوق “أتاهوالبا” في النهاية. لكن القائد الإسباني “فرانشيسكو بيزارو” تمكن من إلقاء القبض على أتاهوالبا، ليقوم بقتله والاستيلاء بسهولة على مدينة كوسكو باستخدام أسلحته الأكثر تطورًا.

قام الإسبان الذين أرادوا إقامة السلم مع السكان الأصليين بتنصيب “ملكٍ دمية”، هو “مانكو إنكا يوبانكي”. لكن في نهاية المطاف اضطر هو ورجاله إلى الذهاب نحو مدينة في الأدغال يطلق عليها اسم فيلكابامبا، آخر قطعة من إمبراطورية الإنكا قبل زوالها إلى الأبد سنة 1572.

إرث الإنكا الصامد

العديد من العادات التي كانت موجودة عند الإنكا وجدت طريقها للبقاء اليوم عند سكان الأنديز. صناعة الأنسجة ما زالت شائعة حتى اليوم، والغذاء الذي كانوا يتناولونه أصبح يستهلك على نطاق عالمي اليوم، والمناطق الأثرية مثل ماتشو بيتشو تعتبر من مناطق الجذب السياحية الشعبية، حتى لغتهم القديمة، “الكيشوا” بقيت لغة محكية على نطاق واسع حتى اليوم.

ما بين ستة إلى عشرة ملايين نسمة في الأنديز في منطقة ما بين جنوب كولومبيا عبر الإكوادور والبيرو وبوليفيا إلى شمال الأرجنتين وشمال تشيلي يستخدمون الكيشوا كلغتهم اليومية.

اقرأ أيضًا:

تعرف على الكاتبة الأسطورية هيلين كيلر

حقائق رائعة عن دجلة و الفرات

ترجمة: وليد سايس

تدقيق: رزوق النجار

مراجعة: رزان حميدة

المصدر