تكرر مراكز المعالجة العصبية في الدماغ التسلسلات الأخيرة للأحداث لترسيخ الذكريات الجديدة التي ستستخدم في التفكير المجرد. الحصين (Hippocampus) هو طوية صغيرة من الدماغ، وهو الأساس لبناء الذاكرة. يأخذ خبراتنا وتفاعلاتنا ويضعها في مكانها الصحيح عن طريق إنشاء روابط جديدة بين الخلايا العصبية.

كشف تقرير نُشر في 27 يونيو في مجلة «علوم» عن كيفية تعلم الحصين وكيفية ربطه لبعض التجارب في الذاكرة. يوضح الباحثون أنه بعد تصرف معين، يعيد الحصين عرض هذا التصرف حتى يُستوعب. كما كتب الباحثون تقريرًا عن كيفية تتبع الحصين لمراكز اتخاذ القرار في عقولنا لتذكُّر خياراتنا السابقة.

وأظهرت الأبحاث السابقة أن حصين القوارض يكرر عرض التجارب السابقة ويحييها أثناء النوم أو في فترات الراحة. بينما يتنقل فأر في متاهة، على سبيل المثال، تتنشط خلايا (الأماكن) وتساعد الحيوان على تتبع موقعه. بعد رحلته عبر المتاهة، تتنشط هذه الخلايا نفسها في نفس النمط بالضبط. أي أن ما حدث مع الفئران سابقًا يتكرر ذهنيًا مرة ثانية.

كان مؤلفو الدراسة الجديدة مهتمين فيما إذا كانت هذه الظاهرة تنطبق فقط على التجارب السابقة في مكان معين أم هل تنطبق الإعادة الحصينية أيضًا على الذاكرة بشكل عام، بما في ذلك الذكريات العقلية وغير المكانية.

اتضح أنها تنطبق بشكل عام على الذكريات.

أُعطي 33 مشاركًا سلسلة من الصور كل منها تحتوي على وجه ومنزل. كان عليهم أن يعطوا تقديرًا إما لعمر الشخص أو لقدم المنزل. وطُبق التالي: إذا لم يغيّر المشترك العمر المقدر لما اختاره خلال الجولة الثانية من الأسئلة فإن الصنف المطلوب تقدير عمره لن يتغير، إذا تغيّر تقدير العمر فإن الصنف المطلوب تقدير عمره يتغير.

«فإذا طُلب من المشارك تقدير عمر الشخص في الصورة ولم يغيّر تقديره لعمر الشخص في الصورة الثانية فسيُطلب منه أن يقدر عمر الشخص لا المنزل في التجربة الثالثة وهكذا حتى يغيّر تقديره لعمر الشخص عندها ينتقل الباحثون للسؤال عن قدم المنزل»

أثناء تنفيذ هذه المهام، خضع المشاركون لتصوير وظيفي بالرنين المغناطيسي (fMRI)، والذي يسمح للباحثين بمراقبة النشاط الاستقلابي للدماغ المتعلق بمناطق المخ التي تنشط في وقت معين. في هذه الحالة، سمح التصوير للمؤلفين بمشاهدة أنماط النشاط في مناطق المخ المختلفة قبل وأثناء وبعد مهمة اتخاذ القرار.

بعد 40 دقيقة من هذا التمرين، خضع المشاركون لمسح الدماغ أثناء الراحة لمدة خمس دقائق. يبدو أن أنماط الرنين المغناطيسي الوظيفي المسجلة في الحصين أثناء الراحة تعيد إنشاء أجزاء من النشاط الذي حدث أثناء مهمة صنع القرار. وتكررت تلك الأنماط مرارًا وتكرارًا. يبدو الأمر كما لو أن الدماغ يستمر في لف مشهد سينمائي حتى يتمكن من قراءته عن ظهر قلب.

علاوة على ذلك، وجد البحث الجديد أن الأشخاص الذين لديهم المزيد من تكرار المشهد في الحصين أظهروا نشاطًا مشابهًا أكثر للمهمة في منطقة الدماغ تسمى القشرة الأمامية المدارية (orbitofrontal cortex) وهي منطقة تشارك في صنع القرار.

يقول نيكولاس شاك (Nicolas Schuck) الكاتب الرئيس للورقة وخبير علم الأعصاب بمعهد ماكس بلانك للتنمية البشرية في برلين: «حقيقة أن [النشاط] في القشرة الأمامية المدارية مربوط بالتكرارات الحاصلة في الحصين هي لأمر مدهش حقًا».

هو يشعر أن النتائج تشير إلى أن إعادة تسلسل المهام واتخاذ القرارات في الحصين أثناء راحته يساعد على تدريب القشرة على حل المهام المماثلة بشكل أفضل في المستقبل.

وفقًا لكاتب المقالة الرئيسي، يائيل نيف عالم الأعصاب بجامعة برينستون، تشير النتائج الجديدة إلى أن التكرار الحاصل في الحصين ليس أمرًا مهمًا في تكوين الذكريات فقط، ولكن أيضًا لتعلّم السلوكيات والقرارات الأكثر فاعلية في تحقيق الهدف، وبالتالي تعلّم ما يجب علينا تكراره.

يجد ثاكري براون، أستاذ في كلية علم النفس في معهد جورجيا للتكنولوجيا، والذي لم يشارك في الدراسة، أن الدراسة الجديدة مهمة للغاية في إظهار أن الحصين لا يدعم فقط تكرار خبرات الملاحة والخبرات المكانية ولكن أيضًا صنع القرار.

«على الرغم من أن الملاحة المكانية ضرورية للحياة اليومية في كل من البشر والحيوانات، غالبًا ما نتذكر سلسلة من التجارب التي تحدث على مر الزمان بالإضافة لتذكرنا سلسلة التجارب المرتبطة بالمكان. على سبيل المثال، قد تتضمن ذكرى حفلة عيد ميلاد طفلنا الكثير من الأحداث التي تقع خلال مرور الزمان في مكان واحد».

بمجرد أن نعود إلى المنزل على الأريكة، يبدو أن الحصين يهمّ بإعادة مشاهدة يومنا، فيحفره داخل ذاكرتنا.

يعتمد مصير الذكريات في المدى الطويل على الروابط بين الخلايا العصبية للحصين مع تلك الموجودة في مناطق المعالجة الإدراكية عالية المستوى في القشرة، حسب ما توضحه الدراسة الجديدة.

يعتقد براون أن نشاط الحصين، وخاصة إعادة التكرار التي وصفها شاك ونيف، يساعد في تقوية هذه الروابط فيوفر آثارًا طويلة الأمد يمكننا الوصول إليها باستخدام مجموعة متنوعة من تلميحات الذاكرة. يقول براون: «إن هذا النوع من (البروفا العصبية) يمكن أن يشجع علاقات أقوى بين الخلايا العصبية التي ترمز للذاكرة».

من المعروف جيدًا أن الدماغ ينشغل بأداء أعماله الخاصة عندما نعتقد أننا نعطيه الراحة أثناء النوم أو التأمل. قد تكون النتائج الجديدة مرتبطة بتثبيت الذاكرة لما جرى أثناء نومنا. يوضح شاك أن تكرار الحصين لعرض الأحداث أثناء النوم ربما يساعد في تكوين وتخزين الذكريات.

أحد الأسئلة المفتوحة هو عما إذا كان دور الإعادة موجودًا أثناء الحلم أيضًا: إن المنحى المتلوي الذي تتخذه أحداث الماضي القريب في تلك القصص الليلية الخيالية أثناء أحلامنا قد يساهم في معالجة تجاربنا وتخزينها أو التخلص منها.

يخطط شاك ونيف لاستخدام تقنية تحليل المخ لاستكشاف كيفية ارتباط مهام التخطيط بإعادة الأحداث التي تجري في الحصين. إنهم يريدون استكشاف ما إذا كان التخطيط الفعال الإرادي يستلزم استرداد التجارب السابقة وإعادة عرضها لتحسين طريقة تعاملنا مع المستقبل بشكل أفضل.

يقول شاك: «نعتقد أن أساليبنا الجديدة ستكون بمثابة فتح أبواب جديدة للنظر إلى تفاصيل أكثر في ظاهرة إعادة عرض الأحداث عند البشر، نأمل أن تمهد أساليبنا الجديدة الطريق للنظر إلى هذه الأشياء في المستقبل».

اقرأ أيضًا:

هل ينكمش الدماغ بمرور العمر ؟

ماذا يحدث في الدماغ أثناء الهلوسة ؟

كيف يسترجع الدماغ الذكريات ؟

كيف يقوم الدماغ بالتركيز و الإدراك بسرعة ؟

12 من الأطعمة التي تعزز وظيفة الدماغ

ترجمة: إياد رشيد الشاعر

تدقيق: عون حداد

مراجعة: رزان حميدة

المصدر