جاليليو و الثورة العلمية. عندما وجه جاليليو جاليلي (Galileo Galilei) عام 1609 تلسكوبه إلى السماء لأول مرة رأى ما لم يَرَه أي شخص من قبله من البشر؛ شاهد القمر بجبالِه وأخاديدِه، وتخيله مليئًا بالحياة كالأرض. ثم نظر إلى درب التبانة فوجد عدد نجومها أكبر بكثير مما رأت الناس بالعين المجردة. بعد ذلك أتت المفاجأة الكبرى، وذلك عندما وجه تلسكوبه نحو المشتري واكتشف أقماره الأربعة الكبيرة، والتي تظهر لنا أثناء دورانها حَوله بأنها تخط خطًا مستقيمًا على صفحة السماء (لأننا ننظر إليها من الجانب).
كانت هذه أول مرة يرى بها البشر أجرامًا سماوية “تدور” حول جسم آخر غير الأرض، بتناقض تام مع فيزياء أرسطو ونموذج بطليموس الذي يضع الأرض في مركز الكون. أي لم يكن ما رآه جاليليو في السماء شيئًا جديدًا فقط، بل قوضت اكتشافاته -إضافة إلى اكتشافات غيره خلال هذه الفترة الحاسمة من تاريخ البشر- أهم المباني الفكرية التي عمل الفلاسفة والمفكرين على بنائها طوال أكثر من ألفَي عام.
قلب جاليليو وغيره من المفكرين، وعلى رأسهم نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus)، وتيخو براهي (Tycho Brahe)، ويوهانس كيبلر (Johannes Kepler)، ورينيه ديكارت (Rene Descartes)، وإسحق نيوتن (Isaac Newton)، وروبرت بويل (Robert Boyle)، وغيرهم، باكتشافاتهم مفاهيمنا حول الكون وموقعنا فيه رأسًا على عقب.
وبذلك وضعوا الأسس لأهم تغيير حدث في تاريخ البشر منذ الثورة الزراعية التي ابتدأ معها الإنسان ببناء الدول والحضارات، فقد وضعنا هؤلاء العظماء على طريق التساؤل والبحث العلمي والتفكير النقدي وتحكيم العقل، ورفعوا قيمة التجارب والأدلة الرصدية فوق الجمود الفكري والتزمت العقائدي.
تُعتبَر هذه الطريق طريق الثورة العلمية ، التي تبلورت في القرن السادس عشر والسابع عشر، وما زلنا نخطو على خطاها، ولها الفضل الأكبر في واقعنا التكنولوجي المعاصر والخطوات الهائلة التي خطوناها نحن البشر في فهمنا للطبيعة وموقعنا فيها.
لم تبدأ الثورة العلمية مع كوبرنيكوس وكبلر وجاليليو، بل تمتد جذورها عميقًا إلى الحضارة العربية الإسلامية، (كما ذكرت في مقال سابق). بالإضافة إلى ذلك مهدت للثورة العلمية تغييرات سياسية واقتصادية ودينية وتكنولوجية كثيرة، مثل بداية الفترة الاستعمارية، بالذات بعد اكتشاف القارة الأمريكية وابتداء عصر النهضة الذي أدى إلى تغيير نظرة الأوروبيين إلى أنفسهم وإلى بيئتهم.
أضف على ذلك نشوء حركات الإصلاح الديني البروتوستانتي والحروب الكثيرة التي اندلعت إثرها والتي امتلكت وقعًا كبيرًا على تطور الثورة العلمية ، أي أن الثورة العلمية لم تكن من صناعة العباقرة الذين ذكرناهم فقط، بل لربما أهم من ذلك، فكانت نتيجة نضوج ظروف معينة سمحت بتطورها وازدهارها.
شكلت هذه الفترة، التي امتدت من أواسط القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن السابع عشر، موضوع الدراسة الأساسي في المجال الأكاديمي المعروف باسم “تاريخ العلوم” لسنين طويلة، ويعود ذلك لأهميتها. وفي الحقيقة ما زال الجدال بين مؤرخي العلوم مستعرًا، خاصةً حول مسببات هذه الثورة وماهية مراحلها، وأهمية كل مرحلة من هذه المراحل في مجمل التغيير العميق الذي أحدثته.
إضافة إلى ذلك، يناقش البعض بأنها ليست ثورةً واحدة ووحيدة، بل كانت واحدةً من عدة ثورات حدثت منذ ذلك الوقت، لهذا لا يجب أن نسميها بـِ”الثورة العلمية” بأل التعريف. ويعترض أيضًا الكثير من المؤرخين على استعمال مصطلح “ثورة” جملةً وتفصيلًا، بل يدعون عدم وجود ثورات حقيقية في التاريخ إجمالًا، وفي تاريخ العلوم بشكل عيني؛ بل كل ما هناك هو مجرد تطور تدريجي مستمر، بطيء أحيانًا وسريع أحيانًا أخرى، على مدى العصور.
وهناك حتى من يعترض على استعمال مصطلح “علمية” إذ يدعون أن النظريات التي كانت قبل كوبرنيكوس لا تقل علمية عن تلك النظريات التي طورها أبطال الثورة العلمية. على الرغم من هذه النقاشات فأنا ممن يعتقدون أن شيئًا خاصًا حدث في تلك الفترة يستحق أن يحمل اسم “الثورة العلمية”.
علي أن أنوه بأني لا أعتقد بوجود عصًا سحرية في التاريخ، فكل تطور يأتي في سياق تسلسل أحداث اجتماعية، واقتصادية، وحضارية وعلمية معينة، أي لا ينتج في التاريخ شيء من عدم. لهذا فأنا لا أقبل بأي شكل من الأشكال كون الثورة العلمية حدثت في فراغ تاريخي، أو أن جذورها قفزت في نفق للزمان من الإغريق القدماء إلى كوبرنيكوس وجاليليو وغيرهم بقدرة قادر.
بل أعتقد أن هذا الصرح الهائل من المعارف والعلوم قد بناه البشر طوبة بعد طوبة، بوتيرة بطيئة أحيانًا وسريعة أحيانًا أخرى، ولم يكن هذا البناء حكرًا على الغرب بل ساهم به الكثيرون غيرهم، وذلك على الرغم من أن الثورة العلمية حدثت في أوروبا بالذات.
لهذا أنا أميل لقبول الادعاء القائل إنه لا توجد ثورات تُغيّرُ التاريخ بين ليلة وضحاها، كما يتوهم رجال السياسة أحيانًا، بل إن التغييرات، حتى الثورية منها، تحتاج إلى وقت طويل لاستيعابها ودمج مبادئها في مجمل شبكة المعارف والأفكار والممارسات التي يتبعها البشر. أفضل مثال على ذلك هي الثورة العلمية التي امتدت على مدى 150 عامًا على أقل تقدير، بل إن هناك من يعتقد أنها ابتدأت في القرن الرابع عشر وانتهت في القرن الثامن عشر، وحتى بعده.
على الرغم من النقاشات الحادة بين مؤرخي العلوم حول أسباب الثورة العلمية وطبيعتها فإن أغلبهم يُجمعون على أنها ابتدأت مع عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس، الذي اقترح أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية (الكون المعروف في حينه) وليست الأرض.
كتب كوبرنيكوس خلال حياته مؤلفَيْن حول نموذجه الشهير، نُشر الأول على شكل كراس قصير (من دون ذكر اسم مؤلفه) يتكون من عشرين صفحة، كتبه نحو عام 1510 وقرأه عدد قليل جدًا من الناس لأنه لم يُنشر رسميًا إلا بعد سنوات كثيرة من وفاة مؤلفه، بعنوان “التعليق الصغير (Commentariolus)”، أما الثاني فهو كتاب يتألف من نحو مئتي صفحة بعنوان “حول دوران الأجرام السماوية (De Revolutionibus Orbium Coelestium)”.
كتب كوبرنيكوس هذا الكتاب بعد تردد كبير، ونشره إثر إلحاح وضغط من أصدقائه. صدر “حول دوران الأجرام السماوية”، الذي تحول إلى أحد أهم المؤلفات في التاريخ، عام 1543 في الفترة التي كان يحتضر خلالها كوبرنيكوس، بل على الأرجح وصلته نسخة الكتاب الأولى في نفس اليوم الذي مات فيه. جعلا هذان المؤلَّفان من كوبرنيكوس أحد أهم المفكرين في تاريخ العلوم.
جاليليو العالم الأول
لسوء الحظ، لم يتمتع جاليليو جاليلي (1564-1642) بجو من الحرية، بل كان عليه أن يناور بين الضغوطات الدينية والاجتماعية ليقدم نظرياته العلمية. لكن على الرغم من ذلك حسمت أعمال جاليليو مسألة مركزية الشمس بشكل قاطع. في الحقيقة كان جاليليو أحد أعظم العلماء على مر تاريخ، ويقف في عيون المؤرخين بنفس مرتبة نيوتن وداروين وآينشتاين، وتتعدى مساهمته علم الفلك بكثير.
كان جاليليو أول من وضع أسس علم الحركة الحديث، ومن وجد بعض قوانينها الأساسية مثل القانون الذي يُعرَف باسم قانون نيوتن الأول، وشكلت أعماله في هذا المجال العمود الفقري الذي بنى عليه نيوتن قوانين الميكانيكا. تمتع جاليليو بقدرة نادرة غير مسبوقة جمعت بين التفكير الرياضي التحليلي والمهارة التجريبية والرصدية، ومَلَكة الابتكار والاختراع.
ويعتبره الكثيرون مؤسس العلم الحديث، إذ إنه وضع الأصول الفكرية الحديثة للبحث والممارسة العلمية كما نعرفها اليوم، أكثر من أي شخص آخر. وبالطبع، أحد العوامل المهمة التي رفعت مكانته بين العلماء بشكل خاص، والناس بشكل عام، هي محاكمته من قبل الكنيسة الكاثوليكية نتيجة آرائه في ما يتعلق بنموذج كوبرنيكوس، والتي جسدت الصراع بين (العلم والطريقة العلمية) الذي مثله جاليليو من جهة، وبين (الدوغمائية والانغلاق الفكري) الذي مثلته الكنيسة من جهة أخرى.
برزت هذه القدرات في إحدى القصص الشهيرة والتي حدثت خلال تعلمه لمهنة الطب في الجامعة، حين كان يجلس لسماع وعظة يوم الأحد في الكنيسة. كانت هذه الوعظة كما يظهر مملة إذ إنه شرع في مراقبة حركة ثريات الكنيسة وهي تتأرجح نتيجة نسمة من الهواء في الكاتدرائية الكبيرة. لحظ جاليليو أن زمن دورة الثريات، أي الزمن الذي تستغرقه لإكمال دورة تأرجح كاملة، لا يتعلق بكبر تأرجح الثريا (لجميع الثريات نفس الأطوال).
هذا ومن الطريف أن جاليليو استعمل وتيرة نبضه لقياس زمن دورة الثريات. كانت هذه الفاتحة لبحثه حول حركة البندول، والتي أثبت من خلالها أن زمن دورته لا يتعلق بمقدار إزاحته الأولية (بشرط أن تكون هذه الإزاحة صغيرةً نسبة لطوله) أو بوزن الكتلة المربوطة به، بل يتعلق فقط بِطوله.
نتيجةً لهذا ساهم في تحويل البندول البسيط لجهاز قياس للزمن ليُستعمل في قياس نبض المرضى. بعد هذه الحادثة اقنع أباه، الذي كان يعمل موسيقيًا، بالسماح له أن يترك تعليم الطب ويتحول إلى دراسة العلوم والرياضيات.
كان أول ما درسه جاليليو بعد تغيير دراسته إلى العلوم الطبيعية هو إشكال سقوط الأجسام التي كان يعتقد أنها تتبع قوانين حركة أرسطو. كما ذكرت سابقًا كان الاعتقاد في حينه أن فيزياء أرسطو هي الفيزياء التي تحكم حركة الأجسام في الطبيعة، وادعت هذه الفيزياء بأن الأجسام الصلبة (المصنوعة من عنصر “التراب”) تسقط في اتجاه مركز الكرة الأرضية بسرعة ثابتة تتناسب مع كتلتها، أي أن الأجسام الثقيلة تسقط بسرعة (ثابتة) أكبر من سرعة الأجسام الخفيفة.
استنتج جاليليو من دراسته التجريبية لسقوط الأجسام بأن أرسطو كان مخطئًا وأن سرعة سقوط الأجسام لا تتعلق بوزنها، ولكنها تسقط بتسارع ثابت. كتب جاليليو هذه الاستنتاجات في كتاب صغير -لم ينشره أبدًا بعنوان- “عن الحركة ((De Motu”، لكن محتواه كان معروفًا للناس.
نتيجةً لهذا البحث ظهرت القصة الشهيرة التي بحسبها أسقط جاليليو جسمين معًا، أحدهما خفيف والثاني ثقيل، من أعلى برج بيزا لكي يثبت نظريته حول سقوط الأجسام. في الحقيقة ليس هناك أي دليل على أن جاليليو قد أجرى هذه التجربة، بل على الأرجح أن من أجراها هو شخص آخر كان يريد أن يثبت خطأ جاليليو.
كانت إحدى ميزات جاليليو هي طبيعته المتمردة على السلطة، وفي هذه الحالة سلطة أرسطو الفكرية، وكان يُعتبَر من الشجاعة قوله جهارةً أن «أرسطو كتب ما هو معاكس للحقيقة»، تُعد هذه الصفة إحدى الميزات المهمة للعلماء، وللعملية العلمية في عصرنا، أي النظرة النقدية والشك الدائم وعدم قبول المسلمات بشكل تلقائي.
لربما كان هذا التمرد وعدم قبول السلطة لمجرد كونها سلطة، هو إحدى الصفات التي ألّبت عليه عددًا لا بأس به من الأعداء الذين ظلوا يترصدون له حتى نجحوا في إيقاعه في براثن محاكم التفتيش بعد سنين طويلة ومحاولات كثيرة. لكن من جهة أخرى، كان هذا التمرد الفطري وحب الاستطلاع العارم والقدرة الفكرية والتحليلية العظيمة التي امتلكها ما جعل منه مصدر إعجاب كبير للكثير من الناس في حينه.
توصل جاليليو إلى قناعة بأن نظرية الكون عند أرسطو، والتي بُني عليها نموذج بطليموس، هي أيضا خاطئة وبالتالي أصبح من أتباع نموذج كوبرنيكوس. لا نعرف الزمن والطريقة التي أصبح فيها جاليليو من أتباع هذا النموذج، لكنه أوضح موقفه في رسالة إلى العالم البولندي يوهانس كبلر في عام 1597، أرسلها إليه بعد أن قرأ كتاب كبلر “لغز مبنى الكون”.
في عام 1604 رأى كبلر نجمًا جديدًا في السماء، نعرف اليوم أنه مستعر أعظم (سوبرنوفا)، ما بيّن أن السماء ليست ثابتة كما ادعى أرسطو؛ بل تتغير. تبنى جاليليو هذا الادعاء في محاضرة ألقاها في نفس العام ما أدى إلى اصطدامه العلمي العلني مع أحد زملائه في جامعة بادوفا التي انتقل إليها بعد جامعة بيزا.
على الرغم من التقدم الكبير الذي حدث منذ طرح كوبرنيكوس نموذجه حول حركة أجرام السماء، بديلًا عن كون أرسطو، فإن القفزة الحقيقة في علم الفلك حدثت نتيجة تطور تكنولوجي. في عام 1608 وضع صانع النظارات الهولندي، هانس ليبرسي (Hans Lippershey)، عدسةً محدبةً أمام عدسة مقعرة، ما أدى إلى ظهور الأجسام أقرب إلينا بعدة مرات، كان هذا هو اختراع الناظور.
حين وصلت جاليليو إشاعة في عام 1609 حول هذا الإختراع سارع إلى تصميم جهاز مشابه، لكن جهاز جاليليو كان أفضل بكثير من جهاز ليبرسي، قرّب الأجسام بقدرة 20 ضِعفًا، ووصلت لاحقًا قدرته إلى 60 ضِعفًا. على الرغم من أن جاليليو لم يكن أول من اخترع هذا الجهاز -والذي أصبح يُعرَف لاحقًا بالتلسكوب- فإنه كان أول من وجهه إلى السماء.
كان هذا هو ما حسم، بشكل موضوعي، أي نقاش علمي حول طبيعة المجموعة الشمسية، وما أدخل علم الفلك إلى عهد التلسكوب، وبيّن أن الكون هو مكان مختلف جداً عما نراه بالعين المجردة فقط. لكن على الرغم من هذا، وكما اشتكى جاليليو في رسالة إلى كبلر، “رفض البعض النظر من خلال التلسكوب” حتى لا يغير نظرته عن الكون. لسوء الحظ امتلك بعضه هؤلاء القوة السياسية الكافية التي أدت في النهاية إلى محاكمة جاليليو.
أصدر جاليليو في عام 1610 كتابًا صغيرًا بعنوان “مراسل النجوم ((Siderius Nuncia” عن اكتشافاته الفلكية الجديدة ورسم ما رآه بدقة شديدة. وجه جاليليو تلسكوبه في البداية إلى القمر فرأى عليه الكثير من الأخاديد واستنتج أن سطحه مليء بالجبال (انظروا الشكل رقم 1 المأخوذ من كتاب جاليليو).
ثم نظر إلى الكواكب السيارة فرآها جميعًا دائرية تمامًا، لكنه لم يستطع رؤية النجوم سوى على شكل نقاط صغيرة جدًا، ما أدى إلى استنتاجه بأنها أبعد من الكواكب السيارة بكثير. بعد ذلك رأى أن السماء مليئة بالنجوم الضعيفة التي لا نستطيع أن نراها بالعين المجردة لكنها تظهر واضحةً بواسطة التلسكوب واستنتج أن عدد النجوم في درب التبانة (المجرة التي نعيش بها) أكبر بكثير مما كنا نعتقد.
لكن أهم اكتشافاته في هذا الكتاب كان اكتشاف أقمار المشتري الكبيرة الأربعة والتي أثبت أنها تدور حول المشتري، وقاس أزمان دوراتها. كانت هذه المرة الأولى التي يرى بها البشر أقمارًا تدور حول جسم آخر في السماء، ما أضاف دعمًا كبيرًا لفكرة كوبرنيكوس حول مركزية الشمس، إذ لم تكن الأرض تشكل مركز دوران هذه الأقمار، بل كان مركز دورانها المشتري.
لم تكن الاكتشافات التي نشرها في “مراسل النجوم” هي اكتشافات جاليليو الأخيرة، فعلى سبيل المثال، اكتشف أيضًا لاحقًا بأن للزهرة أوجهًا مثل القمر، يحددها موقع الزهرة بالنسبة للشمس (انظروا الشكل رقم 2). استطاع جاليليو تحديد هذه العلاقة بشكل تفصيلي بواسطة تلسكوبه واستعملها ليثبت بشكل مباشر بأن كوكب الزهرة يدور حول الشمس (يعتقد بعض المؤرخون أن هذا هو الحدث المفصلي الذي ابتدأ الثورة العلمية ، وليس نموذج كوبرنيكوس).
إضافةً إلى ذلك، اكتشف جاليليو، بعد أن نجح بإيجاد تقنية يستطيع بواسطتها عكس صورة الشمس التي يراها تلسكوبه على شاشة، بأن الشمس مليئة بالبقع، والتي أصبحنا نعرفها باسم “البقع الشمسية”.
أثار كتاب جاليليو ردود فعل متباينة؛ من المتحمسة جدًا إلى الرافضة تمامًا لما رآه. لكنه في هذه المرحلة لم يكن قد تورط بمشاكل مع الكنيسة لأنه لم يذكر تقريبًا نموذج كوبرنيكوس، باستثناء موضع واحد في نهاية الكتاب. ل
كن مشاكله بدأت خلال السنين التي تلت نشر هذا الكتاب، فقد نجح في إثارة غضب اليسوعيين -الذين كانوا بمثابة الطبقة الأكاديمية في صفوف رهبان الكنيسة الكاثوليكية- حول عدد من النقاط العلمية والفلسفية. ومن الجدير بالذكر أن موقفه كان خاطئًا فيما يتعلق ببعض هذه الأمور بشكل واضح.
لكن أحد أخطائه الكبرى قد يكون الانتقال من جامعة بادوفا، التي كانت تتبع لمدينة فينيسيا حيث سلطة وتأثير الباباوات محدودة، إلى جامعة مدينة فلورنس، حيث تأثير الكنيسة ورؤسائها كبير جدًا. في عام 1615 حاول إقناع البابا بولس الخامس بتغيير موقف الكنيسة بشأن كوبرنيكوس، فعين البابا لجنةً رسميةً درست الموضوع وأعلنت بأن نموذج كوبرنيكوس مضاد للكتب المقدسة وتعاليم الكنيسة.
بل قد أدى هذا إلى دعوته في أوائل عام 1616 إلى روما، حيث تلقى أوامر واضحة من الكنيسة بأن يغير اعتقاده بشأن نموذج كوبرنيكوس وأن لا يدافع عنه أو يعلمه بأي شكل من الأشكال. في الحقيقة اتخذت الكنيسة خطوات واضحة ومباشرة ضد النموذج الكوبرنيكي بعد إصدار أوامرها لجاليليو، فأدخلت كتاب كوبرنيكوس ضمن قائمة الكتب الممنوعة. كانت هذه هي القاعدة القانونية التي بنت عليها الكنيسة الكاثوليكية محاكمتها لجاليليو بعد أكثر من خمسة عشر عامًا.
في عام 1624 اختارت الكنيسة رئيسًا جديدًا لها، البابا أوربان الثامن، الذي كان من أحد المعجبين جدًا بجاليليو ويعرفه من مدينة فلورنسا. كانت هناك عدة محادثات خاصة بينهما خلال السنوات الأولى من فترة أوربان الأول، وتطورت على إثرها صداقة بين الرجلين.
شجعت هذه الصداقة جاليليو على أن يطلب من البابا إذنًا بالكتابة مجددًا عن نظرية كوبرنيكوس، فوافق الباب بشرط أن يوضح جاليليو بأنها مجرد نموذج رياضي وأنها على الأغلب غير صحيحة، وكذلك طلب منه أن يعرض معه الادعاءات المركزية لنموذج بطليموس.
نتيجةً لهذا نشر جاليليو كتابين، إذ أخذ من البابا تصريحًا مباشرًا بنشر الأول، الذي شرح فيه نظريته حول مسببات ظاهرة المد والجزر. عزى جاليليو هذه الظاهرة إلى دوران الكرة الأرضية حول نفسها (كما ينص نموذج كوبرنيكوس) والتي تؤدي إلى “خضخضة” ماء المحيطات. كانت هذه النظرية بالطبع خاطئةً تمامًا، لأن سبب المد والجزر كما نعرف اليوم هو قوة الجاذبية بين الأرض والقمر. أما الكتاب الثاني فكان بعنوان
“حوار حول نظامي العالم الأساسيين: البطلمي والكوبرنيكي (Dialogue Concerning the Two Chief Systems of the World: Ptolemaic and Copernican)” والذي لم يطلب إذنًا مباشرًا من البابا بنشره، بل طلبه من الأسقف المحلي في فلورنس والذي لم يعلم بتفاصيل قضيته مع الكنيسة. كان نشر هذا الكتاب عام 1633 هو السبب المباشر في محاكمة الكنيسة لجاليليو.
حاول جاليليو في هذا الكتاب اتباع نصيحة البابا، إذ عرض مواقف النموذجين، البطلمي والكوبرنيكي، في حوار بين ثلاثة أشخاص. يدافع فيه الأول، واسمه سمبليسيو (Simplicio)، عن وجهة النظر الأرسطوطالية ونموذج مركزية الأرض، بينما يدافع الثاني، واسمه سالفياتي (Salviati)، عن وجهة النظر الكوبيرنيكية ومركزية الشمس، أما الثالث، واسمه ساغريدو (Sagredo)، فهو شخص محايد يسمع ويناقش الطرفين.
المشكلة ابتدأت في الكتاب من الاسم الذي اختاره جاليليو للشخصية المدافعة عن نظام أرسطو وبطليموس، سمبليسيو، الذي يشبه اسم فيلسوف يوناني عاش في القرن السادس بعد الميلاد، ولكنه أيضًا يشبه بالإيطالية الكلمة التي تعني شخص بسيط أو ساذج.
ما “زاد الطين بلة” هو أن جاليليو وضع أفكار البابا أوربان الثامن على لسان سمبليسيو الذي كان أضعف شخصية من شخصيات الكتاب الثلاث. إضافةً إلى ذلك، فقد اكتشف البابا أن جاليليو لم يكن صريحًا معه تمامًا حول الأوامر التي تلقاها من الكنيسة الكاثوليكية في عام 1616، خاصةً أن بعض هذه الأوامر كانت بواسطة مستند غير موقع من قبل سلطات الكنيسة.
أثار نشر كتاب جاليليو غضب المؤسسة الكنسية وعلى رأسهم “صديقه” البابا، إذ قدمته للمحاكمة عام 1633 بتهمة “الشبهة الشديدة بالهرطقة”، ودُعي إلى روما للمثول أمام محكمة التفتيش. كان جاليليو في حينها يقارب الـ68 عامًا، وهو جيل متقدم جدًا في تلك الفترة.
أصدرت المحكمة حكمها على جاليليو بالسجن حتى نهاية عمره وذلك بعد أن أعلن أنه أخطأ وأنه لا يؤمن بنموذج كوبرنيكوس، ومُنع كذلك من نشر أي كتاب أو رأي في أي موضوع كان حتى نهاية حياته. كذلك أدرجَت الكنيسة كتابه في لائحة الكتب المحظورة. في الحقيقة، إن محاكم التفتيش تهاونت كثيرًا في معاملة جاليليو، إذ استطاعت أن تعامله بقساوة أكثر بكثير مما حظي به.
لربما كان ذلك نتيجة موقعه الخاص في إيطاليا ومعرفته الشخصية للكثيرين من الشخصيات المؤثرة على مستوى الكنيسة والمجتمع عامة، ومن ضمنهم البابا نفسه الذي أجبرته ظروفه السياسية أن يوافق على محاكمة جاليليو. لحسن حظ جاليليو وحظ البشرية أنه قد خُفف حكمه مباشرةً، تقريبًا إلى حبس منزلي قضى الفترة الأولى منه في فيلا أسقف مدينة سيينا (Siena) الذي كان شخصًا لطيفًا وعامل جاليليو باحترام.
بعد ذلك أكمل الحبس البيتي في منزله الواقع في قرية أرتشتري (Arcetri)، بالقرب من مدينة فلورنسا (موقع جامعة فلورنسا اليوم)، حيث اهتمت به ابنتاه الراهبتان في دير قريب من منزله، خاصةً ابنته الكبرى التي كانت قريبةً جدًا منه.
عليّ أن أوضح هنا بعض الأمور المتعلقة بمحاكمة جاليليو وموقفي الشخصي منها. أولًا، يعتقد الكثيرون بأن هذه المحاكمة تعكس الصراع بين العلم والدين، ورغم أن هذا الفهم صحيح إلى حد ما، فإن الصورة أعقد من ذلك بكثير.
فمثلًا جاليليو نفسه كان متدينًا جدًا والصراع في نظره كان حول عدم تدخل الكنيسة في العلم والنظرية العلمية عن الواقع، ومن أقواله المشهورة في هذا المضمار: «الكتاب المقدّس يرشدنا إلى الطريق التي نذهب بها إلى السماء، لا كيف تسير السماوات» (The Bible shows the way to go to heaven, not the way the heavens go).
ثانيًا، قد يفهم البعض أن هناك ملامةً على جاليليو في أنه لم يكن صريحًا تمامًا مع البابا أوربان الثامن قبل نشر كتابه، لكن هذا بعيد كل البعد عن الواقع، لأن جاليليو وُضِعَ في وَضعٍ مستحيلٍ، وذلك لأن الكنيسة طلبت منه أن يؤمن بنموذج كان يعرف حق المعرفة أنه خاطئ، وفي نفس الوقت أن يرفض نموذجًا كان يؤمن بصحته بكل جوارحه. وكأنّ العظماء مثل جاليليو يغيرون معتقداتهم بموجب أوامر وفرمانات تناقض حكم العقل والمنطق والأدلة التجريبية، وليس من حق أي سلطة المطالبة بهذا، سواء كانت هذه السلطة سياسية أو دينية أو عقائدية أو من أي نوع آخر.
بل وأكثر من ذلك، لا يحق لأي سلطة كانت حتى أن تتوهم أنها تُقرر للطبيعة كيف تتصرف، وأي “جنون عظمة” يُوهمها أنها تستطيع أن تحشو أنفها في ماهية قوانين الطبيعة هو مجرد سراب مثير للشفقة، يعود عليها وعلى الناس بالضرر الكبير. لأن الطبيعة تتصرف بحسب قوانينها ولا تنتظر الموافقة من أية سلطة بشرية أو دينية. أي أن صُلب العملية العلمية هو البحث عن الحقيقة، وليس البحث عن الحقيقة بشرط أن تلائم معتقدات هذه المجموعة أو تلك.
بقيت منشورات جاليليو محظورةً من قِبل الكنيسة الكاثوليكية حتى عام 1835 حين أخرجتها من قائمة الكتب “السوداء”. وفي عام 1992 أعلن البابا يوحنا بولس الثاني اعتذار الكنيسة الكاثوليكية لجاليليو وأعلن أن الكنيسة أخطأت بحقه »لأنها كانت تعتقد أن فهمنا للطبيعة يأتي، بشكل أو بآخر، عن طريق فهمنا الحرفي للكتب المقدسة«.
رغم اأ هذه الخطوة في الاتجاه الصحيح فإنها لم تذهب بعيدًا بشكل كافٍ، وذلك لأن الكنيسة بهذا المرسوم أعلنت أنها أخطأت من ناحية قرارها تجاه جاليليو، لا أنه لا يحق لها أصلًا أن تحاكم جاليليو وغيره من العلماء بأي شكل من الأشكال، لأن لا سلطة لها عليهم أو على أي أحد آخر، سواء في الشؤون العلمية أو غيرها، فحرية التعبير والتفكير تعلو فوق أي اعتبار آخر، خاصةً فيما يتعلق بالعلوم والحقائق الموضوعية. ينطبق هذا على أية سلطة سياسية أو اجتماعية أو دينية من أي نوع.
نشر جاليليو في سنواته الأخيرة، وبالرغم من حبسه المنزلي في أرتشتري وقرار الكنيسة بمنعه من الكتابة، مؤلفًا بعنوان “عِلْمان جديدان ((Two New Science” -هذا هو العنوان المختصر للكتاب-، وطبعه في هولندا التي كانت تنعم بقسط كبير من الحرية حينها (مثل ما يفعل كتاب العالم العربي والإسلامي الذين يخشون أنظمتهم المتزمتة فينشرون في لبنان أو أوروبا).
يُعَد هذا الكتاب أهم كتاب كتبه طيلة حياته، فقد وضع فيه أسس العلاقة بين النظرية والتجربة، وتناول أسس علم الحركة وبالذات الحركة بسرعة ثابتة والحركة المتسارعة. وتوسّع خلاله في حركة القذائف التي تُعامَل مع سرعتها على أنها مُركبة من حركتين، حركة عامودية بالنسبة لسطح الأرض، بها يسير الجسم بتسارع ثابت، وحركة أفقية بها يسير الجسم بسرعة ثابتة.
لم يمتلك هذا المثال تأثيرًا كبيرًا على الفيزياء فقط، بل امتلك أيضًا تأثيرًا عمليًا استعمله الجيش في حسابات حركة القذائف. أي أنه مهما أصرت الكنيسة على أن قوانين أرسطو هي القوانين الصحيح فإن القذائف المدفعية “تصر” أكثر بكثير اتباع قوانين الطبيعة للحركة، فمن يريد أن يربح في الحرب عليه أن يتبع قوانين الطبيعة لا قوانين الكنيسة.
كان لأبحاث جاليليو واختراعاته كثير من التطبيقات العملية، فمثلًا كان للتلسكوب تطبيقات عملية واضحة في الملاحة والحرب. وكذلك استطاع تحويل التلسكوب إلى ميكروسكوب الذي طُوِر لاحقًا وكشف عن عالم الحشرات والنباتات الميكروسكوبي المذهل، والذي أثار خيال الناس وفتح الباب أمام مجالات أبحاث كاملة في عالم الأحياء.
فمثلًا نشر العالم الإنجليزي روبرت هوك (Robert Hooke) عام 1665 كتابًا بعنوان “ميكروغرافيا (Micrographia)” حول ما رآه بواسطة المجهر، وكان لهذا تأثير كبير على باحثي علم الأحياء. كما أدت دراسته للبندول إلى اختراع ساعة ميكانيكية طورتها لاحقًا إحدى الشخصيات الأساسية في الثورة العلمية ، الهولندي كريستيان هويجنز (Christiaan Huygens) حوالي عام 1656، وغيرها من الاختراعات الكثيرة. أي أن تأثير جاليليو وأبحاثه واختراعاته كان عميقًا جدًا، فهو دون شك الأب الحقيقي للعلم الحديث.
أثرت محاكمة جاليليو بشكل سلبي جدًا على الحركة العلمية في إيطاليا وحتى أدت إلى توقفها تمامًا تقريبًا، باستثناء مساهمة صغيرة لطلاب وأتباع جاليليو لعقدين من الزمن في مقاطعة توسكانا. من الواضح أنه بعد محاكمة جاليليو أخذ نجم إيطاليا بالأفول من سماء العلم، هذا بعد أن كانت القائدة الفكرية والعلمية لعصر النهضة على مدى ثلاثة قرون تقريبًا. لكن لحسن الحظ ظهرت مراكز أخرى للأبحاث في هولندا وإنجلترا وفرنسا.
لم تقف الثورة العلمية عند جاليليو، فأتى بعده الكثيرون من الذين استمروا في طريق الثورة العلمية في الفيزياء (مثل نيوتن) ومن الذين قادوا ثورات في الكيمياء في القرن الثامن عشر (مثل بريستلي ولافوازييه) وعلم الأحياء في القرن التاسع عشر (مثل داروين و والاس وماندل)، وفي الفيزياء مجددًا في بداية القرن العشرين…
أي أن الثورة العلمية أدت في القرون الأربعة الأخيرة إلى انقلاب تام في مفهومنا للطبيعة وأسلوب حياتنا. فأدت إلى ثورات صناعية وتكنولوجية، والتي زودتنا بالتالي بوسائل جديدة لفهم الطبيعة، التي ساهمت بدورها إلى تطور أعمق في فهمنا للطبيعة، وهكذا دواليك. في الحقيقة لا يمكن أن نتخيل حياتنا العصرية دون هذه الثورة.
لكن ما لا يقل أهميةً عن التطور التكنولوجي الذي ننعم به، هو أن هذه الثورة زودتنا بأفضل طريقة يملكها الإنسان لفهم العالم الموضوعي، بالإضافة إلى الطبيعة، فقد أصبحنا نطبقها أيضًا لفهم مجتمعاتنا وأنفسنا، وقد تكون هذه أهم نتيجة لما حدث في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
أي أنه كما قال الفيلسوف الإنجليزي ألفرد وايتهيد (Alfred Whitehead): «الاكتشاف الجوهري للعلم الحديث هو المنهج العلمي بحد ذاته». ومفتاح الطريقة العلمية التي اكتشفها جاليليو وغيره من العظماء برأيي، هو الشك والتساؤل المستمرين، ومقارنة المفاهيم الفكرية والنظرية التي نطورها بمعطيات الرصد والتجربة، لأنه في العلوم هناك حَكَم موضوعي، لا يتهادن أو يتهاون، وهو الطبيعة وما يحدث فيها.
اقرأ أيضًا:
السيرة الذاتية لجاليليو جاليلي
هل تعلم أن ناسا أجرب تجربة غاليليو على القمر؟
إعداد: سليم زاروبي
تدقيق: عون حداد
مراجعة: آية فحماوي