إن تصورنا للواقع مبني على التجارب اليومية. لكن ازدواجية الموجة والجسيم غريبة جدًا لدرجة أننا مضطرون لإعادة النظر في مفاهيمنا المسلم بها والتي نعتبرها من البديهيات. وتشير ازدواجية الموجة والجسيم إلى الخاصية الأساسية للمادة، إذ أنها في لحظة ما تبدو وكأنها موجة، وفي لحظة أخرى تتصرف بمثابة جسيم. ولفهم هذه الازدواجية، يجدر بنا النظر إلى الاختلافات بين الأمواج والجزيئات. إن الجسيمات مألوفة وجميعنا نعرفها، سواء كانت كرات بيلي، أو حبيبات من الرمل أو الملح، أو ذرات أو إلكترونات، وما إلى ذلك. وكرات الرخام (البلي) مثال جيد لتوضيح خصائص الجسيمات.

البلي عبارة عن قطعة كروية من الزجاج تشغل حيزًا من فراغ، وإذا دفعنا كرة الرخام بإصبعنا فإننا ننقل الطاقة الحركية إليها، والبلي المتحرك يحمل هذه الطاقة معه. مثلًا لو رمينا بحفنة منها في الهواء فإنها ستتحطم في النهاية ناقلةً طاقتها إلى الأرض. بالمقابل وعلى النقيض من ذلك فإن الأمواج تنتشر.

ومن الأمثلة على الأمواج؛ الأمواج الكبيرة في المحيطات المفتوحة، والتموجات في بركة الماء، والأمواج الصوتية والضوئية. ولو كانت الموجة في لحظة ما تتموضع في مكان واحد فإنها ستنتشر مع الوقت لتغطي منطقةً أكبر، مثل التموجات التي تحدث في البركة عند سقوط حصاة فيها.

وتحمل الموجة معها طاقةً متعلقة بحركتها. وعلى عكس الجسيمات ؛ توزَع الطاقة على الفراغ أو الحيز المكاني بسبب انتشار الموجة.

لماذا تختلف الموجة عن الجسيم ؟

سترتد الجسيمات عند اصطدامها ببعضها، ولكن الموجات تمر عبر بعضها البعض، وتخرج دون أي تغيير. ويمكن أن تلغي الموجات بعضها البعض إذا تداخل القاع مع القمة.

ازدواجية الموجة - الجسيم الجسيمات دون الذرية ميكانيك الكم الطاقة الفراغ الحيز المكاني طاقة الجسيم الأمواج موجات الإلكترون

ويمكن ملاحظة ذلك عند مرور أطراف من الموجة عبر ثقوب متقاربة ومتساوية المسافة عن بعضها، إذ تنتشر الأمواج في جميع الاتجاهات وتتداخل، ما يؤدي إلى ظهور مناطق تختفي فيها الأمواج، ومناطق أخرى تصبح فيها أقوى.

تُظهر الصورة أدناه تجربة الشق المزدوج التي اخترعها الإنجليزي متعدد جوانب الثقافة توماس يونج. وتسمى هذه الظاهرة بـِ(الحيود – diffraction).

وعلى النقيض من ذلك، فإن كرات البلي التي تُلقى على الحاجز، إما أن تنعكس أو أن تمر مباشرةً عبر أحد الثقوب. وعلى الجانب الآخر من الحاجز، نرى كرة البلي تتخذ اتجاهًا واحدًا من اتجاهين متوازيين، اعتمادًا على الثقب الذي مرت منه.

لوح وداعًا للموجات

تُعد ظاهرة الحيود خاصيةً معروفة لموجات الضوء. ولكن في بداية القرن العشرين، وجَدَت مشكلة في نظريات الأمواج الضوئية المنبعثة من الأجسام الساخنة، مثل الجمر أو الضوء القادم من الشمس، ويسمى هذا الضوء بإشعاع الجسم الأسود.

وتتنبأ هذه النظريات دائمًا بالطاقة اللا نهائية للضوء المنبعث ما بعد الطرف الأزرق للطيف – كارثة الأشعة فوق البنفسجية. والحل هو الافتراض أن طاقة الأمواج الضوئية لم تكن مستمرةً؛ ولكنها جاءت بكميات ثابتة كما لو كانت مكونةً من عدد كبير من الجزيئات كحفنة من كرات البلي.

ومن هنا أتت الفكرة بأن موجات الضوء تتصرف بمثابة جسيمات (فوتونات). وإذا كان الضوء الذي اعتقدنا أنه يشبه الموجة يتصرف أيضًا مثل الجسيمات ، فهل يمكن أن تتصرف جسيمات مثل الإلكترونات والذرات كالأمواج؟

ولشرح بنية الذرات وسلوكها، افترضنا ضرورة امتلاك الجسيمات خصائص تشبه الموجات. وإذا كان هذا صحيحًا، فيجب أن ينتشر الجسيم بعد عبوره من الحاجز من خلال زوج من الثقوب المتقاربة، تمامًا مثل الموجة.

حيود الذرة والإلكترون

أثبتت التجارب أن الجزيئات الذرية تتصرف تمامًا كالأمواج، وعندما نطلق إلكترونات على الشقين المزدوجين في الحاجز، ثم ننظر إلى توزيع الإلكترونات على الجانب الآخر فلا نرى منطقتين -واحدة لكل شق- بل يوجد نمط من الحيود الكامل، كما لو أننا استخدمنا أمواجًا بدلًا من الإلكترونات.

هذا مثال أخر على تجربة يونغ الشقية التي أظهرناها أعلاه، لكن هذه المرة باستخدام موجات الإلكترون. وتشكل هذه المفاهيم أسس نظرية الكم، والتي قد تكون أنجح نظرية طورها العلماء على الإطلاق.

والأمر الغريب في تجربة الحيود هو أن موجة الإلكترون لا ترسب طاقتها على كامل سطح المكشاف، كما تُوقِع أن يحدث من الموجة على الشاطئ؛ بل تتركز طاقة الإلكترون عند نقطة، كما لو كانت جسيمًا. ولذلك عندما ينتشر الإلكترون مثل الموجة، فإنه يتداخل عند نقطة ما كجسيم، وهذا ما يسمى بازدواجية الموجة والجسيم.

تتحرك الموجة بشكل غامض

لو انتشر الإلكترون أو الفوتون كموجة، لكنه وضع طاقته في نقطة، ماذا يحدث لبقية الموجة؟ ستختفي من المكان كله، ولا يمكن رؤيتها مجددًا. إذ تعلم تلك الأجزاء من الموجة، البعيدة عن نقطة التفاعل أن الطاقة فُقدَت؛ وتختفي على الفور.

ولو حدث هذا مع أمواج المحيط، فسيتلقى أحد راكبي الأمواج الطاقة كاملةً، وفي الوقت نفسه ستختفي موجة المحيط على طول الشاطئ. إذًا؛ ينطلق راكب أمواج واحد على طول سطح الماء، ويظل الباقي في أماكنهم على السطح.

وهذا ما يحدث مع الفوتونات والإلكترونات وحتى موجة الذرة.

وبطبيعة الحال حير هذا اللغز الكثير من العلماء، بمن فيهم آينشتاين. وعادةً ما يُتجاهَل ويشار إليه باسم (انهيار الدالة الموجية – collapse of the wavefunction) عند القياس.

اليقين بعدم اليقين

عندما تنتشر الموجة: أين الجسيم؟ – حسنًا نحن لا نعرف بالضبط.

يقع في مكان ما في منطقة من الفراغ على بعد مماثل لتوزيع الأطوال الموجية التي تحدد الموجة. وهذا هو المعروف باسم مبدأ عدم اليقين لهايزنبيرغ.

وبالنسبة للأجسام التي نتعامل معها يوميًا مثل البلي والملح والرمل، فتكون أطوال أمواجها صغيرةً جدًا بحيث يمكن قياس موقعها بدقة. أما بالنسبة للذرات والإلكترونات يصبح الأمر أقل وضوحًا.

وفي تجربة الحيود يكون طول موجة الإلكترون كبيرًا، وبالتالي فإن موقع الإلكترون غير مؤكد. وينتقل الإلكترون فعليًا عبر الشقين في نفس الوقت، تمامًا مثل الموجة.

وفيما يتعلق بعالَم الجزيئات الدقيقة هذا، يصبح من المستحيل بالنسبة لنا أن نتخيله، لأنه يتعارض مع التجربة اليومية. كان آينشتاين قلقًا بشأن مكان الجسيم، وكانت المعلومات الثابتة مفقودةً في نظرية الكم.

وفي ورقة مشهورة حول المتغيرات الخفية، استخلص آينشتاين وزملاؤه ناثان روزن وبوريس بودولسكي أنه أو أن نظرية الكم كانت خاطئة أو أن المشكلة تكمن في فهمنا للواقع نفسه. وأثبتت سلسة من التجارب الدقيقة والذكية أن نظرية الكم صحيحة وأن مفهومنا للواقع كان خاطئًا.

سلوك شبحي

ولكن هذه ليست نهاية القصة، إذ تضمنت التجارب التي دحضت مفاهيمنا حول الواقع جسيمين مرتبطين معًا بمثابة موجة واحدة، إذ ثؤثر القياسات التي تُجرى على أحد الجسيمين، في الخصائص الفيزيائية للجسيم الآخر، رغم أنها قد تكون متباعدة جدًا.

وهذا ما يُعرَف باسم (الفعل الشبحي عن بعد) وهو ناتج عن التشابك الكمي. إنه مفهوم غامض جدًا؛ لكنه يشكل أساس أجهزة الكمبيوتر الكمية والتشفير الكمومي.

إذًا ما هي المشكلة مع الواقع؟

في هذه المرحلة، تصبح المشكلة برمتها صعبةً للغاية. لكن لا تقلق بشأن هذا الأمر. وكما قال ريتشارد فاينمان، الرجل اللامع الحائز على جائزة نوبل: «أعتقد أنني أستطيع أن أقول وأنا مطمئن أن لا أحد يفهم ميكانيكا الكم».

ويعتاد معظم الأشخاص العاملين في هذا المجال على المفهوم ويستمرون في حياتهم، أو يصبحون فلاسفة.

وأما بالنسبة للواقع؟

– أعتقد أن البروفيسور فاينمان لديه الكلمة الأخيرة: «المفارقة هي مجرد تعارض بين الواقع وشعورك بما يجب أن يكون عليه الواقع».

اقرأ أيضًا:

لماذا تعتمد الطبيعة على الجنس للتكاثر؟

معلومات وحقائق عن عنصر الكريبتون

ترجمة: محمد رشود

تدقيق: محمد الصفتي

المصدر