في هذا المقال سنتحدث عن نظرية الحقل الكمومي والتي تعتبر من أكثر الأفكار عمقًا وصعوبةً في الفيزياء النظرية. لكن سنتحدث هنا بطريقة مبسطة قابلة للفهم ولن نتطرق للرياضيات المعقدة. تخيل أنك طفل بعمر الخامسة، وأنك تتلقى درسك الأول في العلوم من شخص راشد، يقول لك الراشد أن العلم في معظمه هو معرفة مما تصنع الأشياء. كل شيء في العالم مبني من أشياء أصغر ومن المثير أن نعرف ما هي هذه الأشياء وكيف تعمل.

السيارة على سبيل المثال، مصنوعة من قطع معدنية صغيرة تجتمع مع بعضها بطريقة خاصة. الجبل مصنوع من طبقات صخرية دُفعت للأعلى من باطن الأرض. أما الأرض نفسها، فهي مصنوعة من طبقات من الصخور تطفو فوق معادن منصهرة ومحاطة بالماء والهواء. فكرة أن كل شيء مصنوع من أشياء أصغر أعجبتك. فتبدأ بسؤال البالغ العديد من الأسئلة المزعجة، مثل:

  • مم يصنع البشر؟ من العديد من الأعضاء.
  • مم تصنع الأعضاء؟ من الخلايا.
  • مم تصنع الخلايا؟ من العديد من العضيات.
  • مم تصنع العضيات؟ من البروتينات.
  • مم تصنع البروتينات؟ من الأحماض الأمينية.
  • مم تصنع الأحماض الأمينية؟ من الذرات.
  • مم تصنع الذرات؟ من الإلكترونات، والبروتونات، والنترونات.
  • مم تصنع الإلكترونات؟ من حقل الإلكترونات.
  • مم يصنع حقل الإلكترونات؟

هنا تنتهي الأجوبة؛ فللأسف أقصى معرفتنا العلمية هو أن الكون مصنوع من الحقول فقط، وأن هذه الحقول غير مصنوعة من شيء آخر. لكن من غير الصحيح أن نقول أن الحقول هي أكثر الأشياء أساسيةً نعرفها في الطبيعة؛ لأننا نعرف شيئًا يمكن اعتباره أكثر أساسية، نعرف القوانين التي تحكم هذه الحقول.

إن قدرتنا على التعبير عن هذه القوانين بشكل رياضي تعكس العديد من انتصارات الفيزياء الحديثة. ولعل أهم هذه الانتصارات هو ميكانيكا الكم. لنفهم ماهي الحقول علينا أولًا أن نصفها بطريقة مبسطة. إذن لنتخيل أن الحقل الكمومي مصنوع من عدد لا نهائي من الكرات المتصلة بنوابض كما في الشكل:

ولإبقاء الأمور بسيطة سنتخيل أن هذه النوابض لا تسمح إلّا بالحركة لأعلى أو لأسفل (لا يمكنها الحركة جانبيًا أو الالتفاف). هكذا يمكننا تسمية هذه النوابض بمصطلح فيزيائي حقل عددي (Scalar field). كلمة عددي هنا تعني أن قيمة الحقل في نقطة معينة وفي لحظة معينة يمكن التعبير عنها باستخدام عدد واحد فقط، هو ارتفاع الكرة (لو كان حقلًا موجهًا (شعاعيًا أو متجهيًا) Vector field يجب أن نستخدم مصفوفة من الأعداد).

والآن لجعل هذه الصورة أقرب لما يمكن أن نسميه حقل يجب أن نربط بين الكرات؛ لينتشر التأثير عبر الحقل ككل إذا أثرنا على إحداها. لذا لنتخيل أننا ربطنا بين هذه الكرات باستخدام أشرطة مطاطية.

شرح مبسط لنظرية الحقل الكمومي الفيزياء النظرية الأنظمة الفيزيائية الإلكترونات النيوترونات البروتونات الكواركات الجسيمات دون الذرية

الآن، إذا قمنا بإحداث اضطراب في هذا الحقل الكمومي فإن هذا الاضطراب سينتشر كموجة. هذه الموجة في الحقيقة هي الجسيم في نظرية الحقل. هذه الجسيمات (الاهتزازات في الحقل) لها خصائص مألوفة، مثلًا لها سرعة محددة متعلقة بوزن الكرة، ومرونة النابض، والأشرطة المطاطية.

كما تحدد خصائص النابض كيفية تفاعل الجسيمات مع بعضها؛ فإذا اصطدم جسيمان فإنهما إما سينفران من بعضهما أو يعبران عبر بعضهما البعض دون تفاعل.

يعتمد هذا على مدى مثالية النوابض؛ فإذا كانت مثالية تمامًا (أي أن قوة الإرجاع المتولدة في النابض ترتبط خطيًا بعلاقة مباشرة مع مقدار الإزاحة عن وضع التوازن، كما يصف قانون هوك) لا يحدث تفاعل بين الجسيمات، بينما إذا كانت النوابض غير مثالية فإن الجسيمات ستنفر من بعضها.

هذا النموذج يبين ما نسميه بازدواجية الـ موجة-جسيم الذي تتمتع فيه الجسيمات هنا بكامل خصائص الأمواج، كقدرتها على الانعراج أو التداخل الهدام. لكن هناك عيبًا في هذا النموذج؛ إذ لا يأخذ بالاعتبار ما نسميه بتكميم المادة؛ فتأتي المادة بقيم محددة لا يمكن تجزئتها (لا يمكن أن نجد في الطبيعة نصف إلكترون). بينما يمكننا أن نضغط بخفة أو بشدة على إحدى الكرات لنسبب التموج في الحقل في نموذجنا.

لنصلح هذه المشكلة، سنجعل كل كرة من كرات الحقل خاضعة لقوانين ميكانيكا الكم. أي أن كل كرة تخضع للقانونين التاليين:

1- لا يمكن أن تتوقف عن الاهتزاز.

2- ارتفاع اهتزاز الكرة يمكنه أن يأخذ قيم محددة منفصلة فقط.

إن تكميم اهتزازات الكرة له نتيجتان مهمتان. الأولى، يجب أن تصرف طاقة تساوي طاقة كمة واحدة على الأقل إذا أردت إحداث اهتزاز في الحقل (وبالتالي خلق جسيم)، وأي طاقة أقل من هذا الحد لن تُقبَل من قِبَل الحقل بكل بساطة.

كمية الطاقة هذه تُسمى بالكتلة السكونية لجسيم ما؛ وهي تساوي كمية الطاقة اللازمة لإضافة جسيم للحقل. في الحقيقة هذا ما تعنيه علاقة آينشتاين (E= mc^2) في نطاق نظرية الحقل.

وبالتالي، كلما كان الجسيم ثقيلًا احتجنا لطاقة أكبر لتوليد جسيم جديد في الحقل؛ لهذا السبب احتاج العلماء لمسرعات جسيمات كبيرة لدراسة جسيمات ثقيلة كبوزون هيغز؛ إذ يجب أن تُعطي الحقل طاقة كبيرة ومركزة بما فيه الكفاية لتوليد هكذا جسيم.

النتيجة الثانية المهمة، هو أن هذه الصورة تغير نظرتنا للفضاء الخالي بشكل جذري. إذ أننا نُعرِّف الفضاء الخالي عادة بأنه المكان الذي لا يحوي أي جسيمات. في نموذجنا يعني هذا أن الكرات ثابتة لا تتحرك، لكننا عندما أضفنا ميكانيكا الكم لنموذجنا اشترطنا أن الكرات بحالة حركة دائمة ولا يمكنها التوقف.

هذا يجعل من الخلاء مكان يعجُّ بالجسيمات التي تنشأ من العدم وتختفي بعد لحظات من نشأتها. نُسمي حركة الحقل العشوائية هذه بتقلبات الخلاء (Vacuum fluctuations)، ومن آثارها ما نسميه بتأثير كازمير، الذي تتقارب فيه صفيحتان متوازيتان قريبتان جدًا من بعضهما بسبب الجسيمات التي تدفعهما نحو بعضهما.

نتمنى أن يكون هذا الشرح البسيط مفهومًا وأن نكون قد غيرنا نظرتكم لما يوصف بإحدى أكثر النظريات للفيزيائية تعقيدًا. فخلف المعادلات المعقدة لنظرية الحقل الكمومي هناك الكثير من الخيال والجمال والتساؤل.

اقرأ أيضًا:

شرح ظاهرة الطفو الكمومي للمواد ذات الناقلية الفائقة

الزمن الكمومي: ما هو الزمن بالضبط؟

ترجمة: مهران يوسف

تدقيق: براءة ذويب

المصدر