تُصنف القوى النووية الشديدة بكونها إحدى أربع قوى أساسية في الطبيعة، والقوى الثلاثة المتبقية هي الجاذبية، والقوى الكهرومغناطيسية، والقوى النووية الضعيفة. وكما يشير اسمها فإن القوى النووية الشديدة هي الأقوى بين القوى الأربعة، فهي مسؤولة عن ربط الجسيمات الأساسية في المادة (الكواركات) لتشكيل جسيمات أكبر.

النموذج المعياري

يُعتبَر النموذج المعياري النظرية الحاكمة لفيزياء الجسيمات، إذ تصف هذه النظرية أحجار البناء الأساسية للمادة وكيفية تفاعلها. تطورت النظرية في بداية سبعينيات القرن الماضي مع مرور زمن طويل ومن خلال تجارب كثيرة، واعتُمدَت بعد كل تلك التجارب بمنزلة نظرية فيزيائية ناجعة، وفقًا لـ(المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية سيرن – CERN, the European Organization for Nuclear Research).

يخضع الكوارك؛ أحد أصغر الجسيمات وأهمها، غير القادر على التجزؤ إلى أجزاء أصغر، للنموذج المعياري. تُعد هذه الجسيمات حجر الأساس لطبقة جسيمات ضخمة تُدعى الهادرونات، والتي تتضمن في تكوينها البروتونات والنيوترونات. لم يرَ العلماء أي دليل على وجود أي شيء في الكون أصغر من الكوارك، ولكنهم ما زالوا يبحثون.

اقتُرح وجود القوى النووية الشديدة للمرة الأولى لشرح السبب وراء تماسك النوى الذرية. يبدو أن النوى تبقى متماسكةً بسبب القوى الكهرومغناطيسية التنافرية بين البروتونات موجبة الشحنة المتموضعة داخل النواة. وجِد لاحقًا أن القوى النووية الشديدة لا تسبب تماسك النوى فقط، بل هي مسؤولة عن ربط الكواركات المُشكلة للهادرونات مع بعضها.

نقرأ في الدورة الفيزيائية التي نشرتها جامعة دوك بعنوان “القوى الأربعة”: «إن تفاعلات القوى النووية الشديدة مهمة في ربط الهادرونات مع بعضها. تربط التفاعلات الشديدة مكونات الهادرونات من الكواركات، بينما تربط القوة المتبقية الهادرونات مع بعضها البعض، كالبروتونات والنيوترونات الموجودة في النواة».

الكواركات والهادرونات

اقترح عالما الفيزياء (موراي جيلمان – Murray Gell-Mann) و(جورج زفايغ – George Zweig) بشكل مستقل وجود الكواركات، نظريًا، عام 1964، والتُقطت الجسيمات للمرة الأولى في (مسرع ستانفورد الخطي المخبري – Stanford Linear Accelerator National Laboratoryin) عام 1968. اختار جيلمان اسم الكوارك من قصيدة تظهر في رواية جيمس جويس (بَعْث آل فينغان – Finnegans Wake).

نقرأ في كتاب “الجسيمات والنوى: مقدمة إلى المفهوم الفيزيائي” لمؤلفه (بوغدان بوف – Bogdan Povh) وزملائه (منشورات سبرينغ عام 2008) ما يلي: «أظهرت التجارب على مسرعات الجسيمات في خمسينيات وستينينات القرن الماضي أن البروتونات والنيوترونات هي ممثل جزئي لطيف واسع من الجسيمات التي نطلق عليها الآن الهادرونات، أو ما ندعوه أحيانًا بمجموعة الهادرونات».

فصّل العلماء الطرق التي تنشئ فيها الكواركات جسيمات الهادرونات هذه. تكتب لينا هانسن في الورقة البحثية “القوة اللونية – The Color Force”، الورقة العلمية التي نشرتها جامعة دوك على الإنترنت،: «يوجد نوعان من الهادرونات؛ الباريونات والميزونات. يتألف كل باريون من ثلاثة كواركات، ويتألف كل ميزون من كوارك وكوارك مضاد».

يُعتبر الكوارك المضاد بمثابة المعاكس المادي المضاد للكوارك، إذ يمتلك شحنةً كهربائيةً معاكسةً. تُعد الميزونات طبقةً من الجسيمات تكوّنها البروتونات والنيوترونات، وهي جسيمات تمتلك منتصف عمر قصير، إذ تُنتج في مسرعات الجسيمات الضخمة، وضمن التفاعلات بأشعةً كونيةً عالية الطاقة.

خصائص الكوارك: النكهة واللون

ما هي القوى النووية الشديدة ربط الجسيمات الأساسية في المادة القوى الأساسية الأربعة في الكون البروتونات النيوترونات الكواركات

يُطلق علماء الفيزياء على التنوعات الستة للكوارك اسم (نهكات الكوارك – Quark Flavor). يُشار إلى التنويعات الستة للكوارك، بترتيب تصاعدي للكتلة، كوارك علوي، كوارك سفلي، كوارك غريب، كوارك ساحر، كوارك قمي، كوارك قعري. تُشكل الكواركات الفوقية والتحتية، والتي تُعتبر مستقرةً، البروتونات والنيوترونات. يتكون البروتون، مثلًا، من ثلاثة كواركات؛ اثنين عوليين، وواحد سفلي، ويشار إليه بالرمز (علوي علوي سفلي – uud).

تُنتَج النكهات الأخرى القوية للكوارك ضمن التفاعلات عالية الطاقة، وتمتلك نصف عمر قصيرًا للغاية. توجد هذه النكهات في الميزونات والتي تشمل أصنافًا مختلفةً من نكهات الكوارك على شكل أزواج كوارك- كوارك مضاد.

اقترح العالمان (ماكوتو كوباياشي – Makoto Kobayashi) و(توشيهيدي ماساكاوا – Toshihide Maskawa) عام 1973، وجود النكهة الأخيرة من الكوارك؛ الكوارك القمي، نظريًا، ولكنها لم تُكتشف حتى عام 1995 في تجربة تسريع في (مختبر مسرع فيرمي الوطني – Fermi National Accelerator Laboratory). مُنح كوباياشي وماساكاوا جائزة نوبل للفيزياء عام 2008 لصحة افتراضهم.

تمتلك الكواركات خاصية أخرى بستة تنويعات. يُشار إلى هذه الخاصية باسم خاصية اللون، ولكنها تختلف عن المفهوم الشائع للون. تدعى هذه التنويعات الستة بـِ؛ أحمر، وأزرق، وأخضر، وأحمر مضاد، وأزرق مضاد، وأخضر مضاد. ت

نتمي الألوان المضادة إلى الكواركات المضادة. تشرح الخاصية اللونية قدرة الكواركات على الخضوع لـِ(مبدأ باولي للاستبعاد – Pauli Exclusion Principl)، والذي ينص على أنه لا يمكن لجسمين متطابقين شغل الحيز نفسه.

ولهذا يجب أن تمتلك الكواركات التي تُشكل الهادرونات المتشابهة لونًا مغايرًا، أي أن لكل ثلاثة كواركات ضمن باريون واحد ثلاثة ألوان مختلفة، ويجب أن يحتوي الميزون على كوارك ملون وكوارك مضاد له في اللون.

الجسيمات الحاملة القوى النووية الشديدة: الجلونات

تَنتُج القوى النووية الشديدة من التبادل بين الجسيمات الحاملة للقوة التي تُدعى البوزونات. تنقل جسيمات المادة الطاقة عن طريق تبادل البوزونات بين بعضها. تُحمل القوى النووية الشديدة على نوع من البوزونات يُدعى الغلون، ويُطلق عليه هذا الاسم لعمل الجسيمات بمثابة صمغ يُلصق النوى والباريونات المكونة لها بعضها البعض.

يحدث شيء غريب في عملية التجاذب بين كواركين؛ إذ لا تنخفض القوى النووية الشديدة عند زيادة المسافة بين الكواركين، كما يحدث مع القوى الكهرومغناطيسية، بل تزداد القوى النووية الشديدة، في الحقيقة، كما يحدث عند تمديد النوابض المكيانيكية.

كما يحدث في النوابض الميكانيكية، يوجد حد للمسافة التي يمكن فصل كواركين عن بعضهما عندها، والذي يساوي قطر البروتون. تتحول الطاقة الهائلة المطلوبة لفصل الكواركين، عند الوصول إلى هذه المسافة، إلى كتلة على شكل ثنائية كوارك/كوارك مضاد.

يحدث هذا التحول (من طاقة إلى مادة) بشكل متوافق مع معادلة آينشتاين الشهيرة: E=m*c^2، أو في هذه الحالة: m=E/c^2، وهنا E تمثل الطاقة، وm الكتلة، وc سرعة الضوء. لم يُلاحظ وجود الكواركات الحرة ويُعتقد أنها لا توجد بشكل جسيمات حرة لأن هذا التحول يحدث في كل مرة نحاول فيها فصل الكواركين عن بعضهما.

يقول (كرس كويج – Chris Quigg) من مختبر فيرمي في كتابه “نظريات جاوج للقوى الكهرومغناطيسية، والنووية الشديدة، والنووية الضعيفة” من إصدارات جامعة برينستون عام 2013 الطبعة الثانية: «ستكون ملاحظة الكواركات الحرة إنجازًا ثوريًا».

القوى النووية الشديدة المتبقية

يتعادل قسم كبير من القوى النووية الشديدة التي تنتجها الجلونات، لأنها تذهب في سبيل ربط الكواركات الثلاثة التي تكون البروتون أو النيوترون، ما ينتج تقييدًا للقوى داخل الجسيم. يوجد قسم صغير من القوى النووية الشديدة، مع ذلك، والذي يعمل بين البروتونات والنيوترونات أو بين النوى.

نقرأ في كتاب “الجاذبية، النسبية الخاصة والقوى النووية الشديدة” من تأليف (كونستانيوس فايناس – Constantinos G. Vayenas) و(ستاميتيوس سوينتين – Stamatios Souentie) منشورات سبرينغر 2012 ما يلي: «أصبح واضحًا أن القوى بين النوى هي ناتج أو أثر جانبي لقوة أكبر وأساسية أكثر تربط الكواركات في البروتونات والنيوترونات مع بعضها البعض».

يُطلق على الأثر الجانبي اسم القوى النووية الشديدة المتبقية أو القوة النووية، وهي التي تربط النوى مع بعضها في مواجهة القوى الكهرومغناكيسية التنافرية بين البروتونات موجبة الشحنة التي تعمل على فصلها عن بعضها.

تنخفض القوى الشديدة المتبقية، على عكس القوى النووية الشديدة، بشكل سريع ضمن المسافات القصيرة، وتكون فعالةً فقط بين الجسيمات المتباعدة ضمن النواة.

تنخفض القوى الكهرومغناطيسية بصورة أبطأ، ما يمنحها أفضلية التأثير على كامل النواة، لذا في النوى الثقيلة، خصوصًا تلك التي تحتوي على عدد ذري يزيد عن 82، بينما تبقى القوة النووية ثابتة تقريبًا، ترتفع محصلة القوى الكهرومغناطيسية في هذا الجسيم بارتفاع العدد الذري إلى حد معين تستطيع عنده فصل النوى عن بعضها.

نقرأ على صفحة (مختبر لروانس بيركلي الوطني – Lawrence–Berkeley National Laboratory) على الإنترنت والمعنونة “أبجدية العلوم النووية” ما يلي: «يُنظر إلى الانشطار النووي على أنه لعبة شد حبل بين القوى النووية الشديدة الجاذبة، والقوى الكهروستاتيكية النافرة. تنتصر القوى الكهروستاتيكية عند حصول تفاعل الانشطار النووي».

تأخذ الطاقة الناتجة عن تحطيم القوى النووية المتبقية شكل جسيمات سريعة جدًا وأشعة غاما، ما ينتج ما نطلق عليه النشاط الإشعاعي. يغير الاندماج مع الجسيمات الناتجة عن التحلل هذه العملية مسببًا سلسلةً من التفاعلات النووية، وتمد الطاقة الناتجة عن انشطار النوى الثقيلة، مثل اليورانيوم 235 أو البلوتونيوم 239، المفاعلات النووية أو القنابل النووية بالطاقة.

حدود النموذج المعياري

يتضمن النموذج المعياري، بالإضافة إلى كل الجسيمات دون الذرية المعروفة والمتنبأ بها، القوى النووية الشديدة والضعيفة والقوى الكهرومغناطيسية، وهو يشرح كيف تؤثر هذه القوى على جسيمات المادة. لكن النظرية لا تتضمن شرحًا وافيًا عن الجاذبية.

لطالما شغل ملائمة قوة الجاذبية ضمن شكل النظرية العلماء لعقود طويلة، يُعتبر تأثير الجاذبية، وفقًا لمركز سيرن، قياسًا لهذه الجسيمات ضئيلًا للغاية، حتى أن النظرية تعمل بشكل صحيح دون أخذ هذه القوة بعين الاعتبار.

اقرأ أيضًا:

أفضل سيناريو للوجه الذي ستبدو عليه الحرب النووية

القنبلة النووية العملاقة: تعرف على أكبر تجربة نووية في العالم

ترجمة: مازن سفّان

تدقيق: آية فحماوي

المصدر