يقدر العلماء المسافة بين الأرض والأجرام القريبة منها في الفضاء باستخدام طريقة تُسمى « المنظور النجمي » أو «المنظور المُثلثي» . دعني أوضح لك الأمر بطريقة أكثر بساطة ، تُقاس حركة النجوم الظاهرة القريبة من الأرض بالنسبة للنجوم الأخرى البعيدة وذلك باعتبار تلك النجوم كخلفية للنجم المُراد قياسه ، وكل ذلك أثناء دوران الأرض حول الشمس . وللتعبير عن أهمية التزيح في القياسات الفلكية، يُصرح مارك ريد Mark Reidعالِم الفلك في مركز هارفارد سميثونيان للفيزياء الفلكية: « التزيح هو أفضل طريقة للحصول على المسافة بين الأجرام في علم الفلك، وإنه المقياس الذهبي للحصول على القياسات الدقيقة بين النجوم في الفضاء؛ وذلك لأنه يعتمد فقط على علم حساب المثلثات دون استخدام الفيزياء ».
تعتمد طريقة التزيح على قياس زاويتين، إحداهما بين النجم المُراد قياسه والأرض، وبعد ستة أشهر بين النجم المُراد قياسه والأرض عندما تكون في الجانب الآخر لهذا النجم، ثم يتكون لدينا مثلث من زاويتين وضلع ثالث يصل بين هاتين الزاويتين، وذلك وفقًا لإدوارد رايت Edward L. Wrightأستاذ علوم الفلك في جامعة كاليفورنيا. ولتوضيح الأمر بطريقة عملية أفضل، ضع إحدى يديك على عينك اليمنى، وأشر بإبهامك على جسم بعيد ثابت وغير متحرك، وبعد ذلك ضع يدك على العين اليسرى، ستجد أن إبهامك قد تحرك قليلًا من موضعه السابق، وبقياس هذه المسافة الصغيرة التي تحركها إبهامك ستعرف المسافة بين كلتا عينيك.
ولتطبيق تلك التجربة العملية على القياسات الفلكية، يستخدم العلماء خط أساس وهمي مقداره وحدة فلكية واحدة؛ وهي متوسط المسافة بين الأرض والشمس وقدرها 150 مليون كم، وتُقاس أيضًا الزاويا في تلك العملية بوحدة الثواني القوسية؛ وهي قيمة صغيرة للغاية في درجات قياس السماء ليلًا. فلو افترضنا أن النجم المُراد قياس مسافته قد انزاح في السماء زاوية مقدارها ثانية قوسية واحدة فقط، فبقسمة خط الأساس على مقدار المسافة التي تحركها هذا الجسم، نجد أن الناتج قدره 30.9 تريليون كم أو 3.26 سنة ضوئية؛ وهذا يعني أن مقدار إزاحة الثانية الواحدة -والتي يُطلق عليها اختصار PC- لأي نجم في السماء قدره 3.26 سنة ضوئية؛ أي أن هذا النجم يبعد عن الأرض بمقدار 3.26 سنة ضوئية، ويُطلق على هذا التعريف مُصطلح ثانية التزيح .
أُجريت أول عملية قياس فلكي بطريقة التزيح عام 189 ق.م بواسطة عالم الفلك اليوناني هيباركوس Hipparchus، وذلك عند ملاحظته موقعين مختلفين للكسوف الشمسي، واستخدامه هذا الكسوف لقياس المسافة بين الأرض والقمر. فقد أشار هيباركوس في كتابته -في الرابع عشر من آذار سنة 189 ق.م- إلى حدوث كسوف كُلي بمنطقة الدردنيل في تركيا، وفي نفس التوقيت بجنوب مدينة الإسكندرية بمصر حجب القمر 4/5 قرص الشمس. وبمعرفة المسافة بين الدردنيل والإسكندرية وكان قدرها 956 كم أو 9 درجات على خطوط العرض الجغرافية، وباعتبار هذه المسافة هي خط القاعدة للمثلث الذي سيُستخدم في عمليات القياسات ، وبمعرفة مقدار إزاحة القمر على قرص الشمس أيضًا التي كان ناتجها حوالي عشر درجة؛ فقد استطاع هيباركوس معرفة المسافة بين الأرض والقمر والتي كانت تُقدر بحوالي 563300 كم، أي حوالي أبعد بمقدار 50% عن القياسات الصحيحة.
الخطأ الذي وقع به هيباركوس هو اعتباره أن القمر فوق رأسه بشكل مباشر، وبالتالي أخطأ في حساب المسافة بين الدردنيل والإسكندرية. لكن في عام 1672، استطاع الفلكي الإيطالي جيوفاني كاسيني Giovanni Cassini وزميله الفرنسي جين ريتشر Jean Richer من مكان إقامتهما مراقبة كوكب المريخ في سماء الليل، ودوّن كل منهما بياناته، من ثم اجتمعا وقاسا المسافة بين الأرض والمريخ، وتُعد هذه المرة الأولى لتحديد أبعاد النظام الشمسي. ولكن، كانت أول محاولة ناجحة لقياس الأبعاد الفلكية باستخدام التزيح عام 1838 بواسطة الفلكي فريدريك بيزل F.W. Bessel الذي استطاع قياس مدى التزيح الحاصل للنجم (61 Cygni)، والذي كان قدره 0.28 ثانية قوسية، أي حوالي 3.57 PC، واستطاع أيضًا قياس المسافة بين الأرض وأقرب النجوم للنظام الشمسي وهو (Proxima Centauri) وكانت المسافة قدرها 0.77 ثانية قوسية أي 1.30 PC.
يُعد التزيح فكرة رئيسية من الأفكار التي أدت إلى تطور علوم الفلك والفيزياء الفلكية؛ فبمجرد قياس المسافة بين الأرض والنجوم القريبة من النظام الشمسي يُمكنك استنتاج علاقة بين لون النجم ودرجة سطوعه، وبعد ذلك يمكنك اعتبار ذلك السطوع كمقدار قياسي عند مسافات معينة. ومن ذلك يمكن حساب المسافة بين الأرض والنجوم البعيدة عنها باستخدام درجة سطوعها؛ لأن هناك العديد من النجوم البعيدة للغاية التي يصعب قياس المسافة بينها وبين الأرض بواسطة التزيح . ولكن بمعرفة درجة سطوعه، يمكن معرفة درجة بعده عن الأرض، بشرط استخدام القانون 1/r2، العلاقة بين درجة السطوع والمسافة علاقة عكسية، فكلما ازدادت المسافة بين ذلك النجم والأرض بمقدار الوحدة، ازدادت درجة سطوعه بمقدار الضعف وهكذا. وعند التوصل لعدد كبير من النجوم لديها نفس درجة السطوع أو درجات متقاربة للغاية، نعتبر هذه المجموعة على مسافة واحدة من الأرض.
أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية (ESA) سنة 1989 تلسكوبًا مداريًا سمّته هيباركوس، وكانت مهمته الرئيسية قياس المسافات بين النجوم بواسطة ظاهرة التزيح ، وبلغت دقته في قياس الزوايا الفلكية 2-4 ملي ثانية قوسية، وبالفعل أدى التلسكوب مهمته بنجاح في قياس حوالي 100000 نجم بدقة قياس تبلغ 200 مرة عن المحاولة السابقة، وتتوفر هذه النتائج على موقع الوكالة على شبكة الإنترنت. بعد نجاح المهمة السابقة، أطلقت الوكالة أيضًا مهمة أخرى باسم غايا عام 2013، وكان الهدف الرئيسي لهذه المهمة رسم خريطة ثلاثية الأبعاد لمجرتنا درب التبانة، ولكن التلسكوب استطاع فقط التوصل لحوالي مليار نجم وهي نسبة 1% من مجرة درب التبانة. يمكن استخدام ظاهرة التزيح لاستخدامات أخرى غير القياسات الفلكية، كاستخدامها مثلًا لرسم صور ثلاثية الأبعاد وذلك من خلال الصور ثنائية الأبعاد لشيء ما من منظورين مختلفين، وكأنه أمر شبيه بآلية عمل عين الإنسان.
وبعد تجميع الصورتين تصبحان وكأنهما صورة واحدة ثلاثية الأبعاد؛ فعلى سبيل المثال جهاز stereoscope الذي كان شائعًا في القرن التاسع عشر كان يُستخدم لعرض الصور ثنائية الأبعاد في صورة ثلاثية الأبعاد، إذ تُوضع الصورتان بجوار بعضهما البعض، وبأنواع مختلفة من العدسات تتخذ كل صورة بُعدًا مختلفًا، مع الوضع في الاعتبار المسافة بين العينين، فالصورة الموجودة على اليسار توضح ما يمكن للعين اليسرى أن تراه، والصورة اليمنى توضح للعين اليمنى ما يمكن أن تراه. يدمج هذا الجهاز الصورتين مع بعضهما لرؤيتهما في آن واحد، ولكن هناك طريقة أخرى لدمج الصور وذلك بواسطة عدسات ملونة، إذ تؤثر هذه الألوان على محتويات الصورة، فبعضها يُظهر تفاصيل ويخفي أخرى، وهكذا، ولكن في النهاية تضيع الصورة الأصلية ومحتوياتها.
ولكن، في صناعة الأفلام بصورة ثلاثية الأبعاد يختلف الأمر قليلًا، إذ يُصور المشهد الواحد بعدة كاميرات متعامدة على بعضها في شكل X، وبمجرد ارتداء النظارة الخاصة بالصورة ثلاثية الأبعاد، تمحو هذه النظارات الصور المتراكبة على بعضها لكل عين، وتقدمها كأنها صورة واحدة فقط. الأمر لا يقتصر فقط على الترفيه وعلم الفلك، ولكن هناك أيضًا استخدامات هامة للصور ثلاثية الأبعاد في مجال الطب؛ كعرض صور مقطعية لأبعد المناطق داخل الجسم، بالإضافة إلى تصوير البلورات والفيروسات وغيرها من الأبعاد الدقيقة للغاية.
ترجمة: مازن عماد تدقيق: براءة ذويب
اقرأ أيضًا:
وظيفةُ هذا الجهاز هي امتصاص الطاقة الشمسية، وإرسال الحرارة الزائدة للفضاء مرّةً أُخرى
وظيفةُ هذا الجهاز هي امتصاص الطاقة الشمسية، وإرسال الحرارة الزائدة للفضاء مرّةً أُخرى
لماذا لا تبتلع الثقوب السوداء كل الفضاء؟ هذا التفسير مثير جدًا
لماذا لا تبتلع الثقوب السوداء كل الفضاء؟ هذا التفسير مثير جدًا