لقد كانت دراسة الخلايا الدبقية قليلة التغصن – oligodendrocytes البشرية والتي تعزل الخلايا العصبية تحديًا كبيرًا، ولكن اكتشاف طريقة جديدة لاستزراع خلايا دماغية تنتج الميالين ثلاثية الأبعاد مشتقة من الخلايا الجذعية قد يُساعدنا.

لأداء وظيفة دماغية سليمة، يجب أن يُغطّي الغمد أو المَيَالين عصبونات معينة، الميالين مادة دهنية تحيط بالألياف العصبية لتسهيل انتقال النبضات. قد يؤدي فشل الانتقال إلى نتائج تبدأ بالشلل الدماغي وتصل إلى التصلب المتعدد. إن حُسن فهم الخلايا الدبقية قليلة التغصن (الخلايا الدماغية المسؤولة عن تكوين الميالين) قد يساعد على العلاج أو الوقاية من هذه الأمراض.

وبالرغم من إجراء فحوصات وتجارب طويلة المدى على عصبونات مُستزرعة لمحاولة فك أسرارها، فإن دراسة الخلايا البشرية الدبقية قليلة التغصن كانت صعبة، فهذه الخلايا تتكون أثناء المراحل المتأخرة من تطور الدماغ ومن الصعب تكوينها بجانب الخلايا العصبية البشرية أو أي خلايا دماغية أخرى بسبب التفاعلات المعقدة التي تحدث بينها أثناء تطورها. وجد الباحثون في كلية الطب – جامعة ستانفورد أن النظام الذي طوروه منذ سنوات قليلة لاستزراع خلايا دماغية بشرية مشتقة من خلايا جذعية وتتوافق مع جميع جوانب التركيب الدماغي- قادرٌ على إنتاج خلايا دبقية قليلة التغصن مع العصبونات بالإضافة إلى نوع ثالث من الخلايا الدماغية يُسمى الخلايا النجمية.

كيف يتم ترميم النسيج العصبي بعد الاذية ؟ و ما هو دور الخلايا النجمية ؟

قال (سيرجيو باسكا – Sergiu Pasca)، أستاذ مساعد ومُحاضر في الطب النفسي والعلوم السلوكية: «لدينا الآن أنواع متعددة من الخلايا تتفاعل في مزرعة واحدة، ما يسمح لنا بالنظر عن كثب إلى كيفية تفاعل الخلايا الأساسية فيما بينها داخل الدماغ البشري». نُشرت الدراسة التي تشرح التجربة على الإنترنت بتاريخ 28 يناير في مجلة (ناتشر نيوروساينس – Nature Neuroscience). باسكا هو مدير مشروع تخليق الدماغ البشري بمعهد (وو تساي – Wu Tsai) البحثي لعلوم الأعصاب وهو المشرف الرئيسي على الدراسة. أما المؤلفة الرئيسية فهي (ريبيكا مارتون – Rebecca Marton) الطالبة بالدراسات العليا.

في مزرعة واحدة، تطورت ثلاثة أنواع للخلايا الدماغية من خلايا جذعية متعددة القدرات، ونظّمت نفسها في كرات دماغية ثلاثية الأبعاد كما يحدث في الجزء الأمامي للدماغ البشري، تطورت تدريجيًا وانخرطت في تفاعلات حية مع بعضها البعض. تابع علماء جامعة ستانفورد حركات الخلايا الدبقية قليلة التغصن وكيفية التفاف امتداداتها حول العصبونات لتكوين الغلاف العازل من الميالين والذي يزيد في أنسجة الدماغ الحقيقية من سرعة انتقال الإشارات.

استطاع الباحثون تحديد الجينات النشطة خلال تطور الخلايا الدبقية قليلة التغصن في الدماغ ثلاثي الأبعاد، وتوصلوا إلى أن أنماط تنشيط الجينات كانت مماثلة إلى حد كبير للخلايا الدبقية قليلة التغصن الموجودة في الدماغ الحقيقي في مراحل التطور المختلفة. وهذا مكّنهم من تحديد الأوقات المختلفة لبدء تفعيل العديد من الجينات خلال تطور الخلايا الدبقية قليلة التغصن المستزرعة، والتي تُسبب الاضطرابات الخَلقية أثناء تكوين الميالين عند تحورها؛ ما يساعد على معرفة الآثار المحتملة عند محاكاة هذه الاضطرابات.

لأول مرة: الكشف عن خلايا دماغية غير معروفة!

ظهور الخلايا النجمية

نجا العديد من كرات الدماغ ثلاثية الأبعاد في المزرعة -والتي تحتوي على مليون خلية ويصل قطرها تقريبًا إلى ثُمن بوصة- لمدة لا تقل عن سنتين. خلال هذا الوقت، ظهر نوع آخر من الخلايا الدماغية يُسمَّى الخلايا النجمية، وهي خلايا عصبية عددها كبير في الدماغ تؤدي مهام ضرورية؛ بدايةً من التحكم بتغذية العصبونات وإمدادها بالطاقة إلى توجيه وتكوين وتوظيف التشابكات العصبية (الوصلات التي تنقل المعلومات بين العصبونات).

يبدأ تكوين معظم العصبونات في بداية الأسبوع الـ 26 من الحمل في القشرة المخية البشرية، ويبدأ أيضًا ظهور الخلايا النجمية في هذه الفترة ويستمر نضجها لعدة أشهر بعد ذلك. لم تستطع الوسائل الاستزراعية السابقة الحفاظ على هذه الخلايا على قيد الحياة لفترة كافية لتلخيص هذه العملية التطورية. تأخذ الخلايا الدبقية قليلة التغصن وقتًا أطول للظهور في المناطق العليا من الدماغ (مثل القشرة المخية) المسؤولة عن الوظائف الإدراكية المتقدمة مثل اتخاذ القرارات وتنظيم الوقت والإبصار. يبدأ تكوين الخلايا الدبقية بأعداد كبيرة قُبيل وقت الولادة. في الدراسة الحديثة، عدّل الباحثون الطريقة السابقة لاستزراع الدماغ ثلاثي الأبعاد بإضافة عوامل نمو خاصة ومغذيات لتحفيز تكوين وبقاء وتطور الخلايا الدبقية قليلة التغصن.

في اليوم الـ 100 من بداية الاستزراع، كانت الخلايا الدبقية قليلة التغصن موجودة بجانب العصبونات والخلايا النجمية. وباستخدام التصوير المجهري الحي، استطاعت مارتون رؤية الخلايا الدماغية وتسجيل سلوك الخلايا الدبقية قليلة التغصن والتي حُددت بعلامات فسفورية، وراقبت ورصدت على نطاق واسع من اليوم الـ 65 حتى اليوم الـ 275 السلوكيات المختلفة للخلايا عن طريق تغيير عمق المجال المجهري.

راقب الباحثون الخلايا الدبقية قليلة التغصن وهي تهاجر من موقعها الأصلي إلى وجهتها العصبية. كشف المجهر الإلكتروني عالي الدقة عن تمدّدات الخلايا الدبقية قليلة التغصن وهي تغمد الخيوط العصبية في ما يقارب ثلاثة إلى أربعة أشهر من بداية الاستزراع. عندما عرَّض العلماء الخلايا الدماغية المستزرعة إلى مستحلب مذيب للدهون كانت الخلايا الدبقية قليلة التغصن هي الأكثر تأثرًا، على حد قول باسكا، وأضاف: «لقد كان الأمر كما لو أنها تذوب».

أتاح إنتاج خلايا دماغية مشتقة من خلايا جلد المريض للباحثين الطبيين مثل باسكا دراسة الأمراض العصبية والنفسية على المستوى الشخصي دون الحاجة إلى الحصول على نسيج دماغي حي والحفاظ عليه. يبحث فريق عمل باسكا في عدد من الاضطرابات الوراثية المتعلقة بإنتاج الميالين والتي تنشأ أثناء تطور الجنين أو أثناء الطفولة المبكرة، لكن، يمكن للدماغ ثلاثي الأبعاد الذي يحتوي على الخلايا الدبقية قليلة التغصن أن يكون مفيدًا في دراسة حالات اضطرابات إزالة الميالين مثل التصلب المتعدد والشلل الدماغي وحتى في بعض حالات الاضطراب النفسي التي يُعتقد ألا علاقة للميالين بها.

Synapse and Neuron cells sending electrical chemical signals

قال باسكا: «نعلم أن تكوين الميالين يتعطل في حالات الفصام وخاصة في مرحلة المراهقة قبل ظهور الأعراض على المريض». جعلت مزرعة سيرجيو باسكا ثلاثية الأبعاد للدماغ من الممكن مراقبة كيفية عمل ثلاثة أنواع من الخلايا الدماغية -الخلايا الدبقية قليلة التغصن (الخضراء) والعصبونات (الأرجوانية) والخلايا النجمية (الزرقاء)- وهي تتفاعل معًا في طبق واحد تمامًا كما تتفاعل في الدماغ البشري الحقيقي.

ترجمة: منار سعيد تدقيق: محمد سعد السيّد

المصدر