إنّ تضاعف الحمض النووي هو واحد من أعظم الحيل السحرية للطبيعة، راقب ذلك عن كثب وسترى أمام عينيك خلية واحدة تنقسم لنسختين متطابقتين تقريبًا بشكل سريع.

بعد أكثر من نصف قرن من البحث في علم الوراثة الجزيئية سيكون من السهل الافتراض بأنّنا قد حللنا هذه الخدعة البيولوجية، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك.

لقد كشف الباحثون النقاب الآن عن تفاصيل مهمّة عن كيفية توقيت الحمض النووي DNA لتضاعفه من خلال استخدام التقنيات المتقدّمة.

قال عالم الأحياء الجزيئية ديفيد جيلبرت من جامعة فلوريدا: «لقد كان ذلك لغزًا كبيرًا».

«وبدا التضاعف سريع التكيف لكلّ الأمور التي حاولنا القيام بها لإفساد تنظيمه (التشويش عليه)، كما فصّلنا ذلك وأظهرنا أنّه يتغيّر في الأنماط الخلوية المختلفة وهذا التكيّف يتعطّل في الحالات المرضية».

«لكنّنا حتّى الآن لم نستطع إيجاد القطعة النهائية؛ أي عناصر التحكّم أو أجزاء DNA التي تتحكّم في ذلك».

افتح أي كتاب مدرسي على هذا الموضوع وستجد رسومات تُظهر عدد أجزاء الحمض النووي DNA التي تعمل مثل أكثر أحاجي القطع المتناثرة طولًا، إذ تبني خيوطًا متماثلة تقريبًا من خلال استخدام الكيمياء الذكية ومجموعة من البروتينات المجتهدة (العاملة).

إلّا أنّ الكثير منّا لديه ذلك الإسراف في التعامل بسطحية مع تفاصيل هذا السحر الأنزيمي في إدراك تلك الخدعة الكاملة.

ولكن بالنسبة للباحثين فقد أثبت التعقيد الشديد لهذه العملية وخاصّةّ عند كائنات مثلنا، نحن الثّديّات، صعوبة في الكشف عنه.

وكباقي الحيل السحرية الجيّدة فإنّ التوقيت عامل بالغ الأهمّية، ومع كل ذلك لا يبدو أنّ العبث بالبروتينات التنظيمية سيؤدّي لذلك الاختلاف الكبير كما قد يتوقّع المرء، الأمر الذي يشير إلى أنّ الإيقاع الدقيق الكامن وراء التضاعف له علاقة أكبر مع جزيء الحمض النووي DNA الّذي يؤثّر هو على نفسه.

وفي سبيل الكشف عن البنية الكيميائية التي تتحكّم بتوقيت تضاعف الحمض النووي DNA، تحوّل جيلبرت وفريقه إلى التقنية الصاعدة والمعروفة بتقنية كريسبر-CRISPR من أجل قصّ (تعديل) صبغيات الفئران وذلك لاكتشاف العوامل الّتي تصنع الفرق.

الكريسبر هي أداة جُزيئية تعتمد على استخدام بكتريا مُصنَّعة للتعرّف على جينات الفيروسات المُهدّدة، ففي هذه التقنية عند التعرّف على كود جيني محدّد تقوم الأنزيمات المرتبطة بكريسبر بقطع وتفكيك سلسلة الكود هذه وتقضي على التهديد بشكل فعّال.

وحسب قول الباحثين يمكن استخدام نظام مشابه من أجل قطع أي سلسلة نريدها من الحمض النووي DNA.

استخدم جيلبرت ذلك لاستهداف مجموعة من التراكيب داخل بنية DNA للخلايا الجذعية الجنينية للفئران، إذ تم تبديلها أو قطعها بشكلٍ كامل.

كان التركيز في البداية على مواقع الارتباط لبروتين يُدعى عامل ارتباط-CCCTC (CTCF)، إذ يُساعد هذا البروتين على تنظيم عملية النسخ-transcription بأكملها من خلال جعل مناطق توضّعها على الحمض النووي DNA مكانًا طبيعيًا للبحث عن المواقع التي تتحكّم بعمليات DNA ذات الطابع الزمكاني الأكبر.

إلّا أنّ العبث مع هذه المواقع كان قليل التأثير على التوقيت الفعلي لعملية التضاعف لذلك كان لا بد من عمل شيءٍ آخر. ويتطلّب العثور على هذه الإبرة الافتراضية في كومة قش المزيد من الحظ.

وقد جاء هذا على شكل تحليل ثلاثي الأبعاد عالي الدقة لمواقع التلامس التي كان الحمض النووي DNA يصنعها بنفسه.

فيما كان يشبه ذلك إلى حد ما صورة مقرّبة ليد الساحر الماهر في العمل، استطاع الفريق اكتشاف “رؤوس الأصابع” التي كانت تعمل.

وحدّدوا بشكل خاص العديد من المواقع الرئيسية خارج الحدود المرتبطة ببروتين CTFC، إذ أدّى كسرها إلى فوضى تمثّلت في فقدان توقيت تضاعف الحمض النووي DNA وضعف بنيته وفقدان عملية النسخ.

يقول جيلبرت: «أدّت إزالة هذه العناصر إلى تغيير (تسريع) وقت تضاعف جزء الحمض النووي من بداية العملية إلى نهايتها».

«لقد كانت هذه من تلك اللّحظات الفريدة، إذ إن نتيجة واحدة فقط ستُفاجئك».

إنّ نتائجهم ستفتح الطريق أمام أبحاث جديدة في مجالات الصحة وعلم الأمراض، إذ يمكن أن يكشف الباحثون عن العمليات التي تُسبّب الأمراض من خلال تحديد الآليات المسؤولة عن توقيت تضاعف الحمض النووي DNA.

وقال جيلبرت: «إذا تكرّرت في مكان وزمان مختلفين فمن الممكن أن تركّب بنية مختلفة تمامًا».

لقد قطعنا شوطًا طويلًا منذ أن قدّم الفيزيائي إيروين شرودنغر- Erwin Schrödinger تنبّؤه عن “البلّورات غير المنتظمة” والتي قد تفسّر تضاعف الخلية باستخدام أكثر بقليل من فيزياء الكيمياء الأساسية.

وبعد أكثر من سبعة عقود لا تزال الفيزياء الكامنة خلف الوراثة الجزيئية تشارك أسرارها على مضض، إلّا أنّ ذلك لا يجعل أعظم عجائب الطبيعة تبدو أقل إدهاشًا.

نُشر البحث في Cell.


  • ترجمة: عدي بكسراوي
  • تدقيق: رزان حميدة
  • المحرر: ماتيو كيرلس
  • المصدر