تُجرى بعض أهمّ الأبحاث العلميّة في العالم في واحدة من أقسى الأماكن للعيش؛ ولكن ذلك لا يتم دون عواقب.

يُلقي تحليل جديد طويل الأجل -للباحثين المتمركزين في القارة القطبيّة الجنوبية- الضوء على ظاهرة نفسية نادرة، حيث أن هناك آلية تأقلُم فريدة تنشأ عندما يتم عزل الناس في بيئة مُظلمة وظروف قاسية لعدة أشهر مستمرة.

هذه الحالة -المعروفة باسم متلازمة الشتاء- ليست مجرد شيءٍ يواجه العلماء في المناطق القطبيّة النائية.

ولكن يمكن للناس أن يكونوا عُرضةً لها في ظروف أخرى استثنائية من الحبس المطوّل، كالبعثات التي تستغرق أشهرًا للوصول إلى المريخ مثلًا.

يشرح (ناثان سميث-Nathan Smith) أحد الباحثين في الدراسة، وهو عالم نفس في جامعة مانشستر في المملكة المتحدة: «النتائج التي توصلنا إليها يمكن أن تعكس شكلًا من أشكال السُبات النفسي، تقترح الأبحاث السابقة أنها آلية وقائية ضد الإجهاد المزمن، وهو أمرٌ منطقي -إذا كانت الظروف غير قابلة للسيطرة عليها- ولكنك تعلم أنه في مرحلة ما في المستقبل ستتحسن الأمور، وبالتالي قد تختار تقليل جهود التكيّف من أجل الحفاظ على الطاقة».

وللحصول على فهمٍ أفضل لأعراض متلازمة الشتاء، قام فريق سميث بدراسة الراحة النفسية لاثنين من طواقم البحث في محطة كونكورديا التي تديرها فرنسا وإيطاليا وتقع على هضبة في شرق القارة القطبية الجنوبية.

شارك في الدراسة 27 فردًا من طواقم العمل في المحطة، تم فصلهم إلى مجموعتين منفصلتين إذ تبقى كل مجموعة مدة 10 أشهر متواصلة في المحطة شاملةً أشهر الشتاء المظلمة.

حيث تم قياس جودة نومهم من خلال مُذكِّرات يملؤها المشاركون طوال فترة التجربة.

كما تم استقصاء صحتهم العاطفية واستراتيجيات التكيّف من خلال اثنين من الاستبيانات النفسية: على التوالي، جدول التأثيرات الإيجابية والسلبية (PANAS) وقائمة أوتريخت للتكيف (UCL).

لقد وجد سميث وزملاؤه من الباحثين أن جودة النوم والحالة العاطفية للمشاركين كانت تسوء خلال فترة الاحتجاز الداخلي طيلة أشهر الشتاء، ثم تبدأ بالتحسّن مع قدوم الصيف وظهور طقس أكثر دفئًا وأكثر سطوعًا.

لم تكن هذه التأثيرات مفاجئةً للباحثين، ولكن ما فاجأهم هو تأثير آليات التكّيف أثناء فترة التجربة، إذ يوضّح الباحثون في ورقتهم: «ربما كانت النتيجة الأكثر إثارةً للانتباه في هذه الدراسة هي الانخفاض الواضح في استخدام استراتيجيات التكيّف خلال فترة منتصف الشتاء.

وهذا النمط يتناقض مع الفكرة القائلة بأن الاستراتيجيات العاطفية وفكرة التهرّب تصبح أكثر نشاطًا في حالات الضغوط المزمنة».

بعبارة أخرى، تَوقّع الباحثون تراجع الأشكال الفعّالة من السلوك خلال فصل الشتاء (مثل قدرة حل المشكلات)، وتقدّم الأشكال السلبية (مثل عواطف الإنكار والاكتئاب).

ولكن في هذه الدراسة، بدأت الأشكال السلبية للتأقلُم تتناقص في استجابتها للحبس المزمن، ما أدى إلى حدوث لامبالاة عامّةً وثبات –أو رتابة- عاطفية.

ويقول الباحثون «إن هذا يتماشى مع حالة نفسية معتدلة تعرف باسم (التحديق في أنتاركتيكا-the Antarctic stare)، إذ تتميز بحالة تغير في الوعي أو شرود واضح في الذهن، وفقدان الانتباه، وتدهور في الوعي الظرفي (سرعة البديهة)».

في الحقيقة، تبدو هذه الظاهرة نوعًا من السُبات النفسي.

وقد لُوحظت أيضًا في محاكاة مهمة 520 يومًا على المريخ.

في حين أن السُبات الشتوي الزائف يترافق مع عدد من الأعراض السلبية، فإن الباحثين يتوقعون أنه قد يكون لديه بعض الإيجابيات، إذ يقدم طريقة للتعامل مع القسوة والجهد لفترات طويلة من الحبس في ظل غياب التحفيز، وتم تشبيهه بالقدرة على إيقاف الدماغ عن التفكير في الجهد.

ويعترف الفريق أننا بحاجة إلى دراسات أكبر لفحص هذه الظاهرة الغريبة، حتى لو لم يكن تأثير الحبس والعزل نفس مستوى التهديد الذي كان يؤرقنا في الماضي.

يقول سميث: «من الناحية التاريخية، سيكون هذا الأمر خطيرًا، فعندما تكون بطيئًا في الاستجابة للظروف، قد يؤدي ذلك في البيئات الجوية الباردة والقاسية إلى إصابة خطيرة أو موت.

وعلى الرغم من ذلك، فإن محطات القطب الجنوبي أكثر قابلية للحياة هذه الأيام، وتوفر مستويات عالية من الحماية ضد عناصر الطبيعة، وبالتالي فإن التوقف عن اعتبار التوتّر المُزمن آليةً للتكيّف يمكن أن يكون فعالًا».


  • ترجمة: أحمد علي.
  • تدقيق: مينا خلف.
  • تحرير: عيسى هزيم.
  • المصدر