نحن بحاجة للتحدث عن العصور المظلمة، ليست تلك العصور التي تلت سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة؛ بل العصور الكونيّة المظلمة، عن الوقت في كوننا منذ مليارات السنين قبل تشكّل النجوم الأولى، كما أنّنا بحاجةٍ أيضًا للحديث عن الفجر الكونيّ، ذلك الوقت الذي تشكّلت فيه تلك النجوم، تلك الحقبة الصاخبة التي غيّرت بشكلٍ كاملٍ وجه كوننا إلى شكله الحديث.

تلك النجوم الأولى لا تشبه أيّ شيءٍ نراه في الكون الحاليّ، وقد نكون -إن حالَفنا الحظ- على حافة رؤيتها للمرة الأولى.

 

الثقوب السوداء الأولى

بدايةً، دعونا نرتّب لغزًا صغيرًا

جميعنا نعرف كيف تتشكّل الثقوب السوداء، نجم عظيم بكتلةٍ أكبر من كتلة شمسنا بثماني مراتٍ على الأقل يعيش حياته القصيرة، والمعروفة بدمج الهيدروجين مع الهيليوم.

وعند نفاذ الهيدروجين يبدأ هذا الثقب بدمج الهيليوم، وبعد نفاذ الهيليوم يبدأ الثقب بحرق أشياء ثقيلة، شاقًا طريقه خلال عناصر الجدول الدوريّ حتّى يصل للحديد.

تمتص عمليّة دمج الحديد الطاقة بدلًا من إفرازها، لذلك، لا شيء يمكنه إيقاف الانهيار الجاذبيّ المريع للنجم. يتقلّص كلّ شيءٍ إلى حجمٍ صغيرٍ جدًا وينشأ عندها الثقب الأسود.

مع مرور الوقت يلتقي الثقب الأسود بثقوبٍ أخرى ويبتلعها، أو أنّه يقوم بامتصاص المواد النجميّة المحيطة به فقط، ما يزيد في حشد المواد من حوله كلّ تلك الفترة.

يمكن للثقب الأسود -بإعطائه الوقت الكافي والطعام الكافي- أن يصبح عملاقًا؛ عملاقًا كبيرًا للغاية. تتوارى تلك الكائنات في قلب المجرات، قالبةً المقاييس بسهولة إلى أكثر من مليون ضعف من كتلة شمسنا.

تستمر المواد بالسقوط إلى داخله. لا يعني تحوّل الثقب الأسود إلى ثقبٍ عملاق أنّ نَهَمَه لابتلاع المواد قد توقّف، وبمجرد سقوط الغاز في الفوهة المتّسعة للثقب الأسود، فإنّه ينضغط وترتفع درجة حرارته ويسطع منه ضوءٌ ألمع من كلّ نجوم المجرة.

يُطلق على هذا الجسم عدّة أسماء؛ كوازار، نجمٌ زائف متوهج ونواة مجريّة نشطة، ولكن جميع تلك الأسماء تعني شيئًا واحدًا، ثقبٌ أسودٌ عملاق يتزوّد بالغذاء.

كلّ ذلك رائع، جيّد ومخيفٌ نوعًا ما، ولكن هناك مشكلة. نحن نرى الكوازار في الكون المنظور، وهذا يعني أنّنا نرى الكوازار في الكون الشاب، عندما كان عمر ذلك الكوازار عدّة ملياراتٍ من السنين -نعم عدّة ملياراتٍ من السنين رقم صغير بالنسبة للكون-.

والعمليّة التي شُرِحَت في الأعلى -تشكّل النجوم الكبيرة، حياتها وموتها، تشكّل الثقب الأسود، تغذيته حتّى نسب عملاقة- لا تستغرق أكثر من مليار سنة.

كيف شكّل كوننا ثقوبًا سوداء متوحّشة بهذه السرعة؟

 

حفريات العصور السحيقة

إذا كانت الطريقة المعتادة -كالآتي: نجم ← ثقب أسود ← كوازار- لا تنجح في الكون الحالي، فهي مسألة وقت حتّى يتمّ إيجاد بديل، اختصارات، طُرق أسرع لإنشاء ثقوب سوداء كبيرة تطالب مشاهداتنا بوجودها. والطريقة الأسرع لتشكيل ثقبٍ أسودٍ عملاق هي تشكيل نجمٍ عملاق.

ما مدى كبره؟ ما رأيك بمئة ألف مرة ضعف حجم شمسنا، هل هذا كافٍ بالنسبة لك؟

لا تتواجد تلك النجوم بهذه البساطة في الكون الحالي.

إذا حاولت حشر كلّ تلك الأشياء في مستوًى كافٍ من الضغط لتحويلها إلى نجم، سوف تفرّقها التفاعلات وعدم الاستقرار، مثل عجينة البسكويت التي تصنعها بيديك، ما سيشكّل عدّة نجومٍ عاديّة بدلًا من نجمٍ واحدٍ عملاق.

لذلك نعتقد أنهّ من النادر وجود نجوم صاحبة حجمٍ أكبر بمئة ألف مرة من حجم شمسنا في هذه الأيام.

لكنّ عصر الفجر الكونيّ كان وقتًا مختلفًا. أولًا، لم تُوجد العناصر الثقيلة حتّى ذلك الوقت، ولم تكن المُفاعِلات النوويّة تعمل بِما يكفي لتلويث الطرق المائيّة بين النجوم. إذ أنّ الإشعاعات الصادرة عن العناصر الأخرى هي طريقة رائعة لتبريد سحابة الغاز وتحويل أجزائها إلى قطعٍ أصغر.

ثانيًا، كان الكون الشاب مغمورًا بالإشعاع فوق البنفسجي ذي الطاقة العالية الناتج عن الولادة المفاجئة للنجوم الأخرى الأصغر حجمًا. يكسر هذا الإشعاع الهيدروجين الجزيئيّ، وهي طريقة أساسيّة لتبريد وتجزئة سحابة غازٍ عملاقة.

لذا وفي ظرف نادرٍ آخر -قد تكون الظروف موجودة تمامًا في نهاية العصور الكونيّة المظلمة لإنشاء نجمٍ عملاقٍ أو نجمٍ عملاقٍ جدًا- يمكن لكميّةٍ كافيةٍ من المادة أن تتدفّق إلى حجمٍ كافٍ دون أن تتفرق جزيئاتها لتكوّن نجمًا هائلًا.

يمكن أن تحيا هذه النجوم حياةً قصيرةً وتنهار مباشرةً لتشكّل ثقوبًا سوداء، مختصرةً الطريق الاعتياديّة لتشكيل الكوازار.

 

فواصل الفجر الكوني

هذا يبدو بمثابة فكرةٍ عظيمةٍ، ولكن في العلم، على الأفكار العظيمة أن تأتي بالدليل حتّى نبدأ بتصديقها.

في هذه الحالة، سيساعدنا الحصول على صورةٍ فوتوغرافيّة لأحد تلك النجوم العملاقة قبل أن تتحول إلى ثقبٍ أسودٍ ثمّ إلى كوازار.

هذا صعب للغاية، وذلك لأنّ العصر الذي عاشت فيه تلك النجوم وماتت، بعيدٌ عنّا للغاية. وتلك النجوم -والتي لا تزال عملاقةً بالمعايير النجميّة- صغيرة جدًا جدًا؛ ما يجعل التقاطها من كلّ تلك المسافة البعيدة أصعب.

لكن يمكن أن نحظى بضربة حظ، فالمحاكاة الحديثة تُظهر أنّ تلك النجوم الغريبة باردةٌ بشكلٍ مفاجئ، حيث أنّ درجة حرارة سطحها حوالي 6000 إلى 8000 كيلفن.

تَهبُ درجة الحرارة تلك سطح هذه النجوم توهجًا أحمرًا كثيفًا. ونتيجة لحجمها الضخم، فإنّ هذه النجوم لامعة جدًا، إذ تنفجر بالضوء بكثافة عشرة مليارات شمس.

هذا المزيج بين السطوع الشفاف والحُمرة العميقة يعني أنّ تلك النجوم قد تكون مرئيّةً في الأطوال الموجيّة للأشعة تحت الحمراء لبعض المهمات القادمة، مثل تلسكوب جيمس ويب الفضائيّ -وهو أداة مصممةٌ خصيصًا لاصطياد النجوم الأولى-.

إذا كانت النجوم العملاقة موجودة في تلك الحقب القديمة وكانت محظوظة بِما يكفي للبقاء على قيد الحياة في العصر الذي بدأت فيه أخواتها بالتحوّل إلى ثقوبٍ سوداء متوحشة، فهذا يجعلها أقرب لمجال الرؤية، عندها نستطيع أن نأخذ صورة لها.

كم ستكون رائعة تلك الصورة!


  • ترجمة: مازن سفّان
  • تدقيق: آية فحماوي
  • المحرر: ماتيو كيرلس
  • المصدر