كان الإثبات الذي نقض أفكار العالم العظيم إسحاق نيوتن عن طبيعة الضوء بسيطًا بصورةٍ مذهلةٍ، «يمكن تكراره بمنتهى السهولة، أينما تشرق الشمس»، كما أخبر الفيزيائي الإنجليزي توماس يونج أعضاء الجمعية الملكية في لندن في نوفمبر من العام 1803، واصفًا ما يُعرف الآن بتجربة الشقّ المزدوج (شقّي يونج)، وهو لم يفرط في المبالغة حينها، فقد ابتكر تجربة رائعة، وحاسمة، وبسيطة ليبرهن على الطبيعة الموجية للضوء، وبهذا دحض نظرية نيوتن التي تفترض أن الضوء مُكوّن من جسيمات أو جزيئات.

ورغم ذلك، جاء ميلاد فيزياء الكم في أوائل القرن الماضي ليظهر جليًّا أن الضوء يتكوّن من وحدات بالغة الصغر وغير قابلة للانقسام -أو ما تُعرف باسم (الكمّات – quanta)- من الطاقة، والتي أطلقنا عليها الفوتونات.

ولكن عند إجراء تجربة يونج على فوتونات مفردة أو حتى جزيئات مفردة من المادة مثل الإلكترونات والنيوترونات، فهي تظل لغزًا بالنسبة لنا، مثيرةً أسئلة جوهرية عن طبيعة الواقع ذاته، حتى أن البعض قد استخدمها في افتراض أن العالم الكمومي يتأثر بالوعي البشري، لنحجز لعقولنا وكالةً ومكانًا في علم الوجود الكوني.

لكن رغم ذلك، هل تعرض هذه التجربة البسيطة مثل تلك القضية؟

في النموذج الكمومي الحديث، تشمل تجربة يونج بثّ جزيئات مفردة من الضوء أو المادة على شقّين أو فتحتين في جدار معتم، وعلى الجانب الآخر من الجدار تُوضع شاشة تسجّل وصول هذه الجزيئات، لنفترض أنها لوحة تصوير فوتوغرافي في حالة الفوتونات.

يقودنا المنطق إلى توقع أن هذه الفوتونات سوف تعبر من خلال أحد الشقّين وتتراكم خلفهما.

حسنًا، فإنها لا تفعل ذلك.

لكن خلافًا لذلك، فهي تتجه لأجزاء معينة من الشاشة وتتجنب أجزاءً أُخر، لتخلق حزمًا بديلة من الضوء والظلام.

وهي ما تُسمى بأهداب التداخل، وهو النوع الذي تراه عند تداخل مجموعتين من الأمواج.

عند اصطفاف قمم موجة واحدة مع قمم موجة أخرى سيحدث التداخل البنّاء (الحِزم المضيئة)، وعندما تصطف القمم مع القيعان سيحدث التداخل الهدّام (الحِزم المظلمة).

ومع ذلك، لا يوجد سوى فوتون واحد فقط يعبر من خلال الجهاز في أي وقت من الأوقات، إذ يبدو وكأن كل فوتون يعبر خلال كلا الشقّين في آن واحد، ويتداخل مع نفسه.

وذلك لا معنى له بالشكل الكلاسيكي.

ومع ذلك من الناحية الرياضية، ما يعبر من خلال كلا الشقّين ليس جزيئات أو موجة مادية، ولكنه شيء يُطلق عليه الدالّة الموجية، وهي دالّة رياضية مُجرّدة تمثل حالة الفوتون (موقعه في حالتنا هذه)، وتتصرف الدالّة الموجية مثل الموجة.

فهي تضرب الشقّين، لتنبثق أمواجٌ جديدة من كلّ شقّ على الجانب الآخر، لتنتشر وتتداخل فيما بينها في نهاية المطاف، ويمكن استخدام هذه الدالة الموجية المشتركة في العمل على احتمالات أماكن تواجد الفوتون.

ويمتلك الفوتون احتمالية عالية في أن يوجد حيث تتداخلت الدالّتان الموجيتان تداخلًا بنّاءً، ومن غير المرجّح أن يوجد في المناطق التي يحدث بها تداخل هدّام.

ويُقال أن القياسات -في هذه الحالة التداخل بين الدالة الموجية واللوح الفوتوجرافي- تسبب انهيار هذه الدالّة الموجية، فهي تنتقل من حالة الانتشار قبل عملية القياس لتبلغ ذروتها في أحد تلك الأماكن حيث يتجسّد الفوتون عند إجراء القياس.

هذا الانهيار الظاهري الناجم عن عملية القياس للدالّة الموجية هو مصدر العديد من الصعوبات المفاهيمية في ميكانيكا الكم.

فلا توجد طريقة لنتوقع على وجه اليقين أين سيحل الفوتون قبل الانهيار، إذ يمكنه أن يظهر في أي من الأماكن التي تكون فيها الاحتمالية غير صفرية، فلا توجد وسيلة لوضع رسم بياني لمسار الفوتون من المصدر وحتى الكاشف الكمي، إذ أن الفوتون لا يعتبر حقيقيًا كمثل حقيقة تحليق الطائرة من سان فرانسيسكو إلى نيويورك.

ولقد حاول فيرنر كارل هايزنبيرج، بالإضافة لعلماء آخرين، تفسير الرياضيات على أنها تعني أن الواقع غير موجود حتى نُلاحظه، فكتب: «إن فكرة وجود عالم يمكن الشعور به بالحواس، والذي توجد أصغر أجزائه المجرّدة بنفس معنى وجود الأحجار والأشجار، بغض النظر عن ملاحظتنا له من عدمها، هو أمر مستحيل».

واستخدم جون ويلر أيضًا أحد متغيرات تجربة الشقّ المزدوج ليذكر: «لا يمكن اعتبار أي ظاهرة كمّية أوّلية كظاهرة حتى تُدوَّن (تُلاحظ، أو تُسجّل على نحو لا يُدحض)».

ورغم ذلك، تعتبر نظرية الكم غير واضحة تمامًا بخصوص ما يُشكّل «القياسات».

فهي تفترض ببساطة أن جهاز القياس يجب أن يكون كلاسيكيًا، دون تعريف مكان وقوع تلك الحدود الفاصلة بين الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الكمّية؛ لذا فهي تترك الباب مواربًا لأولئك الذين يعتقدون بأن الوعي البشري يحتاج إلى تحفيزه كي ينهار.

في شهر مايو/أيار الماضي، ذكر هنري ستاب وزملاؤه في منتدى النقاش أن تجربة الشقّ المزدوج ومتغيراتها الحديثة توفر دليلًا على أن «المراقب الواعي لا غنى عنه» لفهم العالم الكمومي، وأن السمو العقلي يكمن وراء العالم المادي.

وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه التجارب لا تضع دليلًا تجريبيًا لمثل هذه الإدعاءات؛ إذ أن في تجربة الشقّ المزدوج التي تُجرى على الفوتونات الواحدة، كل ما يمكن للمرء فعله هو التأكّد من التنبؤات الاحتمالية للرياضيات.

فإذا ثبتت صحة هذه الاحتمالات على مدار فترة إرسال عشرات الآلاف من الفوتونات المتماثلة عبر الشقّ المزدوج، فإن النظرية تفترض أن كل دالة موجية للفوتون سوف تنهار، وذلك بفضل عملية غير واضحة المعالم تُسمى القياس، وهذا كلّ شيء.

وبالإضافة لذلك، هناك عدة طرق لمحاولة تفسير تجربة الشقّ المزدوج.

لنأخذ مثلًا نظرية دي برولي-بوم (نسبة إلى العالمين لويس دي برولي وديفيد بوم)، والتي تقول أن الواقع هو موجة وجسيمات أو جزيئات.

وأن الفوتون يتجه نحو الشقّ المزدوج مع موقع محدد في كل الأوقات، ويمر عبر أي من الشقّين؛ لذا كل فوتون يمتلك مساره الخاص.

وهو ما يُعرف بركوب الموجة التجريبية، والتي تمر عبر كلا الشقّين، وتتداخل فيما بينها ثم توجّه الفوتون لموقع التداخل البنّاء.

وفي العام 1979، قام كريستوفر دويدني وزملاؤه، في كلّية بيركبيك بجامعة لندن، بمحاكاة تنبؤ النظرية لمسارات الجزيئات التي تعبر عبر الشقّ المزدوج.

وفي العقد الماضي، أكّد الباحثون وجود هذه المسارات بالفعل، وإن كان ذلك عبر استخدام تقنية مثيرة للجدل تُسمى القياسات الضعيفة.

ولكن يظل الجدل بالرغم من ذلك قائمًا حول أن هذه التجارب أظهرت أن نظرية دي برولي-بوم لا تزال صالحة لتفسير السلوك في العالم الكمومي.

وبشكلٍ حاسم، لا تحتاج هذه النظرية للمراقبين أو القياسات أو الوعي غير المادي.

وكذلك ما يُطلق عليها نظريات الانهيار، والتي تفترض أن دوال الموجة سوف تنهار عشوائيًا، فكلما زاد عدد الجزيئات في النظام الكمومي، كلما زادت احتمالية الانهيار، ويكتفي المراقبون باكتشاف النتائج فقط.

يقوم فريق ماركوس أرندت، في جامعة فيينا بالنمسا، باختبار هذه النظريات عن طريق إرسال جزيئات أكبر وأكبر عبر الشقّ المزدوج.

فتتنبأ نظريات الانهيار بأنه عندما تصبح جزيئات المادة أكثر ضخامة من بعض المَبْدَى، فلا يمكنها أن تظل في حالة التراكب الكمومي من مرورها عبر كلا الشقّين في آن واحد، وهذا من شأنه أن يدمر نمط التداخل فيما بينها.

فقام فريق أرندت بإرسال جزيء يتكون من أكثر من 800 ذرة عبر الشقّ المزدوج، ومع ذلك ما زالوا يلاحظوا عملية التداخل، وما زال البحث عن المَبْدَى جاريًا.

ويمتلك روجر بنروز نسخته الخاصة لنظرية الانهيار، والتي تنص على أنه كلما تضخمت كتلة الجسم في التراكب الكمي، كلما كان من الأسرع انهياره لحالة أو لأخرى بسبب اضطرابات الجاذبية.

مرة أخرى، لا تعتمد هذه النظرية على المراقب، ولا حاجة للوعي.

يختبر ديرك بوميستير، في جامعة كاليفورنيا بسانتا باربرا، فكرة بنروز باستخدام نسخة من تجربة الشقّ المزدوج.

من الناحية النظرية، فإن الفكرة ليست وضع الفوتون فقط في حالة التراكب الكمومي من خلال عبور الشقّين في ذات الوقت، ولكن أيضًا وضع أحد الشقّين في حالة التراكب من خلال تواجده في موقعين في آن واحد.

فوفقًا لبنروز، فإن الشقّ النازح إما سيظل في حالة التراكب، أو سينهار، بينما يستمر الفوتون في رحلته، مما يقود لأنواع مختلفة من أنماط التداخل، وسيعتمد الانهيار على كتلة هذه الشقوق.

ظل بوميستير مستمرًا في العمل على هذه التجربة لعقد من الزمن، وربما يستطيع قريبًا أن يؤكد أو يدحض ادعاءات بنروز.

تُظهر هذه التجارب أننا لا نستطيع تقديم أي ادعاءات حول طبيعة الواقع، حتى وإن كانت هذه الادعاءات تحت دوافع رياضية أو فلسفية جيّدة.

وعلاوةً على ذلك، بالنظر إلى أن علماء الأعصاب وفلاسفة العقل لا يتفقون على طبيعة الوعي، فإن الادعاءات بخصوص أنه يتسبب في انهيار الدالّة الموجية ستكون سابقة لأوانها في أحسن الأحوال، بينما ستكون مضلِّلة وخاطئة في أسوأ الأحوال.


  • ترجمة: محمد يوسف.
  • تدقيق: علي فرغلي.
  • تحرير: عيسى هزيم.
  • المصدر