على الرغم من إيحائها بالبساطة فإنّها معقدة بشكل يفوق التصوّر.

لا يوجد الكثير من الأشياء المثيرة بقدر الأعداد الأولية في الرياضيات، تلك الأعداد التي لا تقبل القسمة إلا على نفسها وعلى الواحد.

وكما هو الحال في معظم ما يتعلق (بنظرية الأعداد -number theory)، فإنّ أكثر المسائل صعوبة فيما يتعلق بالأعداد الأولية هي تلك بالذات التي تبدو على السطح أكثرها بديهية، هل هناك نمط تتبعه الأعداد الأولية، وما هو إن وجد من الأساس؟

إنّه ليس سؤالًا سهلًا، فمنذ أن اخترع إيراتوسثينسز خوارزميته الشهيرة المعروفة بـ (غربال إيراتوسثينسز- Eratosthenes Sieve) في القرن الثالث قبل الميلاد، استسلم العديد من عظماء الرياضيين في التاريخ معلنين أنّ هذا السؤال غير قابل للإجابة.

أفضل ما لدينا حاليًا هي فرضيّة ريمان والتي تقول بأنّ الأعداد الأولية تتبع نمطًا ذا صلةٍ قوية بـ(دالة زيتا ريمان -Riemann zeta function).

قد تكون هذه الفرضية صحيحة، العديد من الرياضيين يعتقدون بأنّها أجمل من أن تكون خاطئة.

ولكنّ منذ أن طرحها ريمان قبل 160 عام لم يستطع أحد أن يأتي بإثبات لها.

لكنّ ربما يجب ألّا نفقد الأمل، فقد كشف تحليل جديد قام به باحثون من قسم الكيمياء، علم المواد والرياضيات في جامعة برنستون عن شيء مذهل، مستوًى من الترتيب في الأعداد الأولية لم يعرفه أحد من قبل.

«لقد أظهرنا أنّ الأعداد الأولية تتصرف تقريبًا كبلورة»، يصرّح الباحث الرئيسي (سالفاتور توركواتو-SalvatoreTorquato ).

«تحديدًا كمادة شبه بلورية تدعى (شبه البلورة- quasicrystals) » يضيف توركواتو.

أشباه البلورات هي بنية مماثلة للبلورات، لكنّها تكون دون خاصيّة التناظر الانتقالي، أيّ أنّ أنماط ترتيبها الذرّي لن تتكرر أبدًا.

إنّ اكتشاف أشباه البلورات من قِبَل عالِم المواد (دان شيشتمان-Dan Shechtman) عام 1982 اعتُبِرَ محطّ الكثير من الجدل.

لكنّ على الرغم من وصفه بـ “شبه العالِم” والتصريح بأنّه أصبح عارًا، تبيّن أنّ عمله على البنية “المستحيلة” مهمٌ جدًا لدرجة أنّه مُنح جائزة نوبل في الكيمياء عام 2011.

ومنذ ذلك الحين وأشباه البلورات تلعب دورًا في تطور كل شيء، بدايةً من قلي الفطائر إلى تصميم روبوتات “Terminator” حقيقيّة.

الآن توركواتو وزملائه يصرّحون أنّه بإمكاننا إضافة الأعداد الأولية للقائمة.

السر وراء هذا التنوع ما هو إلّا خاصيّة تُدعى (الاتساق الفائق- Hyperuniformity) هذه الخاصيّة المحيرة لوحظت منذ اكتشافها في أوائل هذا القرن في المواقع التي تحوي تنوعًا هائلًا، مثل شبكيّة عين الدجاج.

الآن يقول فريق توركوراتو أنّها تنطبق على فرضيّة ريمان أيضًا.

بشكل مبسّط، تشير هذه الخاصيّة إلى أنّ الأشياء التي تبدو عشوائية قد تخضع لترتيب ما. على سبيل المثال، تخيل كيسًا من المكسرات، إذا فحصت كميّات صغيرة من المكسرات فلن تلاحظ نمطًا واضحًا لترتيبها، لكنّ إذا فحصت كمية ضخمة منها فسترى أنّ الاهتزازات والصدمات العشوائية قد ولّدت نمطّا تخضع له جميع الحبات تقريبًا.

«إذا تمعّنا بالأعداد الأوليّة ضمن مسافات كبيرة من مستقيم الأعداد فإنّنا نجد أنّ الأعداد مرتبة أكثر ممّا كنّا نعتقد، على الرغم من أنّ الأعداد الأولية تبدو عشوائية على المسافات القصيرة، فإنّه بإمكاننا رؤية ترتيب والذّي تخضع له عند اعتبارها ضمن مسافات أطول».

ما يثير الدهشة فعلًا، أنّ فريق الباحثين قد استطاع شرح هذه النتيجة في شباط الماضي عن طريق تجربة واقعيّة بواسطة استخدام الأشعة السينيّة، إذ سلّطوها على أشباه البلورات ومن ثمّ حللوا نمط البقع المضيئة الناتج والمعروف بـ (قمم براغ -Bragg’s peaks).

عندما تمر الأشعة السينيّة عبر البلورات تكون هذه الأنماط دورية ومتوقعة، لكنّ عند تسليطها على أشباه البلورات يحدث أمر غريب للغاية، إذ يبدو النمط الناتج مشابهًا لنمط توزّع الأعداد الأولية بشكل صادم.

الآن تمكّن الفريق من شرح هذه الظاهرة، بواسطة استخدام تقنيات من نظرية الأعداد.

«الأمر المدهش حيال هذه النتيجة هو منحها إيّانا منظورًا مختلفًا يمكِنّنا من النظر للأعداد الأولية من منظورٍ آخر، فبدلًا من اعتبارها أرقامًا، يمكننا أن نعتبرهم جسيمات والتّي بإمكاننا اكتشاف بنيتها عبر دراسة انعراج الأشعة السينية»، يصرّح هنري كوهن، الباحث الرئيسي في ( Microsoft Research ) الذّي لم يكن أحد أفراد طاقم الباحثين في الدراسة. «إنّه منظورٌ جديد وجميل يفتح بابًا لروابط جديدة بين علم المواد ونظريّة التبعثر»، يضيف كوهن.

يأمل الفريق أن تكون نتائجهم مفيدة في علم المواد والرياضيات على حد سواء، وعلى الرغم من أنّها قد لا تفوز بجائزة المليون دولار، فلا شك أنّه من المثير ظهور هذه النتيجة في مثل هذا المجال.


  • ترجمة: مهران يوسف
  • تدقيق: آية فحماوي
  • تحرير: كنان مرعي
  • المصدر