تستخدم جميع الكائنات الحيّة الشّيفرة الوراثيّة “لترجمة” المعلومات الجينيّة المستندة إلى DNA إلى بروتينات، وهي جزيئات العمل الرّئيسيّة في الخلايا.

لقد كانت الطريقة المعقّدة للتّرجمة في المراحل الأولى من الحياة على الأرض منذ أكثر من أربعة بلايين سنة غامضةً منذ فترة طويلة، لكنّ اثنين من علماء البيولوجيا النّظرية قد أحرزا تقدّمًا كبيرًا في حلّ هذا اللّغز..

استخدم كلّ من تشارلز كارتر؛ دكتور وأستاذ في الكيمياء الحيويّة والفيزياء الحيويّة في كليّة الطّب بجامعة نورث كارولينا، وبيتر ويلز، الدّكتور والأستاذ المشارك في الكيمياء الحيويّة في جامعة أوكلاند، أساليب إحصائيّةً متقدّمة لتحليل كيفيّة توافق الجزيئات الحديثة في التّرجمة مع بعضها البعض لأداء وظيفتها -ربط متواليات قصيرة من المعلومات الوراثية إلى كتل بناء البروتين التي تُرمّزها-.

يكشف تحليل العلماء، المنشور في أبحاث الأحماض النوويّة، القواعدَ المخفيّة سابقًا والّتي تتفاعل بها الجزيئات الرّئيسيّة المُترجمة اليوم.

إذْ يقترح البحث كيف بدأت الأسلاف الأكثر بساطة لهذه الجزيئات بالعمل معًا في فجر الحياة.

وقال كارتر: «أعتقد أنّنا أوضحنا القواعد الأساسيّة والتّاريخ التّطوريّ للتّشفير الجيني..».

« لقد بقي ذلك دون حلّ لمدة 60 عامًا».

وأضاف ويلز: «قد يكون أزواج الأنماط الجزيئيّة الّتي حدّدناها هي أول تلك الطبيعة التي استُخدمت على الإطلاق لنقل المعلومات من شكلٍ إلى آخر في الكائنات الحيّة».

وتتركّز الاكتشافات على جزيء على شكل ورقة البرسيم يُطلق عليه اسم RNA (ناقل) لاعب رئيسي في الترجمة.

صُمّم الحمض الرّيبيّ النوويّ النّاقل لتحمّل كتلة بناء بروتينيّة بسيطة، تُعرف باسم الأحماض الأمينيّة، على خط تجميع إنتاج البروتين داخل مصانع جزيئيّة صغيرة تسمى ريبوزوم.

فعندما تنبثق نسخة أو “نسخة طبق الأصل” من جين يسمى RNA المرسال من نواة الخليّة ويدخل الريبوزوم الذي يكون مرتبطًا بالرنا النّاقل الّذي يحمل الحمض الأميني الخاص بها.

إذْ أنّ RNA المرسال هو في الأساس سلسلة من “الحروف” الوراثية تدلّ على تعليمات صنع البروتين، وكلّ RNA ناقل يتعرف على تسلسل محدّد من ثلاثة حروف على RNA المرسال، ويُسمّى هذا التّسلسل “الرّامزة” .

مع ارتباط الحمض الرّيبي النّووي النّاقل بالرّامزة، يربط الريبوزوم الحمضَ الأمينيّ مع الأحماض الأمينيّة الّتي جاءت قبله، ممّا يطيل الببتيد المتنامي.

عند الانتهاء، تُطلق سلسلة الأحماض الأمينية كبروتين حديث الولادة.

تتكوّن البروتينات في البشر ومعظم أشكال الحياة الأخرى من عشرين نوعًا من الأحماض الأمينيّة المختلفة.

وبالتّالي هناك عشرون نوعًا متميزًا من جزيئات الحمض الرّيبي النّووي النّقال، كلٌّ منها قادر على الارتباط بحمض أميني معين.

إنّ التشارك مع هذه العشرين نوعًا من الحمض الريبوزي النّاقل تُشكّل عشرينًا من الإنزيمات المساعدة المطابقة المعروفة باسم الصّانعات (صانعة الحمض الأميني)، الّتي تتمثّل مهمتها في تحميل الحمض النووّي الرّيبي النّاقل الشّريك مع الأحماض الأمينيّة الصحيحة.

وقال كارتر: «يمكنك أن تفكر في 20 خليطًا و 20 نوعًا من الحمض النّووي الرّيبي بشكل جماعي كحاسوب جزيئي صمّمه التطوّر لحدوث ترجمة الجينات إلى البروتين».

لطالما أُثير علماء البيولوجيا من قبل الحاسوب الجزيئيّ ولغز كيفيّة التنظيم منذ مليارات السنين.

ففي السنوات الأخيرة ، ركّز كارتر وويلز على هذا اللّغز في بحثهم.

فقد أظهروا، على سبيل المثال، كيف أنّ الصانعات العشرين، الّتي توجد في فئتين مختلفتين هيكليًّا من 10 صانعات، قد نشأت على الأرجح من اثنين فقط من الإنزيمات الأسلاف البسيطة.

يوجد قسم طبقي مماثل للأحماض الأمينية، وقد جادل كارتر وويلز بأنّه يجب تطبيق التّقسيم الطّبقي نفسه على الرنا الناقل.

وبعبارة أُخرى ، يقترحون أنّه في فجر الحياة على الأرض، كانت الكائنات الحيّة تحتوي على نوعين فقط من الحمض الريبوزي النووي النّاقل، واللذين كانا سيعملان مع نوعين من الصّانعات لإجراء التّرجمة الجينيّة إلى البروتين باستخدام نوعين مختلفين فقط من الأحماض الأمينية.

وتكمن الفكرة في أنّ هذا النظام قد أصبح أكثر تحديدًا على مدار الزمن، إذْ أنّ كلًّا من الحمض النووي الريبوزي والنسيج والأحماض الأمينيّة قد عُزّزت أو نُقّحت من خلال المتغيرات الجديدة إلى أن كانت هناك فئات متميزة من 10 في مكان كلّ من الاثنين الأصليّين والصّانعات والأحماض الأمينيّة.

وفي دراستهم الأخيرة، فحص كارتر وويلز RNA الناقل الحديث للحصول على دليل على هذه الثنائية القديمة.

للقيام بذلك حلّلوا الجزء العلويّ من جزيء الحمض الريبوزي النووي النّاقل، والمعروف باسم الجذع المستقبلة، حيث ربط الصانعة الشريكة.

وأظهر تحليلهم أنّ ثلاث قواعد فقط من RNA، في الجزء العلوي من جذع المستقبل تحمل رمزًا مخفيًّا بطريقة أخرى، فالقواعد المحدّدة -الّتي تقسم الحمض النووي الريبوزي النّاقل إلى فئتين – تتطابق تمامًا مع فئتي الصانعات.

وقال كارتر : «إنّها ببساطة تركيبات من هذه القواعد الثّلاث التي تحدد أي صنف من الصانعات يرتبط بكل الحمض الريبوزي النووي النّاقل».

كما وجدت الدّراسة مصادفةً أدلّة على اقتراح آخر حول RNA النّاقل.

فلدى كل حمض ريبوزي نووي ناقل حديث في نهايته السفلية “مقابلة الرامزة ” الذي يستخدمه للتعرف على الكودون التّكميلي(الشيفرة الجينية) على RNA المرسال والالتزام به.

إنّ مقابلة الرامزة بعيدة نسبيًا عن موقع ربط الصانعة، ولكن العلماء منذ أوائل 1990 قد تكهنوا ذات مرة بأنّ RNA النّاقل أصغر بكثير والجمع بين مناطق الربط مقابلة الرامزة (أنتي كودون) والصانعة في موضع واحد.

يظهر تحليل ويلز وكارتر أنّ القواعد المرتبطة بأحد الأسس الثلاثة التي تحدد القواعد -القاعدة رقم 2 في جزيء الحمض النووي الريبوزي الشامل- تُشير بشكل فعال إلى أثر الـ “أنتي كودون” في نسخة قديمة مبتورة من الحمض الريبوزي النووي النّاقل.

وقال كارتر: «هذا تأكيد غير متوقع تمامًا لوجود فرضية استمرت قرابة 30 عامًا».

تُعزّز هذه النّتائج الحجة القائلة بأنّ النّظام الانتقالي الأصلي كان يحتوي على نوعين فقط من الحمض النووي الريبوزي البدائي، يقابلان صانعتين وحمضين أمينيين.

ومع تطوّر هذا النّظام للتعرّف على الأحماض الأمينية الجديدة ودمجها، فإنّ تركيبات جديدة من قواعد الحمض الريبي النووي النّاقل في المنطقة الرابطة للصانعة قد ظهرت لتُواكب التّعقيد المتزايد، ولكن بطريقة تركت آثارًا قابلة للكشف للترتيب الأصلي.

هذه القواعد الثلاثة التي تُحدّد الصّفات في RNA النّاقل المعاصرة تُشبه مخطوطة من القرون الوسطى قد أُهملت نصوصها الأصلية واستُبدلت بنصوص جديدة.

تُضيّق النّتائج احتمالات أصول الترميز الجيني.

وعلاوة على ذلك، فهي تُضيّق نطاق التّجارب المستقبليّة الّتي يمكن للعلماء إجراؤها لإعادة بناء الإصدارات المبكّرة من النّظام الانتقالي في المختبر- وربما جعل هذا النّظام البسيط يتطوّر إلى أشكال أكثرَ تعقيدًا وحداثةً من نفس نظام الترجمة.

وهذا من شأنه أنْ يوضّح كيفيّة تطوّر الحياة من أبسط الجزيئات إلى الخلايا والكائنات الحية المعقّدة.


  • ترجمة: عدي بكسراوي.
  • تدقيق: سهى يازجي.
  • تحرير: كنان مرعي.
  • المصدر