الورق أحد أكثر الاختراعات ثوريةً للجنس البشري، وقد وضع اختراع الورق حدًا للمهمة المرهقة المتمثّلة في النحت على الخشب أو الحجر.

في الواقع، توسع مجال المعارف لدى البشر الآن، إذ لم يُستخدم الورق لمجرد تفاصيل التجارة، بل وللأحداث اليومية، وللتعبير عن المشاعر، وللحكمة، ولكتابة القصائد، ولكتابة القصص التي نخبر أنفسنا بها تجاوزًا أو هروبًا من الحياة، أو القصص التي تهمسها الطبيعة لأولئك الحريصين على الاستماع.

لا أحد متأكد تمامًا متى اختُرعت الورقة الأولى، ما نعرفه هو أنها اختُرعت منذ قرون في الصين، حيث تكفلت شبكة التجارة الاستثنائية في الصين بتصديرها في النهاية إلى دول أخرى، ومع ذلك، كيف ابتكر الصينيون ذلك؟

الأشجار

من المؤكد أن الجميع يدرك أن الورق مصنوعٌ من الأشجار، ولكنك ستتفاجأ عندما تعرف أنه ليس مصنوعًا من أوراقها الرقيقة أو الناعمة، بل من جذوعها الصلبة والوعرة!

السؤال المنطقي بطبيعة الحال: كيف ينتج شيءٌ صلب غير مرن شيئًا مرنًا وقابلًا للطيّ كالورق؟

ما فعله الصينيون في البداية هو تقشير اللحاء من جذوع الأشجار، ثم تقطيع أسطوانات كبيرة من الخشب لرقائق صغيرة (بضع بوصات)، ثم تحليل الرقائق بطهيها في الماء المغلي لتشكيل ما يُسمى اللب، يضمن الطهي تطهير الخشب من صفاته القوية.

ثم تركوا اللب ليجفّ تدريجيًا في وعاء مستطيل الشكل (كالإسمنت)، ويأخذ شكل القالب، ما يعطي ورقةً رقيقة ومستطيلة.

ومع ذلك، فإن الورقة التي كان يُحصل عليها كانت خشنة وخامّة؛ بسبب بدائية التكنولوجيا السائدة. والأكثر من ذلك، أن الورق سيتحول في النهاية إلى اللون الأصفر بسبب وجود مادة الليغنين (بوليمر عضوي يشتمل على التراكيب المعقدة للأنسجة النباتية).

ومع ازدهار التكنولوجيا، توصلنا إلى إنتاج ورقٍ ذي جودة أعلى، إذ لن تكون هذه الأوراق ناعمة ومخملية فحسب، بل ولن تصفرّ مع قِدمها.

مصنع الورق

الطريقة التي نصنع بها الورق اليوم لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي صنعه بها الصينيون منذ قرون.

ما اختلف هو التكنولوجيا الحديثة، والتي جعلت العملية أكثر فعالية بشكلٍ كبير، فقد استطعنا صقل وتسوية التباينات الدقيقة في اللب المجفف، وميّزنا بعض المواد الكيميائية التي تغيّر عند تقطيرها في المرجل نسيج الورق وفقًا لرغباتنا اليوم.

اليوم، يتم إدخال الحطب أولًا إلى آلةٍ على شكل أسطوانة تُسمى «الديباركر» والتي تفصل اللحاء عن الخشب، ثم يُقطّع الخشب إلى رقائق بحجم بوصة واحدة ويُطهى في محلولٍ حمضي لفصل الألياف النباتية المرغوب فيها عن الليغنين غير المرغوب به، ما يؤدي إلى حلّ اللب والليف.

يُعتبر اللب خاليًا من الخشب لأنه يحتوي فقط على ألياف نباتية، يتم تنظيف هذا اللب وتبييضه بالماء لإزالة الحمض وضمان عدم بقاء أي ليغنين (يمنح العلاجُ بالماء الورقَ اللون الأبيض الذي يميزه).

وبصرف النظر عن الخشب نفسه، فإن الماء هو أهم عنصر في العملية، إذ تتطلب صناعة كيلوغرام واحد من الورق ما لا يقل عن 100 ليتر من الماء، ومع ذلك، فقد ابتكر المهندسون طرقًا ذكية لضمان عدم إهدار الماء، إذ يتم تدوير 90٪ تقريبًا من منقوع الخشب من خلال شبكة من الأنابيب طوال العملية الطويلة.

في الواقع، إن غالبية رقائق الخشب المستخدمة لصناعة الورق في الواقع عبارةٌ عن نفايات المناشر! حتى المواد الكيميائية المستخدمة في تبييض اللب لا تشمل الكلور، بل الأكسجين والبيروكسيد، لضمان عدم إلحاق الأذى بالبيئة.

بعد ذلك، يتم تمرير اللب عبر سلسلة من الشفرات الموضوعة بطريقة بارعة لتسطيح (تمهيد) الألياف (التي كانت متشابكة مثل سماعات الأذن في جيبك)، وبغض النظر عن التخلص من المواد غير المرغوب بها، فإن هذه العملية تعطي أيضًا الألياف نهاياتٍ مدببة، ما يسهّل ربط الألياف مع الألياف المتجاورة ويجعل الورقة أكثر قوة.

يضيف المصنعون أيضًا كربونات الكالسيوم إلى اللب لتعزيز كثافته وعدم نفاذيته للضوء، فضلًا عن النشاء أو الأصباغ لتلوينه بناءً على متطلبات المشتري، بالإضافة إلى تلميعه لزيادة تحسين مظهر الورقة.

اللب الآن جاهز للتجفيف للقضاء على أي ماء فيه، يتم تمرير اللب في آلة الورق (محور مصنع الورق).

إن الآلة عبارة عن مجموعة من الآلات صغيرة المختلفة التي تقوم في نفس الوقت بأداء مجموعة متنوعة من المهام.

يتم تجفيف اللب بتمريره عبر مسافاتٍ ضيقة بين الأسلاك الدوارة والأحزمة، تحمل الأحزمة الماء بعيدًا في حين أن زيادة الضغط ودرجة الحرارة تضمن خروج ورقة ورقة من الطرف الآخر، ولإزالة أي رطوبة متبقية، يُعرّض الورق للأشعة تحت الحمراء.

تُفحص الورقة بدقة من قبل الخبراء الذين قد يرسلونها لتحسينها ولإزالة أي مواد غير مرغوبة نجت من العمليات السابقة.

يمكن للفات الورق المنتَجة أن تصل إلى 80 كم في الطول و 9 أمتار في العرض!

ويمكن أن تزن لفةٌ واحدة ما يصل إلى 120 طنًا! ما ينتج كثيرًا من الورق.

وأخيرًا، يتم تقسيم الورق إلى أطوال صغيرة، يتم تحميلها في صناديق من الورق المقوى لتُباع في السوق.

وقد يُعالج اللب باستخدام مواد كيميائية مختلفة لإنشاء أنواع مختلفة من الورق، مثل الورق الخشن الذي يُطبع عليه محتوى الرواية، والورق الناعم الذي يشكل غلافه، والمحارم الورقية، ودعونا لا ننسى الورق الأكثر قيمة الذي نشتري به كل ورقة أخرى: المال!

لذا، حاول ألا ترى الورق شيئًا متاحًا في كل مكان، بل قدّر الحصافة والعمل الشاق اللذين يُصنع بهما.


  • ترجمة: مولود مدي
  • تدقيق: تسنيم المنجّد
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر