بعد عامين فقط من تصريح شركة (نوفارتس – Novartis) الدوائية أنها ستقبل تحدي البحث عن علاجاتٍ للالتهابات المُهددة للحياة والناتجة عن الجراثيم المقاومة لجميع أنواع المضادات الحيوية، والمعروفة بـ (superbugs – الجراثيم العصيّة)، أعلنت الشهر الماضي يوليو/تموز أنها ستوقف بحثها عن علاجاتٍ مضادةٍ لكل من الفيروسات والجراثيم.

وقد تبعت شركاتٌ دوائيةٌ كبرى أخرى نوفارتس في تراجعها، بما فيها (أسترازينيكا – AstraZeneca)، و(سانوفي – Sanofi)، و(أليرجان – Allergan)، وذلك بسبب قلة عوائد أبحاثٍ كهذه.

وبذلك تبقى (ميرك – Merck)، و(روش – Roche)، و(غلاكسوسميث كلاين – GSK)، و(فايزر – Pfizer)، شركات الأدوية النشِطة الوحيدة ببرامج في البحث عن مضاداتٍ للجراثيم حسب دورية (Nature Biotechnology)، علمًا أنه ومنذ عام 2000 تمت الموافقة فقط على 12 مادة مضادة للجراثيم.

فمنذ اختراع البنسيلين، بات تطوير مضادات الجراثيم روتينًا متعبًا، فنتجت لدى المرضى الذين تناولوا كمياتٍ غير كافية من أنواع كثيرة من مضادات الجراثيم سلالاتٌ تطوريةٌ انتقائية أقوى بسبب إبادة الجراثيم الحساسة لذلك النظام العلاجيّ فحسب، وبالتالي، سبق وكانت المضادات الحيوية تجارةً مربحة قبل أن يصبح اختراع أدوية جديدة لمواكبة تطور سلالاتٍ مقاومة منهكًا هكذا.

أشار (جان باتيل – Jean Patel)، رئيس الفريق العلمي للاستراتيجية المضادة للجراثيم ووحدة التنسيق في (مراكز مكافحة الأمراض واتّقائها – CDC)، إلى أن عددًا ليس بقليلٍ من مضادات الجراثيم الفعالة يعود في الحقيقة لشركاتٍ ناشئة صغيرة، ثم تتبناها عادة بعد ذلك شركاتٌ دوائية كبرى، مؤمّنةً البنية الأساسية لإتمام التجارب السريرية وتسويق الدواء، ولكن بتزايد عدد الشركات الكبرى المتراجعة عن متابعة تطوير المضادات الحيوية، يتناقص تنوع الأدوية الجديدة التي يمكن إيصالها إلى السوق.

وضّح (غاري دسبراو – Gary Disbrow)، نائب رئيس سلطة الأبحاث والتطويرات الطبية البيولوجية المتقدمة (التابعة لقسم الصحة والخدمات البشرية في الولايات المتحدة الأمريكية) بقوله: «لا تقلّ تكاليف تطوير مضاد حيوي جديد غلاءً عن تطوير أدويةٍ في المجالات العلاجية الأخرى، ولكن تُعدُّ القدرة التسويقية وعوائد استثمار الشركات الدوائية لتطوير مضادات حيوية جديدة أقل بكثير منها في الأدوية المستخدمة لعلاج حالاتٍ مزمنة كالسكري وأمراض القلب».

تُعدّ قلة الأبحاث المُجراة من قبل الشركات الصيدلانية الكبرى مشكلةً حقيقية، ففي الولايات المتحدة الأمريكية يُصاب مليونا شخص على الأقل كل سنة بجراثيمٍ مقاومة للمضادات الحيوية  وفقًا لـ (CDC)، ويلقى 23 ألف مريض حتفه كل سنة كنتيجة مباشرة لتلك الإصابات، ومن المقدّر أن يُقضى على عشرة ملايين شخص سنويًا من هذه الجراثيم بحلول عام 2050، إذا لم تُتدارك هذه المشكلة، حسب تقرير مفوّضٍ من قبل المملكة المتحدة.

الأزمة الهائلة للجراثيم العصيّة

يتزايد الخطر العام لهذه السلالات الجرثومية، وقد حذر الأطباء حديثًا من إمكانية تحوّل جرثومةٍ جديدةٍ تنتقل جنسيًا إلى حالةٍ عصيّة على المضادات الحيوية تؤدي لالتهاب الحوض والعقم لدى النساء في النهاية، وقد تُوفيت امرأة عام 2017 بسبب إصابتها بجرثومة قاومت 26 نوعًا مختلفًا من المضادات الحيوية، أي جميع الأصناف الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية.

أُبلغ عن وجود سلالاتٍ مقاومة للمضادات الجرثومية بنسبة كبيرة من اللحوم المُباعة في المتاجر الكبيرة، وهو ما تشير إليه منظمة الصحة العالمية كخطر على أمن وحماية الطعام، ولكن ما سبب ازدياد السلالات الجرثومية العصيّة؟

يُعدّ الاستخدام المفرط غير المسؤول للأدوية الموصوفة والمضادات الجرثومية لدى البشر وفي الزراعة سببًا أساسيًا في هذه الأزمة، بالإضافة إلى تزايد المواد الكيميائية المضادة للجراثيم ضمن المنتجات المنزلية، وقد تساهم عوامل حياتية معينة -كالاستخدام المستمر لمعقم اليدين وغيره- في نقصان التنوع الميكروبي في الجسم، وقد يكون للتغير المناخي دورٌ في تزايد المقاومة أيضًا.

وبتناقص الجراثيم النافعة في الجسم كوسيلةٍ دفاعية، يصبح البشر أكثر عرضة للإصابة بالسلالات الضارة والمقاومة، وبإمكان المضادات الحيوية التي يتناولها الفرد أن تؤثر على الجميع؛ لأن سلالة الجراثيم هي التي ستصبح مقاومة، وليس ذاك الفرد بحدّ ذاته.

علمًا أن المقاومة الجرثومية قد ظهرت مباشرةً بعد مجيء المضادات الحيوية، ولكن ذلك لم يكن مهمًا بالنسبة للشركات الدوائية بسبب التوفر المستمر لأدويةٍ جديدة ضمن خط الإنتاج والتطوير، أما تباعًا، فقد تباطأ هذا السير وشارف على التوقف منذ حوالي 15 سنة مضت، وعلى عكس جميع مجالات التطوير الدوائيّ الأخرى، ستفقد المضادات الحيوية جميعها فعاليتها في النهاية؛ لأن الجراثيم تتقن تطوير طرقٍ جديدةٍ للتغلب عليها.

لكن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول القيام بدورها في محاربة هذه الجراثيم العصيّة، ولتشجيع التطوير المكلِف للأدوية الجديدة المضادة للجراثيم؛ ذكر مفوَّض (إدارة الغذاء والدواء الأمريكية – FDA) سكوت غوتلييب (Scott Gottlieb) إمكانية اعتماد نموذج تعويضٍ ماديّ مقابل المضادات الحيوية التي توافق معايير محددة، وتحقق بشكلٍ رئيسيّ القدرة على استهداف الالتهابات الخطيرة العصيّة على العديد من الأدوية.

طوّرت كل من مراكز (CDC)، والمعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدية أيضًا خططًا استراتيجية وبوادر حلول للتصدي لمقاومة المضادات الحيوية، ورفع الكونغرس تمويل الـ (CDC) في مبادرتها هذه إلى 168 مليون دولار أمريكي عام 2018، أي بزيادةٍ قدرها 5 ملايين دولار عن ميزانية العام السابق، مقابل تكليفها بكبح انتشار الجراثيم المقاومة والوقاية والحماية منه، ولكن لا تُعدّ الوقاية في الحقيقة إلا جانبًا آخر للأزمة.

تحاول مراكز (CDC) مراقبة الأدوية الفعالة الجديدة لضمان عدم سوء استخدامها المفرط وغير الكافي على حدٍّ سواء، فقد قال جان باتيل المذكور آنفًا: «إننا نحاول التمسك بالأدوية الحديثة في الأسواق واستخدامها بحذر، لكي تبقى فعالة لفترةٍ أطول، وتُعدّ إدارة المضادات الحيوية هذه مفيدةً للصحة العامة، لكنها تضر شركات الأدوية التي تحاول الربح في الدرجة الأولى مما تستثمره».

ولذلك، تقتضي الحاجة وجود أنواع جديدة من العلاج، وشركات تشخيصية بإمكانها تحري المقاومة الجرثومية باكرًا لإتاحة كبحها والقضاء عليها قبل أن تنتشر.

ما بجعبة خطوط تطوير وإنتاج المضادات الحيوية؟

يأمل الباحثون التمكّن من معالجة مشكلة مقاومة المضادات الحيوية من خلال طريقتين، وبينما تُوظَّف جهودٌ بحثية كبيرة لتطوير المنتجات العلاجية، هناك نسبة جيدة من الأبحاث المكرَّسة لفهم آليات المقاومة، بما فيها طريقة حدوثها وكيفية انتشارها.

في بدايات يوليو/تموز، جمع باحثون في المختبر الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية في ألمانيا أصنافًا مختلفة من المضادات الحيوية للقضاء على السلالات المقاومة للأدوية، وقد نجحت هذه التركيبات في بعض الحالات بتحقيق الغاية تمامًا دون أذية الجراثيم النافعة.

ولكن، قد تجعل بعض التركيبات الدوائية في الحقيقة كلا الدواءين أقل فعالية، إذ وضّحت (آنا ريتا بروكادو – Ana Rita Brochado)، إحدى مؤلفي الدراسة، أن سبب ذلك هو امتلاك بعض الجراثيم أنظمة دفاعية تتفعّل بإضافة الدواء الثاني، فتحميها من المضادات الحيوية.

علمًا أن التركيبات الدوائية الناجحة كانت نوعية جدًا، إلا أنها أثَّرت على سلالات الجراثيم المقاومة دون أن تشمل الأنواع الأخرى، وعليه أشارات بروكادو: «أعتقد أنه لاستخدام تركيباتٍ من المضادات الحيوية إمكانياتٌ كبيرة، ولكننا بحاجة معرفة المزيد عن آليات تأثير هذه الأدوية، لنفهم لماذا تختلف من جرثومةٍ لأخرى، وتأثير كل صنف دوائي على دفاع الجراثيم، لا الهدف العلاجي لهذه الأدوية فقط».



إذ تُجرى الاختبارات العلاجية على فئران وجراثيم مستخلصة من البشر.

وقد وصل الأمر بالباحثين إلى إعادة إحياء طريقة عمرها 100 عام لم تعد معتمَدة من أجل محاربة الجراثيم، وهي (المعالجة بالفيروسات العاثية – bacteriophages)، إذ نقّبت (ستيفاني ستراثدي – Stephanie Strathdee)، رئيسة قسم الصحة العامة العالمية في قسم الطب في (جامعة كالفيرونيا – UCSD) الواقعة في سان دييغو عن الأبحاث المتعلقة بهذه الفيروسات بحثًا عن علاج، بعد أن أُصيب زوجها بجرثومة معوية عصيّة أدخلته في غيبوبة عام 2015.

وبعد إيجاد فيروس عاثيّ موافق لتلك الجرثومة وحقنه في وريد زوجها، استفاق من غيبوبته، ومنذ ذلك الحين استُخدِمت هذه التقنية بنجاحٍ لعلاج خمسة مرضى آخرين، علمًا أنها كانت قد استُقصيت منذ عشرينيات القرن الماضي بعد اكتشاف المضادات الحيوية.

يكمن الجزء الأصعب من هذه التقنية في إيجاد الفيروس العاثي الموافق، وتمييزه وتنقيته حتى يصبح استخدامه على المرضى آمنًا.

تُعدّ المعالجة بالعاثيات طريقة تجريبية استخدمها أطباء في المركز الطبي التابع لجامعة كاليفورنيا، وبسبب ازدياد الطلب عليها قاموا بافتتاح مركز جديد، ونظرًا لعدم موافقة الولايات المتحدة الأمريكية على هذه التقنية بعد، يحتاج المرضى لموافقةٍ من الـ (FDA) على المعالجة الإسعافية بها ليتمكنوا من دخول هذه المراكز.

وقد تعاقدت ستراثدي وفريقها من علماء جامعة (UCSD) مع شركتين ناشئتين، هما (آمبليفاي للعلوم البيولوجية – AmpliPhi Biosciences)، و(المعالجات العاثية التكيفية – Adaptive Phage Therapeutic)، وذلك من أجل تجميع مكتبةٍ من الفيروسات العاثية، وصنع مزائج عاثية خاصة بكل مريض، وقد لاحظوا تحسس الجراثيم واستجابتها للمضادات الحيوية بعد التدخل بالعاثيات، حسب ستراثدي.

قد يساعد فهم تكوين الجراثيم وعلومها العلماء في ابتكار طرق جديدة للقضاء عليها، ولاستباق الطفرات الجينية؛ يعمل العديد من العلماء على ترتيب تتاليات جينومات الميكروبات المقاومة، لمتابعة تطورها وانتشارها.

من جهةٍ أخرى، تستمر الجهود في تطوير أدويةٍ مضادة للجراثيم، فتتعاون الـ (FDA) مع الشركات الدوائية الصغيرة والمتوسطة لدراسة الآليات الجرثومية وتطوير تلك الأدوية، وقد استجابت قطاعات الحكومة الأمريكية المختلفة بالسعي لتمويل انتقال الأدوية إلى مرحلة التجارب السريرية وتسريع عملية الموافقة عليها.



وقد أرسلت خطوطُ الإنتاج والتطوير السريرية الحالية المتعلقة بالمضادات الحيوية طلبًا للموافقة السريرية على دواءٍ جديدٍ إلى الـ (FDA)، وتمت الموافقة على دواءين جديدين في مرحلة التطوير السريريّ.

يوجد 16 دواءً في المرحلة الأولى، و14 دواءً في الثانية، و15 في الثالثة، ولكنّ العدد الحالي من الأدوية قيد التطوير غيرُ كافٍ لاستهداف الجراثيم العصيّة، حسب الخبراء الطبيين.


  • ترجمة: سارة وقاف
  • تدقيق: تسنيم المنجّد
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر