لماذا تبقى الكثير من المشاكل مُعلقةً بأذهاننا رغم محاولاتنا الجادة لحلّها؟

وما سبب البحث الدائم لأدمغتنا عن اختلاق مشاكل من لا شيء!

عندما تصبح الأشياء نادرةً، قد يتخيل لنا أنّنا نراها أمام أعيُننا بشكل متكرر وملحوظ.

إنّها طريقة غريبة لتحليل البيانات في العقل البشري!

تخيّل أن فريقًا من المتطوعين اجتمعوا مع بعضهم لتقليل مستوى الجريمة والسرقة في المدينة عن طريق المراقبة الليلية للشوارع وإخبار الشرطة بأي شيء مُثير للشكوك.

لنفترض أنّ مجهودهم كُلّل بالنجاح وانخفض بالفعل معدّل الجريمة في المدينة، إذًا؛ من المتوقع أنّ المتطوعين سوف يسترخون ويهدؤون بعد انخفاض معدلات الجريمة.

الغريب أنّه في الكثير من المواقف الشبيهة يحدث العكس تمامًا؛ فيصبح المتطوعون أكثر شكًا حول أي شيء يحدث حولهم سواء كان تسكع أحد المارة بالطرُقات ليلًا، أو نباح وصياح الحيوانات.

هذه الظاهرة تُسمى «زحف أو تغير المفهوم» والمعنى المقصود هُنا هو تغير مفهومنا عن شيء معين طبقًا للظروف المُحيطة، بالأخص إذا كنا نتفادى المشكلة أو نعمل على تقليل حدوثها ’’مثل إنقاص معدل الجريمة في المثال السابق‘‘.

قد تصبح هذه الظاهرة شيئًا محبطًا في حياتنا؛ إذ أنّنا لانعرف إذا كنا نُحرز تقدمًا في حل المُشكلة أم لا، طالما يتغير مفهومنا عن المشكلة كل فترة.

البحث عن المشاكل

لدراسة كيفيّة تغيّر مفهومنا عن المُشكلة عندما تكون أقل رواجًا، أحضر علماء النفس في جامعة هارفارد بعض المتطوعين وأعطوهم مُهمةً بسيطةً، وهي النظر إلى شاشة يظهر عليها وجوه لأشخاص مختلفين، وعليهم أخذ قرار ما إذا كان الوجه الذي أمامهم مُخيفًا أم لا.

تمّ اختيار الوجوه بعناية عن طريق الباحثين؛ بحيث تتدرج من مُخيفة جدًا إلى وجوه بريئة.

الشيء المُثير للاهتمام هو عندما عرض العلماء عددًا أقل من الوجوه المُخيفة؛ بدأ المتطوعون بتوسيع مفهومهم عن تلك الوجوه، بمعنى آخر عندما شحت الوجوه المُخيفة؛ اعتبروا أنّ الوجوه، التي اعتادوا وصفها بأنها بريئة، مُخيفة.

في تجربةٍ أخرى طلب العلماء من المتطوعين اختيار ما إذا كانت النقاط التي تظهر على الشاشة زرقاء أم أرجوانية.

بتقليل عدد النقاط الزرقاء ادّعى المتطوعون أنّ بعض النقاط الأرجوانية زرقاء.

توضّح نتائج هذه التجارب أنّ هذه الظاهرة ليست تحت التحكم الكامل للعقل الواعي!

مفهوم البشر عن ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي

تساءل العلماء بعد إجراء التجربتين السابقتين ما إذا كانت هذه الظاهرة هي خاصيّة يتميّز بها النظام البصري للإنسان.

فهل تحدث ظاهرة «زحف أو تغير المفهوم» مع التجارب غير البصرية؟

لاختبار تلك النقطة أجرى الباحثون تجربةً أخيرةً، فطُلب من المُتطوعين قراءة مجموعة من الدراسات العلمية والحكم على كل واحدة ما إذا كانت الدراسة أخلاقية أم غير أخلاقية ’’تنتهك حقوق الإنسان أو الحيوان أم لا‘‘.

على أيّ حال إذا كنت تظنّ أن تجربةً ما تنتهك حقوق الحيوان؛ من المُتوقّع أن رأيك سيظلّ كما هو في اليوم التالي، بغض النظر عن التجارب التي مررت بها في كلا اليومين، ولكن المُفاجأة أنّ المُتطوعين اتبعوا نفس الأسلوب الذي اتبعوه في التجارب البصرية.

فقط لأنّ عدد الأبحاث غير الأخلاقية كانت شحيحةً جدًا، فحكمهم على الأبحاث الأخرى كان قاسيًا.

عقلك يحب المُقارنات

لماذا يصرّ الناس على وجود الأشياء المُثيرة للشكوك أو التي تُهدّد حياتنا عندما تصبح تلك الأشياء نادرة الحدوث؟

بحث في مجال علم النفس والأعصاب يوضّح أنّ ذلك النوع من التصرفات هو نتيجة لطريقة العقل في تحليل البيانات؛ نحن نقارن دائمًا بين الشيء الذي نراه وتجاربنا السابقة.

بدلًا من اختيار ما إذا كان الوجه الذي أمامنا مُخيفًا أم لا، مقارنًا إياه مع كل الوجوه الأخرى، العقل يقارن فقط بين الوجوه التي رأيناها مؤخرًا.

هذه الطريقة في المُقارنة تقود مباشرةً إلى الأسلوب الذي تمّ اتباعه في التجارب السابقة، فعندما يقلّ عدد الوجوه المُخيفة يبدأ العقل في مُقارنة الوجوه الجديدة نسبةً لأكثر الوجوه السابقة براءةً، لذلك في بحر من الوجوه المعتدلة قد تظن أنّ الوجوه المُخيفة مُرعبة قليلًا.

اتّضح أنّه من الأسهل لعقولنا الحكم على الأشياء من خلال المقارنة بدلًا من الحكم المطلق الذي يسبب بذل طاقة ومجهود أكبر.

على سبيل المثال تذكّر أيّهما أسهل مُقارنة أي من أصدقائك أكثر طولًا أم تحديد طول كل منهم على حدى.

تصرف طبقًا لمعايير مُحددة عندما يكون الأمر مهمًا

في بعض الأحيان قد يكون الحُكم النسبي ’’بالمُقارنة‘‘ مطلوبًا مثل تحديد مطعم مناسب لتناول العشاء أو اختيار ساعة يد جديدة، لكن في أحيان أخرى يجب علينا التصرف طبقًا لمعايير مُحددة، كمُتطوع المُراقبة الليلية الذي لا يُقدّر نجاحه بتقليل معدلات الجريمة في المدينة لأنّه لايزال يعتقد أنّ نباح الكلاب أو تسكع المارة ليلًا نشاطًا مُثيرًا للشكوك!

يُجري البشر الكثير من القرارات والاختيارات المُعقّدة، تشخيصات طبيّة، الاستثمار المالي أو اختيار طريق مهنةٍ ما… إلخ.

لذلك يجب التصرف طبقًا لمعايير مُحددة؛ بالنسبة لمُتطوع المراقبة الليلية يجب عليه كتابة قائمة بالتجاوزات التي قد تُثير الشكوك أو المخاوف، مثل صوت إنذار السيارات أو صياح أحد الجيران …إلخ.

عوضًا عن القلق من نباح الكلاب وضجيج القطط.


  • ترجمة: عمر حسنين.
  • تدقيق: أحلام مرشد.
  • تحرير: عيسى هزيم.
  • المصدر