تشير البحوث النفسية بأنه لم يتم منح المصالحة الاهتمام الكافي.

قبل عشرين عاماً، تمزّقت دولة رواندا بأعمال العنف.

أغلبية المنتمين لجماعة الهوتو ذبحوا جيرانهم المنتمين لجماعة التوتسي، مما أسفر عن مقتل ما يقرب ٧٠٪ من الأقلية التوتسية في غضون أربعة أشهر فقط.

وأخيراً بمجرد وقف القتل ظهر سؤال صعب يطرح نفسه: كيف نصحّح هذه الأخطاء الوحشية بدون خلق سلسلة من الانتقام والثأر؟

إن سلسة كهذه قد تكون نموذجاً لمفهوم العدالة القديم “العين بالعين”، حيث تتساوى العقوبة مع الجريمة، وهو النهج المتّبع حتى اليوم من قبل معظم النظم القانونية الحديثة (بما في ذلك الولايات المتحدة).

والهدف هو بسيط، عندما يُظلَم شخص ما يكون الهدف من العقوبة هو إيذاء الجاني.

وقد دُرِسَ تفضيل هذا النوع من العقاب خلال عقود من البحوث، مما يدل على أن الناس لديهم ميول قوية لمعاقبة المعتدين.
في حين يخدم العقاب أهداف أخرى مثل الرّدع، لكن ليس هناك شكّ في أن الانتقام هو الهدف المركزي.

في الواقع، نحن كأفراد، نعاقب الآخرين حتّى لو كلَّفَنا ذلك: هنالك دراسة وجدَتْ أنه لو تمّ معاملة بعض الناس بشكل غير عادل إلى حدّ كافٍ، فَهُمْ على استعداد للتخلي عن راتب ثلاثة أشهر لمعاقبة الجاني.
على الرغم من أنه يبدو أن الناس ترغب في المعاقبة، هنالك قصور حاسمة في البحث هذا.

عادةً العقوبة هي الخيار الوحيد المتاح لتصحيح الوضع الخاطئ.
فالحالة هي: إما المعاقبة أو القبول بالاعتداء.
فمن الممكن، مع ذلك، أن يفضِّل الناس تطبيق العدالة ولكن دون عقاب، مع التركيز عوضاً عن العقاب على احتياجات الضّحية.
لأن الباحثون عادةً لا يقدّمون خيارات غير عقابية، فنحن لم نكن نعرف -حتى الآن- أين يقع خيار العقاب بين الوسائل الأخرى لتصحيح الأخطاء.

في الآونة الأخيرة، وجَدَت مجموعة من الدراسات بأن الناس قد يفضِّلون وبقوّة الخيارات غير العقابية لتطبيق العدالة.

ففي هذه الدراسات، فضَّل المشاركون وبأغلبية ساحقة (٩ من أصل ١٠ مرات) تعويض الضحية (في هذه الحالة، هم أنفسهم) بدلاً من معاقبته، بعد أن أُعطوا ،وبشكل غير عادل، كمّية صغيرة من المال والتي كانت غير متناسبة.
في حين أن هذا ليس غريباً فعليّاً (مَن لا يحبّ المال؟)، لقد شعر أيضاً المشاركون بأن هذا كان كافياً لتصحيح الخطأ، فهُمْ عموماً لم يعاقبوا المعتدي، حتى حين كانت العقوبة مجانيّة وسهلٌ تطبيقه.

هذا دليل صريح بأنه في بعض الأحيان لِبَعض الجرائم، لا يريدون الضحايا معاقبة الجاني إذا كان هنالك طرق أخرى للوصول إلى العدالة.

وهناك أدلة لهذا في العالم الحقيقي أيضاً: إن البرامج التي تعطي الأولوية لاحتياجات الضحايا وتعزّز الحوار بين الضحايا والجناة، تظهر أعلى المعدّلات في رضا الضّحية و حسّ الجاني بالمسؤولية.

لكن الضّحايا عادة لا يقرّرون مصير مَن اعتدى عليهم، بل يقوم بذلك القضاة وهيئات المحلفين.

ومن المبادئ الجوهرية للنظام القانوني لدى أمريكا هو مبدأ يقول بأن الضحايا هم مُتَحيّزون، وبالتالي لا ينبغي أبداً أن يقرروا مصير معتديهم.
في المقابل، أطراف ثالثة مثل القضاة وهيئات المحلفين يُعتَبَرون محايدون ويستطيعون أن يطبّقوا العدالة بأكثر موضوعية وبدون تأثير العاطفة.
ونظراً في وجود هذه الاختلالات المُفترَضة بين أسلوب تعامل الضحايا والأطراف الثالثة في مجال العدالة، فقد درسنا ما إذا كانت وجهة نظر الفرد ذات أهمية عند أخذ القرار بخصوص كيفية تطبيق العدالة.
هل الأطراف الثالثة (هيئات المحلفين) يعاقبون الاعتداءات الاجتماعية بطريقة مختلفة عن أولئك الذين تأثّروا شخصيّا بذلك الاعتداءات (الضحايا)؟

ولتناول هذا الموضوع، طُلِبَ من المشاركين ،في سلسلة من دراسات المتابعة، اتّخاذ قرارات نيابةً عن ناس آخرين.

وعلى نحو فعال، طلبنا من المشاركين أن يأخذوا دور هيئات المحلفين – يفرضون العقاب للجناة أو يقومون بفرض عملية تعويض للضحية، على الرغم من أن “لا مصلحة لهم في اللعبة”.

وخلافاً للضحايا، فقد اختارت الأطراف الثالثة الخيار الأقوى عقوبةً في مهمّتنا، حيث يتمّ تعويض الضحية و يتمّ عقاب للمعتدي في الوقت نفسه.

ببساطة، على الرغم من أن المشاركين نادراً ما عاقبوا المعتدين بعد أن تمّ معاملتهم (هم نفسهم) بطريقة غير عادلة، فقد عندما رأوا شخصاً آخر يُظلَم اختاروا أقسى شكل من أشكال العقاب، عن طريق تطبيق نهج العدالة العقابيّة الكلاسيكية: “العين بالعين”.

هذه النتيجة تلقي ضوءاً جديداً على موضوع كيفية اختيار الناس لطرق إعادة التوازن إلى ميزان العدالة.

عندما يتم إهانتنا نحن، يبدو أننا نميل إلى احتياجاتنا الخاصّة بدلاً من السّعي للعقاب، ولكن الأمر يختلف عندما نتّخذ قرارات بالنيابة عن شخص آخر، فبالنسبة للمارّة أو هيئات المحلفين قد يكون “العين بالعين” الخيار المفضَّل.

إن مفهوم العدالة يبدو أنه يعتمد على وضعنا نحن.

هذه الحقيقة تضعنا أمام هذا التحدي: قد يكون هناك فجوة بين ما نريده نحن كضحايا، وما تقرّره الأطراف الثالثة نيابةً عنا، و يدفعنا للتساؤل في اعتمادنا الأعمى على الحيادية المُفترَضة لدى هيئات المحلفين والقضاة.

على الرغم من أن هناك حاجة إلى المزيد من البحث، فهذا العمل يقدّم بصيصاً من الأمل لنظام العدالة لدى أمريكا المثقل بالأعباء والذي يواجه نقصاً في التمويل.

في الواقع، لقد بدأت كتابات جديدة بعملية تحويل التركيز بعيداً عن العقاب وأخذه نحو طرق أقل عقابية لتطبيق العدالة.

وقبل بضع سنوات، مجموعة في جامعة هارفارد أظهرت أن وجود فرصة لمكافأة الآخرين في لعبة تعاونية في الواقع يعزّز التعاون، بشكل أكبر عما يفعله العقاب وحده.

لقد تمّ نشر بحثاً في وقت سابق في هذا العام يكشف أن تقييد قدرة الناس على تطبيق العدالة عن طريق العقاب فقط، لا يؤدي إلا إلى زيادة الرغبة في المعاقبة.
أساساً، يبدو أن الدافع للمعاقبة يأتي من مدى الخيارات الي يتم التقديم معها.

وإجمالاً، تشير هذه الدراسات إلى أن مع أن العقوبة بالتأكيد مرغوب فيها في بعض الحالات، لا ينبغي ألّا تُعتبَر دائماً المعيار الذهبي لتطبيق العدالة.

على الرغم من الاستخدام الأقل للنهج التصالحية وغير العقابية لتطبيق العدالة، إلّا أنها أثبتت بأنها تعمل بشكل جيد في العالم الحقيقي.

ولعل الأكثر غرابة، هو أن هذه الأساليب من الممكن أن تكون ناجحة حتى لأشد الجرائم الفظيعة ضد الإنسانية.

فلقد يتم حالياً القيام بجهد وطني في رواندا، في التوحيد بين الهوتو والتوتسي من أجل التوفيق بين طرفي واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ.

بعد استشارتهم على مدى عدة أشهر، يطلب جاني مِن الهوتو مِن ناجي من التوتسي المغفرة لجريمته.

وبإظهار القدرة على الغفران المثيرة للإعجاب (حتى غفران القتل) يتحوّل الناجون التوتسيون ليصبحوا متصالحين مع المعتدين عليهم من الهوتو.

وبهدف رأب العلاقات بين الجيران، تؤكد هذه المبادرة على الترميم والغفران، وليس العقاب.

ومن خلال قيام المبادرة بهذا، لديها القدرة على الحدّ من الكراهية والعنف الذان يغذّيان سلسلة الانتقام والثأر.


ترمجة: افيديس سارجيان
المصدر