ترك لنا الفيزيائيّ الشهير ستيفن هوكينغ، قبل رحيله، تحفةً علميّةً أخيرة، وهي ورقته البحثيّة الأخيرة، والتي يشرح فيها نظريّته الأخيرة عن أصول الكون، وقد شاركه في صياغة هذه النظريّة، الفيزيائيّ توماس هيرتوغ (Thomas Hertog) من جامعة لوفان الكاثوليكية (KU Leuven).

نُشرت الورقة البحثيّة في الثاني من مايو/أيار من العام الجاري في مجلّة (Journal of High Energy Physics)، وتفترض النظريّة أنَّ الكون أقلّ تعقيدًا مما تفترضه نظريّات الأكوان المتعدّدة الحاليّة بكثير.

وتدور هذه النظريّة حول نظريّة أخرى تُعرَف بنظريّة (التضخُّم الأبديّ – Eternal Inflation) والتي طُرِحَت للمرَّة الأولى في العام 1979، ومن ثمّ نُشرَت في العام 1981.

فبعدَ الانفجارِ العظيم مَرَّ الكون بفترة تضخُّم أُسّي، وبعد ذلك، أخذ هذا التضخُّم بالتباطؤ، وراحت الطاقة تتحوَّل إلى مادةٍ وإشعاع.

وفقًا لنظريّة التضخُّم الأبديّ، فإنَّ بعض «فقاعات» الفضاء تتوقّف عن التضخُّم، أو تأخذ بالتباطؤ في تضخُّمها حتّى تتوقَّف، مشكّلةً نهايةً مسدودة، صغيرة وذات شكل هندسيّ غير منتظم، من الفضاءِ السّاكن.

في حين لا تتوقّف الفقاعات الأخرى من الفضاء عن التضخُّم أبدًا، وذلك نتيجةً للتأثيرات الكموميَّة، ممّا يؤدّي إلى تشكُّل أكوان متعدِّدة لانهائية.

وبحسب هذه النظريّة، فإنَّ كلَّ ما نراه في كوننا المرئي هذا، موجود في فقاعةٍ واحدة من هذه الفقاعات، إذ توقّفت هذه الفقاعة عن التضخُّم سامحةً للنجوم والكواكب بالتشكُّل.

وقد أوضح هوكينغ أنَّ النظريّة التقليديّة للتضخُّم الأبديّ تفترض أنَّ كوننا يشبهُ ما يُسمّى بـ(الفركتل اللانهائي – Infinite Fractal) -وهو شكل هندسيّ غير منتظم وفقًا لكلّ المقاييس- يشغل جزءًا من فسيفساء من الأكوان الجيبيّة/الفقاعية (Pocket Universes) المختلفة، والتي تسبح منفردةً في محيط آخذ بالتضخُّم.

قال هوكينغ: «يمكن للقوانين الفيزيائيّة والكيميائيّة أن تختلف من كون جيبي إلى آخر، ومن ثمّ تشكّل هذه الأكوان مع بعضها البعض أكوانًا متعدّدة.

لكنَّني لم أكن على الإطلاق من معجبي نظريّة الأكوان المتعددة، فإذا كان امتداد الأكوان المختلفة في نظريّة الأكوان المتعددة، واسعًا أو غير محدود، تغدو النظريّة غير قابلة للاختبار».

علمًا أنَّه في السنوات الأخيرة، تخلّى الفيزيائيّ بول ستاينهارت (Paul Steinhardt) من جامعة برينستون (Princeton) صاحب النموذج الأوليّ لنظريّة التضخُّم الأبديّ، عن دعمه لنظريَّته، وأوضح أنَّ النظريّة أخذت المعضلة التي كانت من المفترض أن تحلَّها -وهي جعل الكون متوافقًا ومتلائمًا مع ملاحظاتنا- وحوَّلتها إلى شكلٍ جديد من المعضلات.

كما أنَّ ستيفن هوكينغ وتوماس هيرتوغ أكَّدوا عدم صحّة نموذج التضخُّم الأبدي، وذلك لأنَّ النظريّة النسبيّة العامّة لألبرت أينشتاين تنهار عند المقاييس الكموميّة. فقد أوضحَ هيرتوغ قائلًا: «إنَّ مشكلة المفهوم التقليديّ للتضخُّم الأبديّ تتجلّى بكونها تفترض وجود كونٍ يتطوَّر وفقًا لنظريّة النسبيّة العامة، في حين تتعامل مع التأثيرات الكموميّة كما لو أنَّها تقلُّبات صغيرة»، وأضاف أيضًا: «كما أنَّ ديناميكا التضخُّم الأبديّ تزيل الحاجز بين الفيزياء الكلاسيكيّة والفيزياء الكميّة، وكنتيجةٍ لذلك، تنهار النظريّة النسبيّة العامة في التضخُّم الأبديّ».

في حين تعتمد نظريّة هوكينغ الجديدة على نظريّة الأوتار -إحدى الأُطُر النظريّة التي تسعى إلى جعل النسبيّة العامّة متوافقة مع فيزياء الكمّ- وذلك عبر استبدال الجزيئات النقطيّة في فيزياء الجُسيمات بأوتار دقيقة مهتزّة وذات بعد واحد.

في نظريّة الأوتار، يقترح المبدأ الهولوغرافي (The Holographic principle) أنَّه يمكن تمثيل حجمٍ معيّن من الفضاء في حدودٍ ذات أبعادٍ أقل، ومن ثمّ فإنَّ الكون يبدو مثل هولوغرام (مجسّم ثلاثيّ الأبعاد) يمكن فيه تمثيل الفضاء الثلاثيّ الأبعاد «رياضيًّا» على سطحٍ ثنائي الأبعاد.

وقد طوَّر الباحثون نموذجًا مختلفًا من المبدأ الهولوغرافي يبرز البعد الزمانيَّ في التضخُّم الأبديّ، مما سمح لهم أن يوضّحوا هذا المبدأ دون الحاجة إلى الاعتماد على نظريّة النسبيّة العامَّة.

كما سمح لهم ذلك، بعد حين، أن يجعلوا من التضخُّم الأبديّ -رياضيًّا- مقتصرًا على حالةٍ لا زمانيّة حدثت على سطحٍ مكانيّ عند بداية الكون.

ويقول هيرتوغ: «إذا عدنا بالزمن إلى الوراء، وتتبَّعنا تطوّرَ كوننا، فإنَّنا سنصل، في مرحلةٍ ما، إلى عتبة التضخُّم الأبديّ، والتي عندها يغدو الزمن بمفهومِه التقليدي غير ذي معنى».

وفي العام 1983 اقترح هوكينغ برفقة الفيزيائيّ جيمس هارتل (James Hartle) ما يُعرَف بنظريّة اللاحدوديّة (No Boundary Theory) والتي تُعرَف أيضًا بحالة هارتل-هوكينغ (Hartle-Hawking State)، وتقول النظريّة أنَّه قبل حدوث الانفجار العظيم، كان هناك فضاء، في حين لم يكن هناك وجود للزمن، وأنّ الكون نشأ وتوسَّع من نقطة متفرّدة ولكن ليس له حدود.

ولكن وفقًا للنظريّة الجديدة، فإنَّ الكون «المُبكّر» كان له حدود، وهذا ما ساعد هوكينغ وهارتل على استنتاج تنبُّؤات أكثر دقَّةً عن بُنيةِ الكون. فقد أوضح ستيفن هوكينغ قائلًا: «على المقاييس الكبرى، نتوقَّع أنَّ كوننا مستوٍ/منتظم بشكلٍ معقول، ومحدود بشكلٍ عام، أيّ أنَّه ليس كونًا ذا بُنيةٍ فركتليّة».

هذه النتيجةُ لا تنفي وجودَ أكوانٍ متعددة، لكنّها تُقلّل من عددها إلى نطاق أصغر بكثير، ومن ثمّ فإنَّ اختبار نظريَّة الأكوان المتعددة قد يكون أسهل بكثير في المستقبل، وذلك في حال قام الفيزيائيّون بتكرار هذا العمل لتأكيده.

علمًا أنَّ هيرتوغ يخطّط لاختبار هذا العمل من خلال البحث عن أمواج الجاذبيّة التي من الممكن أن تكون قد نتجت عن التضخُّم الأبديّ، والتي يتعذَّر اكتشافها على مرصد (LIGO). غير أنَّ الأجهزة المستقبليّة لقياس تداخل أمواج الجاذبيَّة مثل مسبار (LISA)، بالإضافة إلى الدراسات المستقبليّة عن أمواج الخلفيّة الكونيّة الميكرويّة، قد تتمكَّن من اكتشاف تلك الأمواج.


  • ترجمة: محمد غيث بغدادي
  • تدقيق: صهيب الأغبري
  • تحرير: ناجية الأحمد
  • المصدر