انتشر فيروس نقص المناعة البشرية في تصورات العامة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي بعدما تطورت لدى مجموعة من الشباب المثليين في سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس ونيويورك حالاتٌ غير قابلة للتفسير من سرطان الجلد وذات الرئة.

للوهلة الأولى كان الأطباء يشتبهون بأن هؤلاء الرجال كانوا يسيئون استخدام المخدرات، ولكنهم سرعان ما أدركوا أن هناك احتمالًا آخر يُثير القلق بشكل أكبر: وهو أن يكون السبب فيروسًا قابلًا للانتقال.

لم يكن للفيروس اسم بعد، ولكن القلق المتزايد ببطء من العامة دفع العلماء إلى معرفة إلى أين يتجه هذا المرض الناشئ، ولتحقيق ذلك أرادوا أولًا تحديد المكان والشخص الذي أتى منه الفيروس.

في عام 1981 قام محققون من مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها بإجراء مقابلات مع العديد من الشباب الذين يعيشون في لوس أنجلوس في المنطقة التي انتشر فيها المرض الغامض أملًا في إيجاد رابط معين، وعندما سُئل هؤلاء الشباب عن تاريخهم الجنسي ظهر اسم واحد بشكل متكرر وهو جايتان دوغاس.

خلال رحلاته المنتظمة كمضيف طيران في السبعينيات وأوائل الثمانينيات كان يُعتقد أن هذا الرجل الكندي الشره للجنس نام مع آلاف الرجال، ومن المحتمل أنه نشر هذا الفيروس إلى المئات من الناس عبر أمريكيا الشمالية وحول العالم، وذُكر أن ثماني حالات على الأقل من أول تسع عشرة حالة HIV سُجّلت في لوس أنجلوس فقط كانت لها صلة جنسية مع دوغاس أو أحد شركائه الجنسيين السابقين.

نُشرت صورة وجهه مصحوبًا بشعار “المريض رقم صفر” عبر الصحف وتقارير التلفزيون، وغالبًا نشرت هذه الصورة بجانب اتهامه بأنه بشكل متهور وضار ساعد على جلب الفيروس عبر المحيط الأطلسي، وبدأ تأثير الفيروس ينتقل من شخص إلى آخر حول العالم مثل حجارة الدومينو.

ومع ذلك، فإن هذه الفكرة عن دوغاس على أنه المريض رقم صفر هي بمجملها خرافة، إذ كشفت دراسة لمجلة NATURE، نُشرت عام 2016، أن جينوم الـHIV الخاص به كانت نماذج من السلاسل للفيروس الذي كان موجودًا في الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت ولم يكن هو أصل تنوع الفيروس في أمريكا الشمالية.

ولذلك فإن دوغاس الذي توفي من اختلاطات الـ AIDS عام 1984 رُفعت عنه تهمة أن يكون المريض رقم صفر.

ويقول الدكتور ريتشارد ماكاي من قسم تاريخ وفلسفة العلوم في جامعة كامبريدج: «غيتان دوغاس هو أحد أكثر المرضى شيطنيةً في التاريخ وشخص من ضمن العديد من الأشخاص والمجموعات الذين شُوّهت سمعتهم بالقول بأنهم بطريقة ساهموا في نشر الأوبئة بنوايا خبيثة».

«من نواحٍ عديدة، أشارت الأدلة التاريخية إلى مغالطة المريض رقم صفر لعدة عقود، ونحن الآن لدينا دليل إضافي لتطور الجينات ساعد على تعزيز هذا الموقف».

القصة الحقيقية عالمية ومدعومة بشكل أفضل، فالعلماء الآن يعلمون أن هناك نمطين من فيروس نقص المناعة المكتسب البشري هما ال HIV-1 و HIV-2 والنوع الأكثر انتشارًا والأكثر عدوى هو ،HIV-1 وهو يصنّف لمجموعات فرعية M-N-O-P والمجموعة M هي المجموعة الأكثر شيوعًا ومسؤولة عن 90% من حالات العدوى بالـ HIV-1 حول العالم.

وبالنظر إلى كتل البناء الجيني وملاحظة أنماط الطفرات فبإمكان العلماء العودة إلى الوراء لمعرفة شجرة عائلة الفيروس وكشف كيفية ظهوره لأول مرة لدى البشر.

من الواضح أن المجموعة M من الفيروس HIV-1 استقرت وانتشرت في الولايات المتحدة بين عامي 1970 و1971 بعد أن قفز الفيروس من البحر الكاريبي إلى مدينة نيويورك وفي نهاية المطاف انتشر إلى سان فرانسيسكو بحلول العام 1974.

ظهر فيروس الـ HIV في البحر الكاريبي عندما تم حمله لأول مرة إلى هاييتي في عام 1967 من جمهورية الكونغو الديمقراطية، وأقدم عينة معروفة من الـ HIV-1 تأتي من عينة دموية أخذت من رجل عام 1959 كان يعيش في مدينة ليوبودفيل المعروفة حاليًا بكينشاسا والواقعة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومع ذلك فإنها ببساطة أقدم عينة تم الاحتفاظ بها وفحصها ولكن لا تزال القصة تعود إلى أبعد من ذلك.

أظهرت أبحاث حديثة أن مدينة كينشاسا لعبت دورًا كبيرًا في الانتشار المبكر لفيروس HIV من عام 1920 على الأقل وما بعد.

وخلال الأربعين سنة التالية كان الفيروس يتسلّل بهدوء في هذه المدينة الساحلية الصاخبة حتى قابل العاصفة المثالية التي تمثلت بالتكنولوجيا الحديثة والاستعمار اللذين كانا يربطان العالم، من أجل الأفضل أو من أجل الأسوأ، بينما عنى كلٌ من تغير المواقف الاجتماعية والدعارة الغزيرة أن الجنس في كل مكان.

في هذا الوقت، يعتقد أن مجموعة من الناس من خارج الصحراء الجنوبية في إفريقية قد أصيبوا بالفيروس، ومن أبرز هؤلاء الأشخاص Arvid Noe وهو بحار نرويجي سافر إلى إفريقيا في العديد من الرحلات في بداية الستينيات، وتوفي نوي مع زوجته وابنته من مضاعفات الإيدز في 1976 وهذه واحدة من أقدم وثائق الموت المتعلقة بالـ HIV والـ AIDS.

هذا الفيروس انتقل إلى كينشاسا لأول مرة في العشرينيات من الكاميرون، ومن الأرجح عبر الطرق التجارية لنهر السانغا ونهر الكونغو، فهنا في الغابات المطرية المليئة بالقصب في الكاميرون، يعتقد أن الفيروس انتقل إلى البشر من الرئيسيات غير البشرية، ونحن نعتقد أن ذلك بسبب احتواء براز الشمبانزي في هذه المنطقة على شكل طافر من فيروس نقص المناعة القردي والذي يشبه بشكل مريب الأشكال المبكرة لفيروس نقص المناعة البشري.

أول شخص تلقى عدوى الـ HIV كان على الأرجح صياد لحوم الطوارد في مكان ما في الكاميرون في وقت ما بين عامي 1900 و 1920 وربما لن يتم التعرف عليه بسبب عدم وجود الوثائق لهذه الفترة من الزمن وغياب أي دليل مباشر والنظرية الأكثر مصداقية تقول أن هذا الشخص المجهول جرح نفسه وهو يقطع لحم الشمبانزي المصاب بسلالة متحولة من الـ SIV فيروس نقص المناعة القردي.

لم يأخذ العلماء بجدية تلك الخرافة الحاضرة التي تقول أن النقل الأولي كان عبر ممارسة الجنس بين الإنسان والشمبانزي.

ومع ذلك فالباحثون الآن يعتقدون أن هذا الانتقال بين الأنواع حدث بالواقع عدة مرات، المجموعتان M و N من ال HIV-1 نشأتا من الـ SIV الموجود لدى الشمبانزي في جنوب شرق الكاميرون، وجاءت المجموعة N من الـ HIV-1 من الغوريلا الغربية، والـ HIV-2 أتت من قردة “المُنجبي الأسخم” وهي قردة أصغر من غرب أفريقيا الاستوائية، وبالتالي فإن هذه الفكرة عن المريض رقم صفر الوحيد هي مفهوم عقيم ومخفق بشكل كبير على الصعيدين العلمي والاجتماعي.

ولعل أكثر ما يلفت الانتباه حول التاريخ القصير للـ HIV هو أن انتقاله تطلب تماسًا مباشرًا مع دم شخص مصاب بالفيروس، وبالتالي لا يوجد خطر للانتقال العرضي عبر المصافحة أو السعال أو كراسي المرحاض، وعلى الرغم من ذلك فخلال ما يقرب المئة عام، تمكن هذا الفيروس من الانتشار من الغابات المطرية في الكونغو إلى أكثر من 70 مليون شخص في كل ركن من أركان العالم.

فقط من خلال البحث عن أصل الفيروس، يمكنك أن تفهم تمامًا مجموعة الظروف الفريدة وغير المحتملة التي ساهمت في تشكيل واحد من أكبر التحديات الصحية في العصر الحديث.

ولحسن الحظ يبدو أن هذه الرحلة ستنتهي ببطء ولكن بشكل مؤكد.


  • ترجمة: أنس حاج حسن
  • تدقيق: رزان حميدة
  • تحرير: يمام اليوسف
  • المصدر