العدمية هي الاعتقاد بأن جميع القيم لا أساس لها،  وأنه لا يمكن معرفة أي شيء أو الاتصال به.

وكثيراً ما يرتبط مفهوم العدمية بالتشاؤم الشديد والشك المتطرف الذي يدين الوجود.

العدميّون الحقيقيون لا يؤمنون بأي شيء، لا يدينون بالولاء، ولا هدف لهم، إلا -ربما- دافع للتدمير.

عدد قليل من الفلاسفة يدعون أنّهم عدميون، لكن غالباً ترتبط العدمية بـ (فريدريش نيتشه) الذي جادل بأنّ آثارها المسببة للتآكل ستدمر في النهاية كل المعتقدات الأخلاقية والدينية والميتافيزيقية وتعجّل بأكبر أزمة في تاريخ البشرية.

في القرن العشرين، كانت الفكرة الرئيسية للعدمية – الفشل المعرفي، وتدمير القيم، والكون الذي بلا هدف- الشغل الشاغل للفنانين والنقاد الاجتماعيين والفلاسفة.

في منتصف القرن، ساعد الوجوديون على نشر مبادئ العدمية في محاولة لإضعاف إمكاناتها المدمرة.

مع نهاية القرن، تسبب اليأس الوجودي باللامبالاة كردّ فعل للعدمية، وغالباً ما ارتبطت برفض النزعة التأسيسية.

لقد مضى أكثر من قرن منذ أن استكشف نيتشه العدمية وآثارها على الحضارة.

وكما تنبأ، انتشر تأثير العدمية على ثقافة وقيم القرن العشرين، وأثرها المدمر الذي يخلق مزاجاً من الكآبة، وقدراً كبيراً من القلق والغضب والرعب.

من المثير للاهتمام أن نيتشه نفسه، وهو المتشكك الكبير الذي ينشغل باللغات والمعرفة والحقيقة، توقع العديد من موضوعات ما بعد الحداثة.

من المفيد أن نلاحظ، أنه اعتقد أننا يمكن – بكلفة مريعة – العمل من خلال العدمية.

إذا نجونا من عملية تدمير جميع تفسيرات العالم، يمكننا حينئذ أن نكتشف المسار الصحيح للبشرية.

الجذور

«العدمية – Nihilism » أصلها في اللاتينية nihil، أو لا شيء، وهو ما يعني نفي أي شيء، وهذا ليس موجود.

يظهر في الفعل «إبادة» annihilate بالإنجليزية ، بمعنى أن يحول الشيء إلى لا شيء، أو أن يدمره بالكامل.

في أوائل القرن التاسع عشر، استخدم فريدريش جاكوبي Friedrich Jacobi الكلمة لتمييز المثالية المتسامية بشكل سلبي.

إلا أن هذه الكلمة أصبحت شائعةً فقط بعد ظهورها في رواية إيفان تورجينيف، «آباء وأبناء» (1862)، حيث استخدم «العدمية» لوصف العلوم الخام التي اعتنقتها شخصيته بازاروف، التي تبشر بعقيدة الرفض التام.

في روسيا، عُرفت العدمية كحركة ثورية منظمة حرة (C.1860-1917) رفضت سلطة الدولة والكنيسة والأسرة.

في كتاباته المبكرة، قام الزعيم الأناركي «الفوضوي» ميخائيل باكونين Mikhael Bakunin (1814-1876) بتأليف المقولة الشهيرة التي لا تزال تعرّف العدمية: «دعونا نضع ثقتنا في الروح الأبدية التي تدمر وتبيد فقط لأنها مصدر الإبداع – اللانهائي العصي على البحث – لكل الحياة — الشغف بالتدمير هو أيضا شغف إبداعي» (ألمانيا 1842).

دعت الحركة إلى ترتيب اجتماعي قائم على العقلانية والمادية كمصدر وحيد للمعرفة والحرية الفردية كأعلى هدف.

من خلال رفض وهب جوهر الإنسان الروحي لصالح كيان مادي وحيد ، رفض العدميون الله والسلطة الدينية لأنها مناقضة للحرية.

تدهورت الحركة في النهاية إلى روح التخريب والدمار والفوضى، وبحلول أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر ، كان العدمي هو أي شخص مرتبط بالجماعات السياسية السرية التي تدعو إلى الإرهاب والاغتيال.

أول المواقف الفلسفية المرتبطة بما يمكن وصفه بأنه النظرة العدمية كانت من الشكوكي Skeptics.

ولأنهم أنكروا إمكانية اليقين، يمكن للشكوكيين أن ينكروا الحقائق التقليدية باعتبارها آراء لا مبرر لها.

عندما يرى ديموسثينيس Demosthenes (ق.م 371 – 322 ق.م)، مثلاً، « اعتقاد المرء، هو ما يود أن يعتقده» (أولينثياك)، فإنه يطرح طبيعة العلاقة المعرفية.

وترتبط الشكوكية الشديدة، بالعدمية المعرفية التي تنكر إمكانية المعرفة والوصول إلى الحقيقة؛ هذا الشكل من العدمية يتم تحديده حالياً مع النزعة المضادة في ما بعد الحداثة.

ويمكن فهم العدمية بعدة طرق مختلفة، فالعدمية السياسية، كما لوحظ، ترتبط بالاعتقاد بأن تدمير كل النظام السياسي والاجتماعي والديني القائم هو شرط أساسي لأي تحسن في المستقبل.

العدمية الأخلاقية أو العدمية القيمية ترفض القيم الأخلاقية أو القيمية المطلقة.

بدلاً من ذلك، الخير والشر مزج غامض، والقيم التي تعالجها هي نتاج الضغوط الاجتماعية والعاطفية.

العدمية الوجودية هي الفكرة القائلة بأن الحياة ليس لها معنى أو قيمة جوهرية، ولا شك أنه المعنى الأكثر شيوعا للكلمة اليوم.

هجوم ماكس ستيرنر Max Stirner (1806-1856) على الفلسفة المنهجية، وإنكاره للمطلق، ورفضه للمفاهيم المجردة من أي نوع يضعه بين أول الفلاسفة العدميين.

بالنسبة إلى ستيرنر، فإن تحقيق الحرية الفردية هو القانون الوحيد. والدولة التي تضر الحرية بالضرورة يجب تدميرها.

بعد اضطهاد الدولة، تأتي القيود التي يفرضها الآخرون لأن وجودهم ذاته يشكل عقبة تهدد الحرية الفردية.

وهكذا يجادل ستيرنر أن الوجود هو «حرب لانهائية كل ضد الجميع» (الأنا والإيجو، 1909).

فريدريك نيتشه والعدمية

من بين الفلاسفة، غالباً ما يرتبط فريدريك نيتشه بالعدمية. بالنسبة إلى نيتشه، ليس هناك ترتيب موضوعي أو هيكلي للعالم إلا ما نمنحه له.

تحطيم الواجهات التي تدعم الإدانات، العدمية تقضي بأن جميع القيم لا أساس لها.

يقول نيتشه: «كل اعتقاد، كل اعتبار أن شيء ما صحيح، هو بالضرورة خطأ لأنه لا يوجد ببساطة عالم حقيقي » (إرادة السلطة [ملاحظات من 1883-1888]).

بالنسبة له، فإنّ العدمية تتطلب تنصلاً جذرياً من كل القيم والمعاني المفروضة: «العدمية ليست فقط الاعتقاد بأن كل شيء يستحق أن يهلك، ولكن أن يدمر أحدهم الحرث والنسل » (إرادة السلطة).

إن القوة الكاوية للعدمية أمر مطلق، كما يجادل نيتشه، وتحت تدقيقه المتذمر «فإن القيم العليا تخفض من قيمة نفسها.

الهدف يضمحل، و« السؤال بـ (لماذا) ليس له إجابة » (إرادة السلطة).

حتماً، العدمية سوف تفضح كل المعتقدات العزيزة والحقائق المقدسة كما حدث للأساطير الغربية المعيبة.

هذا الانهيار للمعنى، والأهمية، والغرض سيكون أكثر القوى تدميراً في التاريخ، مما يشكل اعتداءً شاملاً على الواقع ولا يقلّ عن أكبر أزمات الإنسانية.

منذ نقد نيتشه المقنع، كانت موضوعات العدمية – الفشل المعرفي، وتدمير القيمة، والكون الذي بلا هدف – الشغل الشاغل للفنانين والنقاد الاجتماعيين والفلاسفة.

وتحت تأثير الاقتناع بأن تحليل نيتشه كان دقيقاً، درس أوزوالد سبينجلر Oswald Spengler في تراجع الغرب The Decline of the West (1926) عدة ثقافات لتأكيد أن أنماط العدمية كانت في الواقع سمة بارزة من سمات الحضارات المنهارة.

لاحظ سبينجلر في كل من الحضارات الآفلة التي تعرض لها، أن التقاليد القديمة الدينية والفنية والسياسية أصابها الضعف وبدأت قيمها في الانحلال تدريجياً في كثير من ملامح العدمية: العدمية الفاوستية «تحطم المثل العليا».

العدمية الأبولوية «يشاهدها تنهار أمام عينيه». والعدمية الهندية «ينسحب من الوجود من تلقاء نفسه».

الانسحاب، غالباً ما يتم تحديده مع نفي الواقع والاستقالة التي تدعو إليها الديانات الشرقية، هو في الغرب يرتبط مع صيغ مختلفة من الأبقورية و الرواقية.

في دراسته، يخلص سبينجلر إلى أن الحضارة الغربية بالفعل في مراحل متقدمة من الاضمحلال مع كل الأشكال الثلاثة من العدمية التي تعمل على تقويض السلطة المعرفية والوجود على الأرض.

في عام 1927، لاحظ مارتن هايدغر Martin Heidegger، أن العدمية في أشكال مختلفة وخفية كانت بالفعل «الحالة الطبيعية للإنسان» (مسألة الكينونة) (The Question of Being)

توقعات الفلاسفة الآخرين حول تأثير العدمية كانت مريعة.

وشرح هيلموت ثيليك Helmut Thielicke، الذي يوجز أعراض العدمية في القرن العشرين: «العدمية ليس لها سوى حقيقة واحدة حرفياً، وهي أن لاشيء يسود وأن العالم لا معنى له» (العدمية: أصلها وطبيعتها، ورأي المسيحية، 1969) من وجهة نظر العدميين، يمكن للمرء أن يستنتج أن الحياة غير أخلاقية، يعتقد ثيليك أن هذا الاستنتاج يحفز هذه المسوخ مثل الحكم النازي المريع.

تظهر التنبؤات القاتمة أيضاً لتأثير العدمية في عدمية يوجين روز Eugene Rose: جذور ثورة العصر الحديث (1994) The Root of the Revolution of the Modern Age. إذا كانت العدمية تثبت أنها ستنتصر – ويجادل بأنها في طريقها إلى ذلك- فإن عالمنا سيصبح «عالماً بارداً لا إنسانياً» حيث «الانعدام وعدم الاتساق والسخط» سوف ينتصر.

العدمية الوجودية

تناقش العدمية غالباً من حيث التشكك الشديد والنسبية، لقد كان معظم القرن العشرين مرتبطاً بالاعتقاد أن الحياة لا معنى لها. تبدأ العدمية الوجودية بفكرة أن العالم بدون معنى أو غرض.

بالنظر إلى هذا الظرف، فإنّ الوجود نفسه – كل العمل والمعاناة والشعور – هو في نهاية المطاف لا معنى له، خواء.

في الجانب المظلم: أفكار حول مستقبل الحياة (1994) Thoughts on the Futility of Life، يوضح آلان برات Alan Pratt أن العدمية الوجودية، كانت جزءاً من التقليد الفكري الغربي منذ البداية.

إن ملاحظة تشكيكية إمبيدوكليس أن «تظل حياة الموتى ذات قيمة حتى يصبحوا غير أحياء، تجسد نفس النوع من التشاؤم الشديد المرتبط بالعدمية الوجودية.

في العصور القديمة، قد يكون هذا التشاؤم العميق قد وصل إلى قمته مع هيجسياس قورينا Hegesias of Cyrene- هيجسياس فيلسوف إغريقي عاش في مدينة بناها الإغريق في ليبيا والمعروفة الآن باسم شحات أو قورينا -.

يقول الفيلسوف: لأن المآسي تفوق عدد الملذات، فإن السعادة مستحيلة، ثم يدعو في وقت متأخر إلى الانتحار.

بعد ذلك بقرون عديدة وفي أوج عصر النهضة، لخّص ويليام شكسبير ببلاغة وجهة نظر العدمية الوجودية، في الجملة الشهيرة حينما حانت نهاية ماكبث، صبّ ماكبث اشمئزازه من الحياة:

بعيداً، بعيداً، شمعة ضئيلة!ا

لحياة لعبة ظل، والمرء مسكين

تقتات من ساعات حياته ، تتبختر في رعونة

عندما ينقطع سمعه؛ يصبح هو الحكاية

سيحكيها أبله آخر ، بالغضب وبالأناة

كمحض هراء.

في القرن العشرين، بدأت الحركة الوجودية الإلحادية، التي انتشرت في فرنسا في الأربعينات والخمسينات، أصبحت المسؤولة عن انتشار العدمية الوجودية في الوعي الشعبي.

جان بول سارتر (1905-1980) الذي دفع الحركة بمقولته، «الوجود يسبق الجوهر»، يستبعد أي أساس أو قاعدة ساهمت في تأسيس جوهر الذات أو الطبيعة البشرية. عندما نتخلى عن الأوهام، نكتشف أن الحياة لاشيء؛ بالنسبة للوجوديين، فإن العدم ليس مصدراً للحرية المطلقة فحسب، بل هو أيضاً رعب وجودي وآلام عاطفية.

من الكتابة المستنيرة العبثية. كتب ألبير كامو (1913-1960)، أن محنة سيزيف، التي أدانت النضال الأبدي، غير المجدي، كانت استعارة رائعة للوجود الإنساني (أسطورة سيزيف، 1942).

إن الخيط المشترك في أدبيات الوجوديين يتأقلم مع الألم العاطفي الناشئ عن مواجهتنا مع العدم، لقد بذلوا جهداً كبيراً لإيجاد حل لمسألة ما إذا كان البقاء على قيد الحياة ممكناً.

وكانت إجابتهم ب «نعم»، تدعو إلى صيغة من الالتزام العاطفي ورزانة التخلي عن المشاعر.

لاحقاً أصبحت طرفة مملة مع اليأس لأنه في عالم سخيف لا توجد على الإطلاق أي مبادئ توجيهية، وأي مسار للعمل سيسبب إشكالية.

الالتزام العاطفي، سواء كان ذلك لاكتساب الأرض، أو الخلق، أو أياً كان، هو نفسه لا معنى له. لقد أصبح في حيز العدمية.

كامو، شأنه في ذلك شأن الوجوديين الآخرين، كان مقتنعاً بأن العدمية هي المشكلة الأكثر إثارة للقلق في القرن العشرين.

على الرغم من أنه يجادل بحماس أن الأفراد يمكنهم أن يتحملوا آثار التآكل، فإن أعماله الأكثر شهرة واجهت صعوبات غير عادية في بناء حالة مقنعة.

في الغريب (1942)، رفض مورسولت الافتراضات الوجودية التي يعتمد عليها غير المتحدين والضعفاء.

قبل لحظات من إعدامه لقتل لا مبرر له، يكتشف أن الحياة وحدها هي سبب كاف للعيش، وأنها سبب الوجود، ومع ذلك، يبدو السياق غير مقنع.

في كاليجولا (1944)، يحاول الإمبراطور المجنون الهروب من المأزق الإنساني من خلال أفعال غير إنسانية من العنف المريع، والفشل، وترتيبه لقتل نفسه بشكل مستتر.

ويظهر الطاعون (1947) عدم جدوى قيام المرء بأفضل ما لديه في عالم سخيف.

وفي عمله الروائي الأخير- القصير والخطير- السقوط (1956)، كامو يفترض أن الجميع لديه أيادٍ ملطخة بالدماء لأننا جميعاً مسؤولون عن خلق هذا الحالة المؤسفة وجعل عالمنا أسوأ بسبب أفعالنا المتخاذلة والأنانية على حد سواء.

في هذه الأعمال وغيرها من أعمال الوجوديين، غالباً ما يترك لدى المرء الانطباع بأن العيش بشكل سوي في حياة بلا معنى أمر مستحيل.

كان كامو على علم تام بمزالق تعريف (وجود دون معنى)، وفي مقاله الفلسفي العصيان (1951) يواجه مشكلة العدمية.

وفيه يصف كيف يؤدي اضمحلال الميتافيزيقا إلى انتصار العدمية الذي يتسم بالكراهية العميقة والتدمير المرضي والعنف والموت.

العدمية ورفض النزعة التأسيسية

بحلول أواخر القرن العشرين، كانت «العدمية» قد استولت على طبقتين مختلفتين.

أحد هذه الأشكال ، يستخدم لفظ «العدميون» لوصف شخص ما بعد الحداثة، لاإنساني الطابع، والغريب، وغير المبال، والحيران، وتوجيه الطاقة النفسية إلى النرجسية المتشددة أو إلى بلادة عميقة غالباً ما تنفجر في العنف.

ويستمد هذا المنظور من انعكاسات الوجوديين على العدمية التي تجردت من أي توقعات، تاركةً فقط تجربة المرض والتفسخ والتفكك.

في دراسته يكتب دونالد كروسبي Donald Crosby عن انعدام المعنى وأن مصدر العدمية الحديثة ينبع من الالتزام بالانفتاح الفكري الصادق.

«بمجرد أن تتحرك دوامة الأسئلة قد تقضي على المرء، من تآكل إلى أفول اليقين وصولاً إلى اليأس» (شبح العبثية 1988).

نسخة مايكل نوفاك Michael Novak المنقحة مؤخراً تجربة لا شيء (1968، 1998) The Experience of Nothingness تحكي قصة مماثلة.

كلتا الدراستين هي ردود على نتائج الوجوديين القاتمة من أوائل القرن.

ويناقش كلاهما على نحو متفائل طرق الخروج من الهاوية من خلال التركيز على الآثار الإيجابية التي يكشف عنها العدم، مثل الحرية والاستقلال والإمكانيات الإبداعية.

نوفاك، على سبيل المثال، يصف كيف نعمل منذ الحرب العالمية الثانية على «الهروب من العدمية» في الطريق لبناء حضارة جديدة.

على النقيض من الجهود المبذولة للتغلب على آثار العدمية المذكورة أعلاه تأتي استجابة ما بعد الحداثة الفريدة المرتبطة برفض النزعة التأسيسية الحالية.

لقد أفسحت الأزمة الفلسفية والأخلاقية والفكرية للعدمية – التي عصفت بعقول الفلاسفة المحدثين لأكثر من قرن من الزمن – الطريق إلى قبول متفائل للامعنى.

يصف الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار Jean-Francois Lyotard ما بعد الحداثة بأنه «سرديات ضخمة من السخافة»، تلك التي تشمل جميع الأسس التي اعتمدنا عليها لإعطاء معنى للعالم.

يؤكد الناقد جاك دريدا Jacques Derrida ، أنه لا يمكن للمرء أن يكون متأكداً من أن ما يعرفه المرء يتطابق مع حقيقة ما هو الشيء.

وبما أن البشر لا يشاركون إلا في جزء لا نهائي من العموم، فهم غير قادرين على فهم أي شيء على وجه اليقين، والمطلق هو مجرد «أشكال خيالية».

يضيف ريتشارد رورتي Richard Rorty، نقطة مماثلة: «لا شيء يبرر ممارساتنا، ولا شيء يشّرعها، ولا شيء يدلنا على الطريقة التي تتواصل بها الأشياء» (من المنطق إلى اللغة إلى اللعب، 1986).

يخلص رورتي إلى أن هذا الخيط المعرفي، يؤدي حتماً إلى العدمية. «في مواجهة اللاإنسانية، التي لا يمكن وصفها، لم يعد لدينا القدرة على التغلب على الصدفة والألم من خلال الاستيلاء والتحول، ولكن فقط من خلال القدرة على التعرف على الصدفة والألم» (الصدفة، والسخرية، والتضامن، 1989). على النقيض من مخاوف نيتشه، تصبح العدمية بالنسبة لرافضي النزعة التأسيسية للتطرف مجرد جانب آخر من بيئتنا المعاصرة.

تناقش كارين كار Karen Carr في نقد العدمية (1992) The Banalization of Nihilism رد فعل رفض النزعة التأسيسية على العدمية.

على الرغم من أنها لا تزال تشعل النسبية المشلولة وتدمر الأدوات الحاسمة، «العدمية البهجة» الموجودة اليوم، كما لاحظت، تتميز بقبول سهل اللامعنى.

وتخلص كار إلى أن هذا التطور يدق جرس الخطر. وإذا قبلنا أن جميع وجهات النظر متساوية في كونها غير ملزمة، فإن الغطرسة الفكرية أو المعنوية ستحدد المنظور الذي له الأسبقية.

والأسوأ من ذلك، أن تحرير العدمية يخلق بيئة يمكن فيها فرض الأفكار بالقوة مع مقاومة ضئيلة، والسلطة الخام وحدها تحدد الهرمية الفكرية والأخلاقية.

إنه استنتاج يتطابق بشكل جيد مع نيتشه، الذي أشار إلى أن جميع التفسيرات في العالم هي ببساطة مظاهر من إرادة السلطة.

الخلاصة

لقد مضى أكثر من قرن منذ أن استكشف نيتشه العدمية وآثارها على الحضارة.

كما تنبأ، انتشر تأثير العدمية على ثقافة وقيم القرن العشرين، وأثرها المدمر الذي يخلق مزاجاً من الكآبة، وقدراً كبيراً من القلق والغضب والرعب.

من المثير للاهتمام أن نيتشه نفسه، وهو المتشكك الكبير الذي ينشغل باللغات والمعرفة والحقيقة، توقع العديد من موضوعات ما بعد الحداثة.

من المفيد أن نلاحظ، أنه اعتقد أننا يمكن – بكلفة مريعة – العمل من خلال العدمية. إذا نجينا من عملية تدمير جميع تفسيرات العالم، يمكننا حينئذ أن نكتشف المسار الصحيح للبشرية:

انا أمدح ولا أذم.. الوصول الى (العدمية) باعتقادي هو أحد أعظم الأزمات..

لحظة أعمق انعكاس للنفس البشرية…

إذا تعافى الشخص منها أو إذا أصبح سيد هذه الأزمة..

فتلك مسألة قوته.. (الأعمال الكاملة المجلد 13)


  • ترجمة: مصطفى العدوي.
  • تدقيق: رنا خضر.
  • تحرير: سهى يازجي.
  • المصدر