الجزء الأول:

كيف نستطيع أن نحصل على مردود أكبر من أشياء أصغر؟ من الملاحظ أن حجم الحواسيب آخذ بالتناقص بينما الفعالية والقدرة على المعالجة في تزايد، إن إمكانيات المعالجة والتخزين المتواجدة في هاتف محمول في القرن الواحد والعشرين تتفوق على ما وجد قبل خمسين سنة في كمبيوتر عسكري بحجم غرفة.

لكن للأسف بالرغم من كل هذا التطور الرائع, ما زال هناك الكثير من المعضلات المعقدة التي لا يمكن حلها حتى باستخدام أكثر الحواسيب تطوراً, وليس هناك حتى من ضمانة أننا سنستطيع معالجة هذة المسائل باستخدام هذا النوع من الحواسيب.

أحد المشاكل وراء ذلك تتمثل بأن الترانزستورات (transistors) التي هي الوحدات الأساسية المستخدمة في بناء الذواكر والمعالجات والتي يسعى المطورون إلى تصغير حجمها ستصبح قريباً بحجم الذرة وهو الحد الأدنى للصغر تقنياً بكل الأحوال.

لو أردنا بناء حواسيب أصغر وأكثر قدرة من الحواسيب الحالية، سوف نحتاج لتغيير آلية الحوسبة (computing) بشكل جذري.

إن الولوج في عالم الذرات يفسح المجال واسعاً أمام إمكانيات هائلة جديدة وذلك باستخدام الحوسبة الكمومية (quantum computing) , بمعالجات ذات استطاعة للعمل أسرع بملايين المرات من المعالجات الحالية.

هذا يبدو رائعاً, لكن المشكلة أن الحوسبة الكمومية تحتوي من التعقيد ما يفوق بمراحل الحوسبة التقليدية وهي التي عملها يقع في نطاق العالم السحري للفيزياء الكمومية (quantum physics) حيث تصبح القوانين الفيزيائية الكلاسيكية الملموسة غير قابلة للتطبيق.

ما هي الحوسبة الكمومية وما هي آلية عملها؟ سوف نلقي نظرة عن قرب في مقالة الجزء الثاني من هذا الموضوع, ولكن الآن من الضروري أن نجيب على السؤال التالي:

ما هي الحوسبة التقليدية؟

من المتوقع أن تعتقد أن الحاسوب هو تلك الأداة الصغيرة الأنيقة التي توضع بحضنك وتمكنك من إرسال الرسائل الالكترونية والتسوق الإلكتروني, ربما تكون أيضًا وسيلة للدردشة والألعاب, لكن هي في الحقيقة أكثر بكثير و بنفس الوقت أقل بكثير مما تعتقد.

هي أكثر, لأنها آلة ذات أهداف عامة:إفتراضيًا بإمكانك أن تجعلها تقوم بأي شيء تريده. بالمقابل هي أقل مما تعتقد, لسبب بسيط هو أنها من الداخل ليست إلا أكثر بقليل من آلة حاسبة عادية, تتبع سلسلة من التعليمات المعدة مسبقًا أي ما يسمى برنامج.

فهذا المذهل الذي تراه أمامك يخفي تحت غطاءه أشياء عادية تماماً.

الحواسيب التقليدية تمارس حيلتين تمكناها من الأداء بهذا الشكل الجيد: الأولى أن لديها الإمكانية أن تخزن أعداد في ذاكرة وأما الثانية هي أنها تستطيع أن تعالج هذه الأعداد المخزنة باستخدام عمليات رياضية بسيطة (كالجمع و الطرح).

كما تستطيع أن تؤدي أشياء أكثر تعقيداً بواسطة ضم عدة عمليات بسيطة مع بعضها في سلسلة, وهو ما يطلق عليه إسم خوارزمية (كمثال فإن عملية الضرب يمكن أن تتم بإجراء عمليات جمع متكررة).

الحيلتان التي تقوم بهما الحواسيب – التخزين والمعالجة- تتم باستعمال قواطع (switches) تسمى ترانزستورات، والتي هي شبيهه إلى حد بعيد بقواطع الإنارة على جدران منزلك ولكن بنسخة مصغرة جداً.

الترانزستور له حالتان, إما بحالة وصل (on) أو قطع (off) , كما هو هو الحال تماماً مع أجهزة الإنارة فهي إما مضاءة أو ليست مضاءة.

إذا كان الترانزستور بحالة وصل فيستخدم حينها لتخزين العدد “1” و إلا فيستخدم لتخزين العدد “0”.

السلسلة الطويلة من العددين “1”و “0” يمكن أن تستخدم لتمثيل و تخزين أي عدد, حرف, أو رمز و ذلك بلإستعانة بطرق عديدة للترميز (coding) ويدعى بالترميز الثنائي كون أبجديته تحوي فقط العددين “0,1” (إذن كمثال فإن الحواسيب تخزن الحرف A في الحالة العليا كـ 1000001 وفي الحالة الدنيا a كـ 01100001).

كل واحد أو صفر يدعى رمز ثنائي (binary digit) أو بت (bit) , و بسلسلة من ثمانية بتات يمكن أن تخزن 255 حرف، رقم أو رمز مختلف.

الحواسيب تقوم بالعمليات الحسابية باستخدام مايسمى بالبوابات المنطقية (logic gates), والتي هي بالتالي مكونة من عدة ترانزستورات مربوطة ببعضها. البوابات المنطقية تقوم بمقارنة التشكيلات المختلفة أو الكلمات المكونة من بتات والمخزنة في ذاكرة مؤقتة تدعى بالسجلات (registers), ومن ثم تكون نتيجة المقارنة عبارة عن تشكيلة جديدة من الأصفار و الواحدات. هذه العملية مكافئة لما يقوم به الدماغ البشري من الجمع والطرح أو الضرب.

بالمصطلح الفيزيائي, فإن الخوارزمية التي تؤدي عملية حسابية ما هي الا عبارة عن دارة الكترونية مكونة من عدد من البوابات المنطقية, الخرج الناتج عن هذة الدارة سيغذي دارة منطقية أخرى، و هكذا دواليك.

مشكلة الحواسيب التقليدية هي أنها معتمدة بالكامل على الترانزستورات.

قد تبدو للبعض أنها ليست بمشكلة خصوصًا لو أخذنا بالحسبان التقدم المذهل في مجال الصناعات الالكترونية في العقود الأخيرة. عندما أخترع الترنزستور في عام 1947, القاطع الذي كان مستعملاً والذي تم استبداله بالترانزستور كان يدعى بالأنبوب أو الصمام المفرغ (vacuum tube) كان بحجم إبهامك.

الآن, أحدث المعالجات تحتوي مئات ملايين الترانزستورات وأحيانًا يصل لملياري ترانزستور في شريحة واحدة من السيليكون بحجم أظفر إبهامك! شرائح كهذه, والتي تدعى بالدارات المتكاملة (integrated circuits), هو بلا شك نتيجة مجهود عظيم في التصغير.

في ستينات القرن الماضي, أحد المؤسسين لشركة انتل العملاقة يدعى غوردون موور (Gordon Moore) أدرك مبكرًا أن قوة الحواسيب سوف تتضاعف تقريبًا كل ثمانية عشر شهراً, و بالحقيقة فإن نبوءته مازالت تتحقق بالفعل منذ ذلك الوقت. ما قاله غوردون موور أصبح ما يدعى قانون موور (Moore’s law).

حتى الآن ما تقدم يبدو رائعاً, وهو كذلك, لكن هذه الروعة تفتقد لأمر ما غاية في الأهمية.

كلما زادت المعلومات التي تريد تخزينها, كلما احتجت لواحدات و أصفار أكثر وكذلك لترانزستورات أكثر. بما أن معظم الكمبيوترات الحالية أي التقليدية تستطيع أن تقوم بعمل واحد بنفس الوقت, فكلما زاد تعقيد المسألة التي تريد القيام بحلها, كلما أيضًا بالضرورة زادت الخطوات التي تحتاجها وكذلك يزداد الوقت المستغرق لإتمامها.

بعض المسائل الحسابية معقدة لدرجة كبيرة و تحتاج طاقة حسابية ووقت أكبر مما يقدمه أي حاسوب مهما كان متطوراً: هذا ما يطلق عليه علماء الحواسيب بالمعضلات العسيرة أو العنيدة.

وفقاً للتطور الذي يضمنه قانون موور فإنه من المفترض أن تتلاشى هذه المعضلات العسيرة آنفة الذكر.

فالحواسيب ستمتلك طاقة أكبر وسوف تستخدم في أمور أكثر تعقيداً. لكن المشكلة يمكن تلخيصها كالتالي, الترانزستورات هي تقريباً ستصل لأقصى حد ممكن من الصغر. وما يبدو بالتالي أن قوانين الفيزياء سوف تضع حداً لاستمرار تطبيق قانون موور فلا مزيد من مضاعفة القدرة الحاسوبية كل ثمانية عشر شهراً كما جرت عليه العادة في السابق.

لسوء الحظ, لازال هنالك العديد من المسائل الحسابية المعقدة التي لم نستطع أن نحلها بسبب عدم قدرة حتى أكثر الحواسيب تطوراً من مجاراتها والتغلب عليها. هذا أحد الأسباب التي تدفعنا حاليًا للاهتمام المتزايد بالحوسبة الكمومية.

ما قمت بتقديمه حتى الآن ما هو إلا مقدمة عن التكنولوجيا المتبعة بالحواسيب الحالية وهو الأمر الذي من الضروري بمكان فهمه بشكل جيد لنتمكن سوياً في الجزء المقبل من هذا الموضوع من فهم مبدأ الحوسبة الكمومية المعقد.

هذه الحوسبة التي ستنقلنا من عالم تحكمه القوانين الفيزيائية الكلاسيكية إلى عالم العجائب حيث لا مكان لأي شيء تقليدي.

الجزء الثاني:

تطرقنا في الجزء الاول من موضوعنا في الحواسيب الكمومية عن مبدأ عمل الحواسيب التقليدية وأبرز مشاكلها و توقفنا عند السؤال عن ماهية هذه الحوسبة الكمومية.

رغم التطور الرهيب المتسارع في قدرات الحواسيب لكن العلم مازال يضج بالمسائل المعقدة التي لا تقوى الحواسيب الحالية على معالجتها نظرًا لقصور إمكانياتها في التخزين والمعالجة.

بين أيديكم الآن الجزء الثاني الذي سيحاول فك تعقيد المبدا الكمومي الذي ستبنى عليه الاجيال القادمة من الحواسيب الأسرع بملايين المرات من سابقاتها الحالية.

ما هي الحوسبة الكمومية؟

النظرية الكمومية (quantum theory) هي أحد فروع الفيزياء التي يهتم بعالم الذرات بالإضافة للجزيئات المتناهية الصغر التي بداخل هذه الذرات.

لربما تعتقد أن الذرات تتصرف بنفس طريقة تصرف أي شيء آخر في العالم. لكن هذا الإعتقاد بعيد تماماً عن الصحة: عندما ننتقل إلى مستوى الذرات, فإن القوانين الحاكمة تتغير وتصبح قوانين الفيزياء الكلاسيكية التي عادة ما نأخذها كمسلمات غير قابلة للتطبيق بشكل أتوماتيكي.

كما قال ريتشارد فينمان (Richard P. Feynman) أحد أشهر الفيزيائيين في القرن العشرين”عندما تكون الأشياء صغيرة جداً فإنها تتصرف بطريقة لم نراها ولم نختبرها من قبل”

لو أتيحت لك من قبل دراسة الضوء خلال تحصيلك العلمي, فأنت ربما تعرف قليلاً عن النظرية الكمومية .

ربما تعلم أن حزمة الضوء أحيانًا تتصرف كما لو أنها مكونة من جزيئات ( مثل سيل قطرات المطر), وأحيانًا أخرى تتصرف كما لو أنها موجات طاقة مهتزة ( مثل أمواج البحر).

هذا ما يدعى بثنائية الجزيء -الموجة (wave-particle duality) . من الصعب بمكان تقبل فكرة إمكانية أن يكون شيء في حالتين بنفس الوقت – جزيء و موجة – لأنها فكرة غريبة عن ما نختبره في حياتنا اليومية فالسيارة لايمكن أن تكون دراجة و باص في آن معاً.

لكن ما هذا إلا أحد أنواع الأمور الغريبة و المجنونة التي تحصل في النظرية الكمومية.

أحد أشهر الأمثلة بإمكانية تواجد الشيء في حالتين هو الأحجية العلمية المحيرة المسماة بـ ” قطة شرودينغر” (Schrodinger’s cat) . باختصار, في العالم الغريب للنظرية الكمومية, بإمكاننا أن نتخيل حالة يكون فيها شيء مثل القطة حية و ميتة بنفس الوقت!

ما علاقة كل هذا بالحواسيب؟ لنفرض جدلاً أننا سنستمر في تطبيق قانون موور بأن نصنع ترانزستورات بشكل أصغر إلى أن نصل لمرحلة حيث الترانزستورات لا تصبح خاضعة لقوانين الفيزياء الكلاسيكية , كما الترانزستورات الحالية, لكن تخضع لقوانين ميكانيكا الكم (quantum mechanics) الأكثر غرابة.

السؤال هنا هل الحواسيب المصممة بهذا الشكل بمقدورها أن تقوم بمهام لا تقدر عليها حواسيبنا الحالية. لنفترض أيضا أننا تمكنا عبر المعادلات الرياضية أن نتنبأ بقدرتها على ذلك, فهل بإمكاننا حقاً أن نجعل هذه الحواسيب تعمل على أرض الواقع؟

الحوسبة + الكمومية = الحوسبة الكمومية

كما ذكرت في الجزء الأول من هذا الموضوع, المكونات الرئيسية للحاسوب التقليدي – البتات, السجلات, البوابات المنطقية, الخوارزميات, وأشياء أخرى – كلهم لهم نظراء في الحاسوب الكمومي. فبدلاً عن البتات, الحاسوب الكمومي لديه البتات الكمومية (quantum bits أو qubits) وهي تعمل بشكل غريب ومختلف تماماً.

في الحاسوب التقليدي البت يخزن إما صفر أو واحد, بينما البت الكمومي أو الكمي بمقدوره أن يخزن أحد الحالات التالية ,صفر, واحد, كلا الصفر والواحد, أو أي عدد من القيم اللانهائية التي تقع بين الصفر والواحد.

بإمكانه أن يكون في عده حالات بنفس الوقت اي أن يخزن عدة قيم. هذا يبدو محيراً ومربكاً بلا شك. هنا دعونا نعود أدراجنا قليلاً لمسألة إمكانية أن يكون الضوء جزيء أو موجة في ذات الوقت, قطة شرودينغر حية وميتة بنفس الوقت, أو السيارة تكون دراجة وباص بآن واحد.

الطريقة الأكثر وضوحاً لفهم ما يمكن للبتات الكمومية أن تخزنها هو عبر مبدأ التراكب في الهندسة (superposition) حيث ينص باختصار أن موجتين يمكن أن تجمعا أو تتراكبا مع بعضهما لتكوين موجة ثالثة تحتوي كلا الموجتين الأصليتين.

لو نفخت في آلة موسيقية كالناي, فإن الأنبوب سوف يمتلئ بموجه هوائية إهتزازية مكونة من عنصرين الأول هو الموجة ذات التردد الأولي – النوتة الموسيقية الأساسية التي تعزفها – والثاني هي عدد كبير من الموجات تسمى بالتوافقيات وهي ذات ترددات من مضاعفات التردد الأساسي.

الموجة في الأنبوب تحوي كل هذه الموجات بآن واحد: لقد انجمعت كل الأمواج لتشكل موجة وحيدة تحويهم جميعاً.

البتات الكمومية تستخدم مبدأ التراكب نفسه لتمثل عدة قيم رقمية بشكل متزامن وبنفس الطريقة.

بما أن الحاسوب الكمومي يستطيع تخزين عدة أرقام بنفس الوقت, فإنه بالتالي يستطيع أن يعالجهم بشكل متزامن.

فبدلاً من العمل بشكل متسلسل- القيام بالأشياء بالتتالي- فهو يعمل بشكل تفرعي –يقوم بعدة اشياء بذات الوقت- .

لكن فقط عندما تحاول أن تكتشف بطريق القياس ما هي الحالة التي يكون عليها البت الكمومي في لحظة ما فإن هذه التعددية في الحالات تتلاشى لتبقى فقط حالة أو قيمة واحدة, هذه القيمة هي نتيجة عملية المعالجة التي سعيت إليها.

التقديرات تتوقع أن تلك القدرة للحاسوب الكمومي بالعمل بشكل تفرعي ستجعله أسرع بملايين المرات من أي حاسوب تقليدي.


  • اعداد: ابراهيم رشدان
  • تحرير: محمد سمور
  • المصدر