الإحصائية الرحيمة: قصة امرأة استثنائية


اشتهرت فلورنس نايتنجيل (Florence Nightingale) في دورها كممرضة. خلال حرب القرم التي وقعت أحداثها في تركيا بين 1853 و1856، كانت تعمل في المستشفيات العسكرية حيث كان يعالج الجنود البريطانيون. أصبحت مشهورة بعد ذلك بلقب “السيدة مع المصباح”، التي تقوم بجولاتها في الليل لرعاية الجنود المصابين. بعد الحرب، قادت فلورنس نايتنجيل إصلاحًا في المستشفيات العسكرية، التي كانت منذ ذلك الحين متسخة وغير منظمة. لقد كان إنجازًا كبيرًا: لم يكن يتوقع من النساء أن تقوم بعملٍ مثل هذا في العصر الفيكتوري، حيث قامت نايتنجيل بالعمل بجدية من أجل أن تُعامل بجدية من طرف السلطات.

رغم شهرتها كممرضة، قد لا تكون على علمٍ بأن أبرز أداة استخدمتها في عملية إصلاح المستشفيات كانت الإحصائيات. تعتبر الإحصائيات جزءًا من الرياضيات حيث يتم جمع الأرقام المستنبطة من العالم الحقيقي ليتم تحليلها من أجل رؤية ما قد نتعلمه من ذلك. كانت نايتنجيل مصدومة من الحالة التي وجدت عليها المستشفيات العسكرية في تركيا: لم يكن هنالك أغطية أو أفرشة أو أثاث أو غذاء أو أواني طبخ، وكانت الفئران والبراغيث في كل مكان. لم تكن نايتنجيل سعيدة بالغياب الواضح للنظافة، لكنها كانت مستاءة كذلك من عدم وجود أية تسجيلات طبية منظمة. حتى أعداد الوفيات لم تكن دقيقة؛ دفن المئات من الرجال ولم تسجل وفياتهم.

قامت نايتنجيل بتسجيل الإحصائيات بشكلٍ حذر مثل أرقام وأسباب الوفيات، ووجدت الظروف غير الصحية، التي قد تتسبب في أمراض مثل الكوليرا و التيفوئيد، قد قتلت جنودًا أكثر ممَّا قتلت الجروح الفعلية أثناء الحرب. كانت نتائجها صادمة، كانت تقول: “يتطوع جنودنا للموت في الثكنات”.

بعد الحرب، دأبت نايتنجيل على إقناع الناس بضرورة إحداث إصلاح على مستوى المستشفيات، باستخدام إحصائياتها ومساعدة الرياضي ويليام فار (William Farr). من الصعب أن تجعل الناس ينظرون إلى لائحات طويلة من الأرقام وفهمها ــ وهنا ظهرت إحدى أكثر أفكار نايتنجيل عبقريةً. مثل الإحصائيين في ذلك الزمن، فهمت نايتنجيل أن الطريقة الأبرز لشرح المعلومة الإحصائية هي استعمال الصور. ابتكرت من أجل ذلك ما يسمى بالرسم البياني للمنطقة القطبية. (أنظر الصورة).

يقسم الرسم البياني إلى 12 زاوية متساوية، حيث يمثل كل جزء شهر من أشهر السنة. كل لون يمثل سبب للموت، والمنطقة الملونة قرب المركز، هي نسبة الجنود الذين توفوا لذلك السبب ــ فكل ما كانت تلك المنطقة أوسع، كلما كانت ذلك يعني جنودًا متوفين أكثر. المنطقة الزرقاء الخارجية تمثل الوفيات من الأمراض المعدية، مثل الكوليرا والتيفوئيد. الأجزاء الحمراء المركزية تمثل الوفيات من الجروح. الأجزاء السوداء بينهما تمثل من الأسباب الأخرى عمومًا.

بما أن الأجزاء الزرقاء أكبر بكثير مقارنة بالأخرى، فالرسم البياني يظهر أن الأمراض هي السبب الرئيسي في الوفيات. إذا تواصل الأمر كما كان عليه، ولم يُستبدل الجنود بشكلٍ متواصل، كان بإمكان الأمراض لوحدها أن تقضي على الجيش البريطاني بأكمله في القرم. أظهر الرسم البياني لـنايتنجيل أن العديد من الجنود قد توفوا هباءً خلال حرب القرم، واستخدمت ذلك كأداةٍ لإقناع الحكومة والأوساط الطبية بإمكانية تفادي تلك الوفيات إذا ما طبقت ظروف صحية أفضل في المستشفيات العسكرية والمدنية كذلك.

براعة نايتنجيل في الإحصائيات لم تجلب إصلاحًا في المستشفيات فحسب، بل نالت احترام علماء رياضيات آخرين كذلك لمساهمتها في الموضوع. في 1858 رشحها ويليام فار لتكون أول امرأة منتخبة كزميلة في المجتمع الإحصائي لمدينة لندن. في ذات السنة، انتُخبت للمجلس الإحصائي، وحصلت على عضوية شرفية أجنبية في الجمعية الأمريكية الإحصائية سنة 1874. نشرت حوالي 200 كتاب، تقرير ومناشير خلال حياتها.

إرث نايتنجيل متواصل حتى يوما هذا. افتح أي جريدة فستجد العديد من الرسومات البيانية، أو طرق نظرية تستخدم لتفسير المعلومة الإحصائية. اليوم، تعتمد مهنة الطب على الإحصائيات أكثر من أي وقتٍ مضى: دون تسجيلات وتحاليل للتجارب، من المستحيل أن نعرف كيفية إصابة الناس بالأمراض وكيفية علاجهم.


  • إعداد : وليد سايس
  • تدقيق: رؤى درخباني
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر