المواد في العالم الطبيعي من حولنا تنقسم إلى ثلاثة أصناف: (صلبة، سائلة، غازيَّة).

قم بتسخين مكعبٍ متجمدٍ من الماء (جليد)، وعندما يصل إلى درجة حرارةٍ معينة، تتغير حالته إلى سائلة.

واصل تعريضه للحرارة، وستحصل على غازٍ في النهاية (بخار الماء).

كل عنصرٍ وجزيءٍ لديه »مخطط طور «خاصٌّ به، وهو عبارةٌ عن خريطةٍ توضح ما يجب توقع حدوثه عند تعريض تلك المادة لدرجات حرارةٍ وضغطٍ معيَّنين.

ويكون لكل عنصرٍ »مخطط فريد «؛ لأن ذلك يعتمد على التوزيع الذري/الجزيئي، وكيفية تفاعله مع نفسه تحت ظروفٍ مختلفة، لذلك على العلماء واجب رسم هذه المخططات عبر التجربة المُجهدة والنظرية الحذِرة.

عندما نصل بالحديث إلى الهيدروجين فإننا لا نقابله مطلقًا، باستثناء حين يكون مرتبطًا مع الأكسجين ليكوّن الماء المعروف.

وحتى إذا ما حصلنا عليه وحيدًا، يتزاوج الهيدروجين كجزيءٍ ثنائيّ الذرة، وهو تقريبًا في معظم الأوقات غاز.

إذا ما حصلت على بعضٍ منه في زجاجة، وقمت بخفض درجة الحرارة إلى 33 كلفن (400 درجة فهرنهايت تحت الصفر، أو 240 درجة مئوية تحت الصفر)، سيصبح الهيدروجين سائلًا، وعند درجة 14 كلفن (434 درجة فهرنهايت تحت الصفر، أو 259 درجة مئوية تحت الصفر)، سيصبح صلبًا.

قد تظن أنه في النهاية العكسيَّة لدرجة الحرارة، سيبقى غاز الهيدروجين الساخن غازًا ساخنًا، وذلك صحيح، طالما بقي الضغط منخفضًا.

لكن اجتماع كل من الحرارة المرتفعة والضغط المرتفع يقود إلى سلوكياتٍ جديرةٍ بالاهتمام.

كما رأينا على الأرض، يبقى سلوك الهيدروجين بسيطًا، لكنَّ المشتري ليس الأرض، فقد عُثر على الهيدروجين بوفرةٍ ضمن وتحت الأحزمة العظيمة والعواصف الدوَّارة في غلافه الجوي، ويسمح ذلك بدفع الهيدروجين إلى أبعد من حدوده الطبيعيَّة.

نجده مدفونًا عميقًا تحت السطح المرئي للكوكب، حيث الحرارة والضغط يرتفعان بشكلٍ كبير، ليتحول الهيدروجين الغازي ببطءٍ إلى طبقةٍ فوق-حرجة من هجين غازي-سائل. بسبب هذه الظروف القاسية، لا يستقر الهيدروجين في حالةٍ يمكن التعرف عليها، فالحرارة المرتفعة للغاية لا تبقيه سائلًا، والضغط مرتفعٌ للغاية فلا يجعله يطفو كغاز وهذه حالةٌ جديدةٌ للمادة.

حتى في هذه الحالة الهجينة في طبقةٍ رقيقةٍ تحت قمم السحاب، يبقى الهيدروجين كجزيءٍ ثنائيِّ الذرات، لكن عند الوصول إلى ضغط كافٍ (أكثر بمليون مرةٍ من الضغط الجوي للأرض على مستوى البحر) حتى تلك الروابط الأخوية ليست بالقوة الكافية لمقاومة الضغط الساحق، وستنكسر في النهاية.

كنتيجةٍ لذلك، على ارتفاع حوالي 8000 ميل (13.000 كلم) تحت قمم السحب، نجد خليطًا فوضويًّا من نوى الهيدروجين الحر (بروتونات منفردة) مختلطة مع إلكترونات مُّحرَّرة. تتحول المادة إلى الحالة السائلة، لكن الذي يجعل الهيدروجين هيدروجينًا يتفكك إلى الأجزاء المكونة له هو حصول ذلك على درجاتٍ حرارة عاليةٍ للغاية وضغطٍ منخفض، نسمي ذلك بالبلازما (نفس المكون للشمس أو الصواعق الرعديَّة).

لكن في أعماق المشتري، تجبر قوى الضغط الهيدروجين على التصرف بشكلٍ مختلف عن البلازما. بدلًا من ذلك، يتخذ خصائص تقترب إلى خصائص المعادن فنحصل على الهيدروجين المعدنيّ السائل.

معظم العناصر في الجدول الدوري عبارةٌ عن معادن صلبة وبرَّاقة، وتُستخدم كناقلاتٍ كهربائيَّةٍ جيدة، تحصل على تلك الخصائص من التوزيع الذي تقوم به مع نفسها تحت درجات حرارةٍ وضغطٍ عاديَّين وترتبط لتشكل شبكة، يتبرع كلٌّ منها بإلكترونٍ واحدٍ أو أكثر من أجل الجماعة.

تتجول هذه الإلكترونات المتفرقة بشكلٍ حر، وتقفز من ذرةٍ إلى ذرةٍ كما يحلو لها.

إذا أخذت سبيكةً ذهبيَّةً وقمت بإذابتها، ستبقى لديك كل منافع المشاركة الإلكترونية للمعادن (عدا الصلابة)، لذلك لا يُعتبر مصطلح »معدن سائل« غريبًا على الإطلاق.

وبعض العناصر غير المعدنيَّة بشكلٍ طبيعي مثل الكربون، بإمكانها أخذ تلك الخصائص تحت ظروفٍ معيَّنة.

كنظرةٍ أوليَّة، لا يجب أن نعتبر الهيدروجين المعدني فكرةً غريبةً على الإطلاق، فهو عنصرٌ لا معدنيٌ فحسب، يبدأ بالتصرف كمعدنٍ عند تطبيق درجات حرارةٍ وضغطٍ كبيرين عليه.

ما سبب كل ذلك الضجيج؟

ولكن سبب الضجة حول الهيدروجين المعدني أنَّه ليس كأيِّ معدنٍ عادي، فمعظم المعادن المتنوعة تملك تلك الشبكة الخاصة من الأيونات المتشابكة في بحرٍ من الإلكترونات الحرة السابحة، لكنَّ ذرة الهيدروجين المجرَّدة هي عبارة عن بروتون منفرد فحسب، وليس بيد بروتون واحد حيلة لبناء شبكة.

عندما تقوم بالضغط على سبيكةٍ معدنيَّة، فأنت تحاول جعل الأيونات المتشابكة تقترب نحو بعضها البعض، وهذا ما تكرهه الأيونات دون شك.

يمنح التنافر الكهربائيُّ كل الدعم الذي تحتاجه المعادن لتبقى قويَّة، لكن ماذا عن البروتونات المعلَّقة في سائل؟، ذلك يبدو أسهل بكثيرٍ للسحق.

كيف يتمكن الهيدروجين المعدني داخل المشتري من مقاومة الوزن الساحق للغلاف الجويّ من فوقه؟

الجواب يكمن في الضغط المنحل، وهو شذوذٌ كميٌّ ميكانيكيّ للمادة تحت ظروفٍ قاسية. ظن الباحثون أن الظروف القاسية يمكن إيجادها فقط في البيئات الغريبة فائقة الكثافة، مثل تلك الموجودة في الأقزام البيضاء والنجوم النيوترونيَّة.

لكن اتضح أنه بإمكاننا إيجاد تلك الظروف في الباحة الخلفيَّة لنظامنا الشمسيّ، حتى عندما تكون القوة الكهرومغناطيسيَّة غامرة، يمكن للجسيمات المتطابقة مثل الإلكترونات أن تنضغط بشكلٍ كبير مع بعضها البعض فحسب، فهي ترفض مشاركة نفس الحالة الميكانيكيَّة الكميَّة.

بعباراتٍ أخرى، لن تشارك الإلكترونات نفس مستوى الطاقة أبدًا، وهذا يعني أنها ستبقى تتراكم فوق بعضها البعض ولن تقترب أبدًا، وذلك حتى لو قمت بالضغط بشكلٍ قويّ قويّ للغاية.

كما يمكن النظر إلى هذه الوضعيَّة عبر ما يُسمى بمبدأ عدم اليقين لهايزينبرغ» :إذا ما حاولت تثبيت موقع إلكترونٍ عبر الضغط عليه، يمكن لسرعته أن تصبح كبيرةً للغاية فتنتج عنه قوةُ ضغطٍ مقاومة بشكلٍ أكبر للضغط الممارس«.

إذن، يبدو باطن المشتري غريبًا في الحقيقة، حيث نجد حساءً من البروتونات والإلكترونات المتعرضة لدرجات حرارةٍ أعلى من تلك الموجودة على سطح الشمس، والتي تعاني من ضغطٍ أقوى بمليون مرَّةٍ من ذلك الموجود على الأرض، لتُجبَر على إظهار حقيقتها الكموميَّة.


  • ترجمه: وليد سايس
  • تدقيق: تسنيم المنجّد
  • تحرير: أحمد عزب
  • المصدر