محطة الفضاء الدولية (ISS) هي أغلى بناء صنعته البشرية، وفي خلال ست سنوات فقط قد ينتهي هذا المشروع غارقًا في المحيط الهادي. (BBC FUTURE) تحاور الرجل المسؤول عن مهمة إنقاذ المحطة.

حينما تأتي بقائمة لأكثر رواد الفضاء خبرة وبراعة، فإن اسم عالم الفيزياء الفلكية د. مايكل فوال (Michael Foale) يأتي قريبًا من القمة. قضى رائد الفضاء البريطاني المنشأ (فوال) أكثر من عام في الفضاء خلال ست مهمات شارك بها لوكالة ناسا. سافر (فوال) للفضاء على متن مكوك الفضاء الأمريكي ومراكب فضائية روسية من عائلة (سويز)، عاش لفترة أيضًا على متن محطة الفضاء الروسية (مير)، وقاد محطة الفضاء الدولية (ISS). قام بأربع عمليات سير في الفضاء بمجموع حوالي 23 ساعة بالخارج في كلًا من بدلتي الفضاء الأمريكية والروسية. تضمنت تلك الساعات أكثر ثمان ساعات ملحمية لعملية سير في الفضاء لترقية تليسكوب هابل الفضائي.

يقول (فوال) ضاحكًا: «لقد كنت محظوظًا جدًا جدًا جدًا، مُعظم رواد الفضاء يشعرون بالغيرة مني، ومن المُحتمل أن يكون هذا من الأسباب التي قد تمنعني من ارتياد الفضاء مرة أخرى».

من المواقف الشهيرة التي مر بها (فوال)، حينما كان على متن محطة الفضاء الروسية (مير) ومع اقتراب سفينة الإمداد الفضائية غير المأهولة في يونيو من عام 1997 اصطدمت بالمحطة الروسية مما أدى إلى تحطم أحد ألواح الطاقة الشمسية، وحدوث اختراق بهيكل المحطة.

انطلقت صافرات الإنذار الرئيسية، بدأ الهواء يتسرب للخارج، تهاوت مستويات الطاقة رويدًا رويدًا، بدأت المحطة في الدوران حول نفسها، وفي تلك الأثناء كان (فوال) ومعه اثنان روسيان من طاقم المحطة يقومان بإعداد سفينة الفضاء المُعدة للهروب الاضطراري في حالات الطوارئ، وإغلاق الوحدة المتضررة من المحطة وعزلها نهائيًا عنها.

قام (فوال) بوضع إبهامه على زجاج نافذة المحطة مراقبًا أحد النجوم البعيدة ليستطيع تقدير سرعة دوران المحطة حول نفسها واتجاه حركتها، ومن ثمَّ يُمكن لمحطة التحكم تشغيل بعض الدفاعات النفاثة لتستعيد السيطرة مرة أخرى على حركتها.

سفن الإمداد الروسية تُعيد ملء خزانات الوقود للمحطة استعدادًا لليوم الذي ستتحطم به في المحيط الهادي.

 

لم يكن التفكير السريع للطاقم تحت الضغط الشديد كافيًا لإنقاذ مير فقط، ولكنه ساعدهم على استكمال مهمتهم. وفي خلال الأسابيع التالية، عمل (فوال) مع زملائه لإصلاح المحطة، واستعادة كامل طاقتها، واستعادة زمام الأمور من خلال التحكم بها مرة أخرى، بالإضافة إلى قيامهم بتنظيف الجدران الداخلية من التكاثف المتقطر عليها.

يقول (فوال): «لم أشعر أنَّ حياتنا مهددة إلا خلال عشرة ثواني فقط أثناء الاصطدام ذاته، وقد كنت أعلم حتمًا أنَّ هناك فرصة لنجاتنا لذلك ما كان عليَّ أن أشعر بالهلع أو الخوف. لقد أصبحت أحد أفضل المهمات التي قُمت بها، لقد كانت لديَّ العديد من الفُرص لاختراع حلول لمشاكل لم يتوقع مديري ناسا مني حلها في الظروف العادية».

والآن وبعد 20 عامًا من إنقاذ محطة الفضاء الروسية، يعود مرة أخرى لإنقاذ واحدة أخرى وهي محطة الفضاء الدولية (ISS).

أثبتت محطة الفضاء الدولية أن البشر يُمكنهم العيش والعمل في الفضاء لفترات طويلة، وتنفيذ العديد من التجارب العلمية المفيدة هناك.

أول حوار لي مع (فوال) كان في مركز باكينور الروسي الفضائي في نوفمبر من عام 1998 بعد وقت قليل من إطلاق أول مرحلة محطة الفضاء الدولية (ISS) وكانت عبارة عن الوحدة (زاريا). كان (فوال) هناك بالنيابة عن رواد فضاء وكالة ناسا ومباركة المشروع، الذي كان في ذلك الوقت تتعدى تكلفته الميزانيات المرصودة، كما كان متأخرًا عن الجدول الزمني المتوقع له، وبالطبع تمت مهاجمته خلال العديد من المشاحنات والمعارك السياسية. إذا أردت أن تستشعر مدى صعوبة الموقف يُمكنك قراءة القصة كاملة التي تمت كتابتها بعد عام واحد فقط من أول إطلاق هنا.

ُعد هذا المشروع نتاج التعاون المثمر والشراكة الناجحة بين الولايات المتحدة وروسيا ووكالة الفضاء الأوروبية واليابان وكندا، ومازالت المحطة مأهولة بالبشر منذ عام 2000 وحتى وقتنا هذا, وبمرور الوقت أثبتت المحطة أن تكلفتها التي تعدت 100 مليار دولار (75 مليار يورو) كانت في محلها. أثبتت محطة الفضاء الدولية أن البشر يُمكنهم العيش والعمل في الفضاء لفترات طويلة، وتنفيذ العديد من التجارب العلمية المفيدة هناك. وأثبتت أيضًا أنَّ الأمم التي تُعاني من أجل التعاون أو تبادل الثقة خلال العلاقات المشتركة المختلفة بينها، يُمكنها العمل معًا بكل سهولة في الفضاء مثل الولايات المتحدة وروسيا.

يقول (فوال) متحمسًا بعد عودته من المحطة عام 2003: «إنه ذلك التعاون، تلك الشراكات القوية هي القيمة الحقيقية من مشروع محطة الفضاء الدولية». جدير بالذكر أنَّ (فوال) واحدًا من اثنين من رواد الفضاء اللذان يُمثلان اللجنة الدولية للإشراف على سياسة وسريان العمل بمحطة الفضاء الدولية (ISS).

محطة الفضاء الدولية كانت تعمل كموطن بديل لرواد الفضاء مانحة إياهم منظرًا فريدًا للأرض.

ولكن الأيام المتبقية لتلك المحطة أصبحت معدودة. حيث كان الاتفاق بين مختلف وكالات الفضاء المشتركة على تمويل المشروع حتى عام 2024. هذا يعني أنه خلال ست سنوات، أثمن وأغلى ما بنته البشرية سيتم دفعه خارج مداره عن طريق مركبة فضائية أخرى ليتفتت في النهاية في المحيط الهادي. ودقت ساعة العد التنازلي.

يقول (فوال): «عام بعد عام، تُطلق روسيا مركبات فضائية لتُعيد ملء خزانات محطة الفضاء الدولية (ISS) لتُمكن المحطة من الخروج من مدارها، هذه هي الخطة الحالية، أعتقد أنها خطة سيئة، فهي تُمثل إهدارًا لموردًا ثمينًا رائعًا».

ولكن الأولويات الوطنية تتغير وهناك ميزانية محددة للعمل بها. يقترب الاحتفال السنوي الخمسين (يوليو من عام 2019) لذكرى إطلاق أول مركبة مأهولة للقمر، وجه الرئيس الأمريكي ترامب ناسا مؤخرًا نحو العودة للقمر مرة أخرى, الخطة تتضمن بناء محطة فضائية أو (بوابة فضائية للقمر) تدور في مدار لها حول القمر قبل بناء قاعدة فضائية على سطح القمر نفسه.

إنه طموح كبير يتم دعمه من قِبل رئيس وكالة الفضاء الأوروبية (جان ويرنر) ووكالة الفضاء الروسية, وفي سياق آخر، ومن مُسببات تزايد الضغوط السياسية على الولايات المتحدة، فإن الصين تسعى إلى تنفيذ خُططًا خاصة بها للهبوط على سطح القمر.

«إنهم لا يستطيعون أن يذهبوا للقمر ويستمروا في نفس الوقت بإمداد محطة الفضاء الدولية بالأطقم والمؤن المختلفة». (مايكل فوال).

بالرغم من أنه لم يتم تحديد تكلفة أي من هذه المشاريع بشكل كامل، إلا أنه يبدو أن من غير المُحتمل أن تستطيع وكالات الفضاء وضع استثمارات إضافية في مهمات القمر مع الاحتفاظ بمهماتهم الحالية الخاصة بالاستكشاف البشري, بالنسبة لوكالة ناسا، تتكلف المهمات الحالية إجمالًا ما يُقدر بحوالي 8 مليار دولار منها تكلفة تشغيل محطة الفضاء الدولية والتي تبلغ حوالي 1.4 مليار دولار أخرى بالإضافة إلى الاستثمار في سفن فضاء جديدة مثل نظام الإطلاق الفضائي.

ما لم يوافق الكونجرس على رفع ميزانية وكالة ناسا أو توقف أحد البرامج الحالية (وكلاهما غير مرجح)، فإن أي أموال تذهب إلى بناء محطة فضاء جديدة تدور حول القمر أو رحلة أخرى لسطحه ستكون مخصومة من التمويل الحالي. يقول (فوال): «هذه المشاريع المُختلفة تتنافس من أجل الحصول على الأموال، إنهم لا يستطيعون أن يذهبوا للقمر ويستمروا في نفس الوقت في إمداد محطة الفضاء الدولية بالأطقم والمؤن المختلفة».

قضى مايكل فوال أكثر من عام في الفضاء خلال مهمات مختلفة.

منذ تركه لوكالة ناسا، يعمل (فوال) في القطاع الخاص على تقنيات الطيران الحديثة، ويؤمن بأن المستثمرين يمكن أن يتخذوا بعض الخطوات الجادة نحو إنقاذ مستقبل محطة الفضاء الدولية. يقول (فوال): «آمل أن يستطيع مجال الفضاء التجاري أن يأتي بخطة عملية ما تتمكن من إنقاذ ولو جزء بسيط من محطة الفضاء الدولية بدلًا من أن تغرق في المحيط الهادي. لا بد من استخدام الطُرق المُبتكرة للحفاظ على وجودها بالفضاء».

تدعم محطة الفضاء الدولية بالفعل بعض التجارب للشركات الخاصة. شركة خاصة تُدعى (نانوراكس) تقوم بإحدى تجاربها في أحد المعامل على متن محطة الفضاء الدولية لأحد العملاء الخاصين بها. استخدمت المحطة أيضًا بشكل متزايد في إطلاق بعض الأقمار الصناعية الصغيرة لمدارتها، بعد أن يتم حملها إليها عن طريق سفن فضاء تجارية مثل سفينة الإمداد الفضائية الروبوتية (Dragon) التابعة لشركة (Space X). أيضًا وكالة الفضاء الروسية ترسل بعض السائحين إلى المحطة حتى أنهم اقترحوا إضافة وحدة يتم إعدادها كفندق فضائي.

بالرغم من أن رحلات الفضاء البشرية لا زالت تُموَّل بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق الحكومات (وفي نهاية الأمر دافعي الضرائب)، إلا أن خصخصة الفضاء الحقيقية بدأت تترسخ رويدًا رويدًا. شركة (Blue Origin) المنافس الرئيسي لشركة (SpaceX) والتي يملكها مؤسس (Amzon) وهو جيف بيزوس (Jeff Bezos)، أعلنت مؤخرًا عن انتهاء اختبار ناجح آخر لصاروخها الجديد. وبعد العديد من الانتكاسات، تسعى شركة السياحة الفضائية (Virgin Galactic) لأول إطلاق تحت المداري لسفينتها الفضائية 2.

«كل مهندس أو مُدير أو رائد فضاء عَمِل على محطة الفضاء الدولية، نعتقد جميعًا أن محطة الفضاء الدولية هي إنجاز يُحسب للحضارة البشرية». (مايكل فوال).

في الوقت الحالي يعمل (فوال) على تكوين حملة لإنقاذ محطة الفضاء الدولية، ويقول أيضًا أنه يُخطط لإنشاء موقع إلكتروني لجمع الدعم اللازم لإنقاذ المحطة الفضائية. يقول أيضًا أنه سيمارس ضغوطًا على وكالات الفضاء الدولية لتستمر في تمويل المحطة.

يقول (مايكل فوال): «كل مهندس أو مُدير أو رائد فضاء عَمِل على محطة الفضاء الدولية، نعتقد جميعًا أن محطة الفضاء الدولية هي إنجاز يُحسب للحضارة البشرية لابد له أن يستمر، وما زلت تاركًا الفرصة لوكالة ناسا لتُخبرني كيف يُمكنهم القيام بذلك».

محطة الفضاء الدولية هي أغلى بناء قامت البشرية بصُنعه

ولكن ما لم يخطوا قطاع الأعمال الخاصة نحو مجال علوم الفضاء، فإن الخوف لا زال يتملك (فوال) حول عام 2024 حيث قد تُنهي وكالات الفضاء الدولية والحكومات التي تُمولها واحدًا من أعظم الإنجازات البشرية التي صنعها البشر، دون ذكر للاستثمار الاقتصادي الضخم عن طريق الملايين من دافعي الضرائب حول العالم.

يقول (فوال): «كان لديّ العديد من الآمال التي انقطعت آلاف المرات، فقد اعتقدت أني بعُمر 35 سأكون على سطح القمر وبعُمر 45 سأكون على سطح المريخ، لم أكن أحمقًا ولكني كُنت ساذجًا بشأن السياسات التي تتبعها الحكومات».


  • ترجمة: محمد خالد عبد الرحمن

  • تدقيق: دانه أبو فرحة
  • تحرير: عامر السبيعي
  • المصدر