إنه رغم الحقيقة المعروفة للرياضيات بأنها الأساس الذي تقوم عليه العلوم، إلا أنها تفقد الاهتمام والتقدير، خصوصًا عندما يتم عرض الاكتشافات العلمية، وفي الحقيقة، تعد مساهمة الرياضيات، وعلم الإحصاء ضروريةً، فهي قد حولت مسار مجالاتٍ بحثيةٍ كاملةٍ، لم يكن بالإمكان تحقيق الكثير من الاكتشافات من دونها، وقدمت حلولًا عديدةً للمشاكل التي كانت تواجه علم الأحياء، وأسهمت في تحقيق اكتشافات خدمة العلم نفسه.

وقبل 7 سنوات، حضر عالم الرياضيات (جابرييل لورد) البروفيسور في الرياضيات في جامعة هيروف وات، محاضرةً في الجامعة التي يعمل فيها، وكان لدى زملائه مشكلةً لم تحل، تتعلق بحركة هياكل تشبه الأكياس، تسمى الحويصلات، وهي تنقل الهرمونات، والناقلات العصبية، مثل: الأنسولين، أو سيروتنين حول خلايا الجسم.

لقد كانت المشكلة تكمن في أن الحويصلات كانت معروفةً لمتابعة مساراتٍ محددةٍ على طول خلايا الهيكل العظمي، التي تؤدي جزيئاتٍ خاصةٍ تسبب في إطلاق الحويصلة لمحتوياتها في الخلية، وعندما حاول علماء الأحياء أنفسهم، العثور على هذه المسارات، كانت في أماكن غير متوقعة أبدًا.

ومن المهم فهم سلوك هذه الحويصلات؛ لأنها مرتبطة بأمراض، كالسكري، والاضطرابات العصبية، وكان علماء الأحياء يكافحون من أجل إيجاد طريقةٍ لفهم الحويصلات، ولكن في الحقيقة كان الحل موجودًا، وذلك باستخدام مجموعةٍ من الأدوات الرياضية.

الرياضيات تهزم علم الأحياء.

قام جابرييل لورد وبالكثير من التعاون ما بينه وعلماء الأحياء، ببناء نموذجٍ، وعمل تجارب على الحاسوب، كانت أكثر كفاءةً من المجاهر التي كانت تستعمل في التجربة، إذ استخدم (لورد) الرياضيات؛ لبناء نموذجٍ يساعد في التنبؤ بحركة الجزيئات في الخلية، وهو ما ساعده على إجراء تجارب متعددة على الحاسوب، كانت على معدلٍ أصغر و أسرع من المجهر، وباستخدام هذا النموذج، يمكن الكشف عن أشياءٍ لم يكن من الممكن الكشف عنها باستخدام الأدوات المتوفرة لدى علماء الأحياء، وقد يساعد هذا النموذج في تحديد اتجاه الجزيئات المستهدفة؛ لعلاج أمراضٍ مثل: السكري، والاضطرابات العصبية.

وقد جعل هذا النموذج الرياضي العلماء، أن يدركوا بأن حركة الحويصلات تتطلب طاقة، إذ مثلت حركة الحويصلات في نموذجٍ يطلق عليه: (مستويات الطاقة)، وتصور العلماء أن الحويصلات تكون من مثل المتسابق الذي يقود الدراجة، إذ من الممكن معرفة أي مستوى تتواجد فيه الحويصلة، لكن هذا يتطلب طاقةً كبيرةً للانتقال إلى المستوى في الأعلى.

وبعد سبع سنوات من الدراسة مابين (جابرييل لورد) وعلماء الأحياء في الجامعة، أثبتوا أن فرضيتهم كانت صحيحةً، وتنص الفرضية على أن الحويصلات تتواجد في مستويات الطاقة المنخفضة، إذ تتجنب الجزيئات التي تكون في مستوى أعلى في الطاقة، وتأخذ المسار الأسهل، والنتيجة الإجمالية هي نفسها كما وجدها علماء الأحياء، وهي أن الحويصلات تنتهي في نفس نهاية الموقع، في الطريق التي تسلكها وتعيد استخدامه مرارًا وتكرارًا، ولكن الاختلاف يكمن في الطريقة التي تستخدمها الحويصلات، إذ كان يعتقد بأن الحويصلات تتحرك على طول الخلايا العظمية، و اكتشف أنها تتخذ طريقًا أسهل من ذلك، والفضل في كل هذا يرجع إلى الرياضيات، مما يوضح مدى قوتها، وكيف أنها تغير نظرتنا للأشياء.

إن النموذج الرياضي يسمح بالالتقاط، وتخزين العديد من البيانات الخام في شكلٍ مدمجٍ يستحيل على علماء الأحياء أن يقوموا بها بالمجهر، ويمكنك إجراء تعديلات على النموذج بسهولةٍ إذ يظهر كيفية تغير سلوك الحويصلة أثناء المرض، ويمكن كذلك أن تكشف عن الجزيئات التي قد تستخدم في علاج للأمراض مستقبلًا، ووضع أساسٍ لنموذجٍ أكثر دقة للعمليات البيولوجية المعقدة.

ويمكن أن يتم تطبيق دمج المجاهر المتطورة والنماذج الرياضية مع علم الأحياء في العديد من المشاكل الأخرى، في الطب الحيوي، وسوف يسهم هذا الاندماج في تسريع الاكتشافات في السنوات القادمة، وتعد حركة الجزيئات والمكونات الأخرى للخلية، مجرد مثالٍ واحدٍ على قوة الرياضيات.

عدم الاعتراف بفائدة الرياضيات.

غالبًا ما تُنتقد الرياضيات من قِبل الناس، بأن ليس لها تطبيقاتٍ في العالم الحقيقي، وفي الواقع يتم تطبيق الرياضيات في العديد من المشاكل التي تواجه عالمنا في كل وقت، مثل: تلوث المياه الجوفية، والتنبؤ المالي، والاقتصادي، وارتفاع المرتفعات في الثورات البركانية، ونماذج الرياضيات في العمليات البيولوجية، والتوصل إلى العقاقير، وهذه أمثلةٌ قليلةٌ تكون الرياضيات فيها عاملًا رئيسًا.

يقول البروفيسور جابرييل لورد المشارك في هذه الدراسة: ” أنا فخور بأنني شاركت في تأليف هذه الورقة العلمية مع زملائي من علم الأحياء، وآمل أن نرى المزيد من الرياضيين يشاركون في الواجهة في مثل هذه البحوث العلمية في المستقبل؛ لأن الرياضيات تلعب دورًا محوريًا في الاختراعات، والاكتشافات العلمية في العالم، وتستحق دورًا رئيسًا في المنشورات الأكاديمية، وقوة الرياضيات كانت خلف الكثير من الاكتشافات أكثر مما كنت أعتقد”.


  • ترجمة: خالد أولاد ثاني.
  • تدقيق: رجاء العطاونة.
  • تحرير: عيسى هزيم.
  • المصدر