في سياق تطوُّر علمي مفاجئ، والذي نَقضَ الكثير من المعرفة التقليدية على مدى عقود من الزمن، تمكَّن عالمان رياضيان من إظهار أن لا نهايتين مختلفتين هما فعليًا بنفس القياس.

إن الخطوات المتقدمة في واحدة من أشهر وأعقد النظريات في عالم الرياضيات، سواء كانت هناك مجموعة لانهاية بين اللانهايات المقاسة للأعداد الطبيعية وبين اللانهايات لمجموعة الأعداد الحقيقية الأكبر.

المشكلة بدأت منذ قرن من الآن، وتقول ماريانث ماليانس من جامعة شيكاغو:«كان الرياضيون آنذاك يعرفون أن مجموعة الأرقام الحقيقية أكبر من مجموعة الأرقام الطبيعية، ولكن دون العلم بكم أكبر منها، هل تأتي بعدها فورًا أم هناك مجموعة عددية فيما بينهما؟».

 

وماريانث ماليانس مؤلفة عمل طويل بالاشتراك مع ساهارون شيلاه من جامعة هيبوروي، وجامعة جيروسالم وروتجيرس، فقد قاما بإعادة حل قضية تعود لحوالي 70 عام حول أن لانهاية تسمى P أصغر من لانهاية أخرى تدعى T وقد أثبتا أن اللانهايتين في الواقع متساويتين.

يقول تشيلاه: بالتأكيد هذا رأيي الشخصي، أما الرأي العام فيُصِر أن تكون المجموعة P أصغر من المجموعة T.

وقد نشرا ورقتهما العلمية البحثية العام الفائت في (Journal of the American Mathematical Society) (جريدة مجتمع قضايا الرياضيات في أميركا).

وفي شهر تموز حازت نظريتهما على جائزة تصنَّف على أنها في قمة الجوائز في مجال وضع النظريات، ولكن هذه النظرية جاءت نتيجة لقضية محددة قديمة وهي كيف يمكن أن نربِط لانهايتين مختلفتين معًا، وهي تبني رابطًا بين مقاييس اللانهايات المختلفة، وتقدّم فرصة بالتوازي لتنظيم التعقيد في الرياضيات النظرية.

نهايات متعددة:

إن الفكرة العامة التي تدور حولها اللانهايات هي التواء العقل، ولكن هل من الممكن إيجاد قياسات مختلفة للانهايات؟

 

ربما تكون أكثر النظريات المكتشفة حتى الآن شعبية وتستحوذ على الاستفهام، هي تنشأ ولكن من خلال ألعاب التوصيل بين الأطفال إذا استطاعوا فهمها.

فافترض مثلًا أنك تمتلك مجموعتين من الأشياء، أو مجموعات كما يطلق عليها علماء الرياضيات: مجموعة من السيارات ومجموعة من السائقين، وإذا كان هناك فعلًا سائق
واحد لكل سيارة، بدون وجود أي سيارة فارغة ولا يمكن لأي سائق أن يخرج من الباب الخلفي، وبالنتيجة أنت تعرف أن عدد السيارات مساوٍ لعدد السائقين (حتى لو لم تكن تعرف كم هو العدد).

وفي أواخر القرن التاسع عشر، استطاع عالم الرياضيات الألماني جورج كانتير أن يلتقط الروح لهذه الاستراتيجية الملائمة من خلال استخدام لغة رسمية بالرياضيات، وقد أثبت أن للمجموعتين القياس نفسه، بشكل رئيسي فعندما يتمكن من وضع واحدة مقابل الأخرى بانسجام وتوافق عندما يكون لكل سيارة سائق واحد، ولربما وعلى نحو أكثر إذهالًا، أظهر أن هذه المنهجية في العمل من أجل المجموعات الكبيرة اللامتناهية بصورة جيدة.

إن اعتبر الأعداد 1،2،3 إلخ، فمجموعة الأعداد الطبيعية غير منتهية، ولكن ماذا عن الأعداد الزوجية وحدها أو الأعداد الأولية وحدها مثلًا؟

فإن كلا هاتين المجموعتين تبدو للوهلة الأولى مجموعة فرعية صغيرة من مجموعة الأعداد الطبيعية، وللعجب فهي أكثر من مجموعة محدودة مرنة على مستقيم الأعداد، هي حوالي النصف كعدة أعداد متساوية، وتبقى أقل من أولية، المجموعات اللامنتهية تسلك بشكل مختلف، وقد بين كانتير أن هناك واحدة قبالة الأخرى بتوافق وانسجام، بين العناصر من المجموعات.

1 2 3 4 5 … (natural numbers)

2 4 6 8 10 … (evens)

2 3 5 7 11 … (primes)

ومنه استنتج كانتير أن للمجموعات الثلاث نفس القياس.

 

وقد أطلق الرياضيون عليها اسم المجموعة القابلة للعد لأنك تستطيع تحديد رقم واحد لكل عنصر في المجموعة، وإن نشره لها قدَّم قفزة نوعية أكبر حيث أُثبت من خلالها أن بعض المجموعات غير المنتهية ذات الأعداد الزوجية أكبر من مجموعات الأعداد الطبيعية.

لنعتبر مجموعة الأعداد الحقيقية والتي تضم كافة الأرقام على مستقيم الأعداد، والتي تعكس ضمنها تتابعًا للأعداد الطبيعية، حيث لا يوجد فراغ بين الأعداد الحقيقية المتتالية، كانتور كان قادراً على إثبات أنه لن يستطيع وضع الأرقام الحقيقية قبالة الأرقام الطبيعية بتوافقية، وحتى لو وضعنا قائمة على شكل أزواج من الأعداد الحقيقية والطبيعية، فمن الممكن دائمًا ان يترافق مع رقم آخر حقيقي غير متواجد في القائمة.

ومنه استنتج أن مجموعة الأعداد الحقيقية أكبر من مجموعة الأعداد الطبيعية، وهكذا وُلِد النوع الثاني من اللانهايات (اللانهايات اللامعدودة) أي غير القابلة للعد.

الشيء الذي لم يتمكن كانتر من اكتشافه هو إمكانية وجود مجموعة عددية تتوسّط مجموعة الأعداد الحقيقية بين المجموعة المعدودة والأخرى غير المعدودة.

لم يتمكن من التخمين، وهذه الحدسيَّة تسمى حاليًا فرضية الاستمرارية.

وقد قام العالم الألماني ديفيد هيلبرت بوضع قائمة من 23 مشكلة حقيقية في الرياضيات عام 1900، ووضع الفرضية هذه في قمة الهرم، فقد بدت مسألة ملحّة فعلًا لإيجاد حل لها، كما وصفتها ماليانس.

وقد أثبتت هذه النظرية أنها القضية الأصعب بوجه علماء الرياضيات على مدى القرن.

وتطلَّبت أعظم الجهود، فهل هي متواجدة بين النهايات؟ ربما.. لا ندري

الطرد خارجًا:

خلال النصف الأول من القرن العشرين، قام الرياضيون بمحاولة إعادة وضع حل للفرضية عبر دراسة مجموعات لانهائية متعددة، التي تظهر في مختلف جوانب القضايا الرياضية، وقاموا بمقارنة هذه اللانهايات، والتي ربما من خلالها يتمكنون من فهم إمكانية عدم تواجد فراغات بين مجموعة الأعداد الطبيعية ومجموعة الأعداد الحقيقية.

إن العديد من الإثباتات التي تعتمد على المقارنة تكون في الحقيقة صعبة للشرح، وفي الستينات من القرن العشرين شرح العالم كوهين لما هذه الصعوبة موجودة، بتطويره لمنهجية أسماها الرفع إلى قوّة، والتي تحكمت بفرضيات الاستمرارية، المستقلة عن البديهيات الرياضية، والتي لا يمكن إثباتها ضمن هيكلية نظرية المجموعات، وهو إتمام لما بدأه كورت كوديل عام 1940 والذي بيَّن أن فرضية الاستمرار لا يمكن نقضها من خلال البديهيات الرياضية التقليدية.

وعمل كوهين قاده ليحصل على ميدالية الحقول (Fields medal)

واحدة من أعظم الألقاب في الرياضيات عام 1966، وفيما بعد استخدمت هذه المنهجية في إعادة إثبات المقارنات بين اللانهايات والتي طُرحت سابقًا في منتصف القرن الماضي، والتي تبيَّن أيضاً أنها لا يمكن حلها ضمن هيكلية مجموعات الأعداد، بالتحديد مجموعة نظرية زيرميلو فرنكل زائد بديهية الاختيار.

وبعض القضايا بقيت، مع أنها تضم قضية من الأربعينات، حول إذا كانت المجموعة P تساوي المجموعة T، وكلاهما عبارة عن أوامر تتعلق باللانهاية والتي تقيس أصغر قياس لتشكيلة من المجموعات الجزئية للأعداد الطبيعية بدقة، وظاهريًا بطريقة فريدة من نوعها.

في الحقيقة فإن تفاصيل القياسين ليست ذات أهمية، فالأكثر أهمية هو ما اكتشفه الرياضيون وهما شيئان عن قياس ب وقياس ت، أولهما أن كلا المجموعتين أكبر من مجموعة الأعداد الطبيعية، الثانية هي أن ب أصغر دومًا أو تساوي ت، لذلك بما أن ب أصغر من ت، وبما أن ب مجموعة وسطى شيء ما بين قياس الأعداد الطبيعية وقياس الأعداد الحقيقية، عندها تصبح هذه الفرضية على خطأ.

لذلك يميل الرياضيون لافتراض أن العلاقة بين المجموعتين تُثبَت خارج هيكلية المجموعات العددية ونظرياتها.

ولكنهم لم يتمكنوا من إثبات استقلالية القضية فعليَا، فالعلاقة بينهما بقيت لقرون علاقة غير محددة، حتى قام ماليانس وشيلاه من إيجاد طريقة لحلها، وذلك لأنهما بحثا عن طريقة جديدة.

تنظيم التعقيد:

وبنفس الوقت الذي قام فيه باول كوهين بالرفع إلى قوة للفرضية، خلف أبحاث الرياضيات، جرى خط مختلف جدًا من العمل في حقل نموذج النظريات.

ففي نموذج النظريات تعتبر النظرية عبارة عن مجموعة من البديهيات والقواعد، يمكننا النظر إلى نموذج النظرية باعتباره طريقة لتصنيف النظريات الرياضية، هو استكشاف لرمز مصدر النظريات الرياضية، ويقول هـ.جيروم كيسلر البروفيسور المتقاعد من جامعة وينسكونسين، مدينة ماديسون: أظن أن السبب وراء اهتمام الناس بعملية تصنيف النظريات هي بهدف معرفة ما هو السبب الحقيقي لحدوث الأشياء في النظريات.

وفي عام 1967 قام كيسلر بتقديم ما يعرف حاليَا بأمر كيسلر، والذي قام من خلالها بترتيب النظريات وفقَا لدرجة تعقيدها، حيث اقترح تقنية يتمكن من خلالها قياس التعقيد وقد سعى إلى إثبات أن النظريات الرياضية يمكن أن تصنف بصنفين في النهاية: صنف يحوي الحد الأعلى من التعقيد والآخر يحتوي على الحد الأدنى منه، ويضيف: لقد كانت نقطة بداية بسيطة لكن حدسي يقول أنها قد تعني العديد من الصفوف غير المنتهية.

وليس من الواضح على الدوام المعيار اللازم لاعتبار النظرية معقدة، ومعظم الجهود في هذه المجالات هي موجهة رغبةً في فهم هذه النظرية، وقد وصف كيسلر التعقيد على أنه مجال من الأشياء التي قد تحدث ضمن مجرى النظرية، فالنظرية التي تملُك احتمالية أكبر لحدوث الأشياء تعتبر أعقد من النظريات ذات الاحتمالية الأقل لحدوث الأحداث.

وبعد حوالي عشر سنوات من أمر كيسلر، قامت شيلاه بنشر كتاب ذو تأثير وفاعلية والذي تضمَّن جزء هام يُظهِر من خلاله أنَّ هناك قفزات تحدث بشكل طبيعي في التعقيدات ضمن النظريات، وأن خطوط تقسيم نميِّز من خلالها النظريات الأكثر تعقيدًا من النظريات الأقل تعقيدًا، وبعد ذلك عملية معالجة صغيرة بعد 30 سنة من أمر كيسلر.

ثم في عام 2009، ضمن أطروحة الدكتوراه وأوراقها البحثية السابقة، أعادت فتح أوراق نظرية كيسلر وأضافت لها دليل جديد لتزيد من قوتها في تصنيف النظريات، وفي عام 2011.

تضافرت جهودها مع شيلاه لتحقيق فهم أعمق لهذه النظرية، وكان أحد أبرز أهدافهما هو مطابقة عدد أكبر من الخصائص التي تجعل النظرية معقدة استنادًا لمعيار كيسلر، وقد تمعَّنا بخصيصتين في جزيء، بضوء معرفتهما السابقة بأن الخصيصة الأولى هي التي تجعل النظرية معقدة، وأرادا أن يعرفا إذا ما كانت الخصيصة الثانية تؤثر أيضًا، وميَّزا أن هذه القضية على التوازي مع قضية أن المجموعة ب و ت متساويتان، و في عام 2016 قاما بنشر بحث علمي يقع في 60 ورقة يقدِّمان من خلاله حل للقضيتين معًا، لقد أثبتا أن الخصيصتين متساويتان، وأن كليهما يجعلان النظرية معقدة، وأن ب تساوي ت أيضًا.

 

وتقول ماليانس: «كل شيء يُرصَف بطريقة ما، هي كوكبة من القضايا التي وُجِد لها حل».

وفي شهر تموز الفائت، حصلا على ميدالية هاسدروف، واحدة من أبرز الجوائز في مجال وضع النظريات، الجائزة جاءت نتيجة المفاجئة والقوة المفاجئة والطبيعة التي تتمتع بها نظريتهما، فإن معظم الرياضيين توقعوا أن ب أقل من ت، ومن خلال هذا الإثبات لهذا التفاوت ضمن هيكلية المجموعات العددية أيضًا، أجل لقد أثبتا أن اللانهايتين متساويتين، وأن نظريتهما توحي بأن العلاقة بين المجموعتين أعمق مما ظنَّ الرياضيون سابقًا.

قام جوستين مووري بكتابة ونشر مراجعة مختصرة لنظريتهما وهو من جامعة كورنيل وقال: «أظن أن العامة ستفكر أن النهايتين الرئيسيتين، المتساويتين بالإثبات، فإن النظرية المثبتة قد تكون مفاجئة ولكن لو كانت قصيرة نوعًا ما، وعبارة عن جدلية ذكية، فهو لايستلزم ديناميكية حقيقية».

بدلاً من أن يقوما بإثبات أن ب وت متساويتان من خلال تقاطع النظرية النموذجية مع نظرية المجموعات، من خلق حدود جديدة للبحث بالمجالين معًا، هذا العمل وضع أخيرًا بقية القضية التي تمنى الرياضيون وضع حل مستقل لها مرتبط بالاستمرارية، وأغنى الشعور الغامر عبر الخبرات هو أن هذه النقاط غير القابلة للحل ظاهريًا أن تكون مخطئَة، بما أن اللانهايات هي مختلفة في عدة طرق، هي غالبًا مختلفة إذا كانت ذات قياسات مختلفة أكثر من تلك المكتشفة سابقًا.


  • ترجمة: ديالا الاحمدية
  • تدقيق: محمد نور
  • تحرير: ياسمين عمر
  • المصدر