يختص علم الأكوان بدراسة الكون، وهو علم ذو مواضيع شيقة، يشير بطبيعته إلى كل شيء موجود، ومنذ زمن قريب لم تكن علوم الكون تحمل سمة العلم، وكان ينظر إليها على أنها شيء يتعلق بعالم التوقعات والدين، واليوم مع التجارب المعتمدة على تعقيد الأرض والفضاء والتي تعطي أدلّة قويّة على الكون تغيرت هذه النظرة، ولكن ليس بالكلية، حيث لا يزال هناك الكثير من الأسئلة التي تحتاج للأجوبة.

ويعد العالم الكوني والرياضي جورج إليس George Ellis أحد الأعلام المعروفة التي صنعت فرقًا مهمًا في دلالة علم الكون عندما يكتب بحرف صغير(cosmology)، وعندما يكتب بحرف كبير (Cosmology)، فيقول: إن كتابة علم الكون بحرف صغير(cosmology) تعنى بالتركيب الفيزيائي للكون بمقاييس كبيرة، تنظر إلى المجرات والطاقة الإشعاعية الخلفية للموجة، والنجوم، متمكنًا بعد ذلك رؤية كيفية تلاؤم جميع تلك المجرات والطاقة الإشعاعية مع قصة نشوء وتوسع الكون، أما كتابته بالحرف الكبير (علم الكون (Cosmology فتعنى بمعنى الحياة، وماذا يمكن أن يضيف وجودنا إليها وللمصير، ومن هنا يدخل احتياج الفلسفة الذي أملاه مفهوم علم الكون أثناء كتابته بالحرف الكبير(Cosmology)، فهو يتعلق بالحياة والوجود، على عكس كتابته بالحرف الصغير(cosmology)، الذي يتعلق مفهومه أكثر بأدوات العلم ويستجيب لها.

إن تباين مفهوم (علم الكون) وفقًا لحجم كتابة أول حرف من تهجئته، يوحي بأن هناك أكثر من كون تم إيجاده في هذه الحياة، وهو أمر مستحيل بالطبيعة، فلا يوجد في هذه الحياة سوى كون واحد، وذلك يضعنا في مشكلة كيفية إمكان تطبيق تجارب مختلفة لأكثر من مفهوم على كون واحد.

وفقًا لنظرية في الفيزياء الطبيعية تقول بكيفية عمل شيء ما، يمكن إجراء بعض التجارب على عدة نسخ من غرض واحد، بنتائج إحصائية حول كيفية هذا الغرض، ويختلف الأمر هنا بوجود كون تود إجراء أكثر من تجربة عليه، ففي هذه الحالة لن تحصل على نتائج إحصائية، وكل ما عليك فعله هو مراقبة وجود هذا الكون، ولن تكون النتائج التي ستحصل عليها في هذه الحالة إحصائية نظرًا للكيفية؛ بل ستكون إحصائيةً نظرًا للهيئة التي يبدو عليها الكون، ومن ذلك يُمتنع إقامة مقارنات بين عدة أكوان مختلفة، مع بعضها البعض؛ لأنه لا يمكن الحصول على نتائج إحصائية من نماذج مختلفة للكون، وهذا ما يجعل علم الكون مختلفًا عن غيره من العلوم.

ويضيف إيليس مشكلة أخرى تتعلق بدراسة الكون، وهي: ” أنه كبير جدًا وقديم جدًا وهناك امتدادات له سواء أكان في الزمان أم المكان، لا يمكن أن نراها أو نختبرها بشكل مباشر، مما يصعب تحديد القوانين الفيزيائية التي تسيطر عليها، فالقوانين الفيزيائية تطبق على مستوى الأنظمة مثل النظام الشمسي أو المجرات… الخ، ويمكنك أن تقيس معدلها لترى ما لديها لتقوله عن ديناميكيات الكون”، أي: تحاول أن ترى ما يمكن أن تستدل عليه من خلال هذه القوانين التي تصف أنظمة أصغر للوصول إلى أنظمة أكبر.

إن الحكم على أن الكون ليس شيئًا يمكن استنساخه في المختبر وإجراء التجارب عليه يضعنا في مشكلة تتعلق بكيفية اختبار النظريات التي نريد تطويرها، ومن ثم كيف يمكن أن نتأكد من صحتها؟ ، وتطل نظرية واحدة في معرض هذا السياق، تمت مناقشها ولكنها غير قابلة للاختبار بالأدوات الحالية، وهي: (فكرة الأكوان المتعددة)، تقول هذه الفكرة بوجود أكوان مختلفة، مثل وجود عدة فقاعات في حمام خاص بها، ونحن نعيش في واحدة منها، تمتلك ثوابت الطبيعة وقوانينها، مثل: ثابت الجاذبية، وقوانين الفيزياء المختلفة عما هي عندنا، وقد طوّر علماء الكون نظرية الأكوان المتعددة لأسباب وجيهة، ولكن إيليس يقول: إنه “لا يوجد أبدًا دليل مباشر، ولن يكون هناك إمكانيّة للحصول عليه، إذا لم تتمكن من اختبار النظرية، وسألت «هل هذا طرح علمي أم فلسفي؟»، وأقول من وجهة نظري إن هذه فلسفة متأثرة بالعلم، وليس علمًا وكما أظن يجب أن نرسم خطًّا ثابتًا”.

اقترح بعض الناس في الرؤية للعدم القابلة للاختبار إضعاف متطلبات العلم، ويشرح إليس ذلك قائلاً: “إذا كان لدينا نقاش نظري قوي – ولنفترض أن الناس اقترحوه-، فإنه من الجيد أننا لم نعد بحاجة لاختباره بنفس الطريقة التي فرضناه فيها، وإن كان هذا خطير حسب ظني، ولكنه سيسمح لكل أنواع العلوم الزائفة بأن يعاد تصنيفها بصفتها علومًا حقيقية ولا أظن أننا نريد أن نرى ذلك يحصل.»

يحتاج علم الكون إلى الفلسفة، ومن هذه الوجهة يطل سؤال يعيق البحث عن قوانين الطبيعة، وهو: ماذا يكون قانون الطبيعة بالأساس؟، هل هو شيء مستقل عن البشر أم أنه منحة من الله توجد خارج الكون وتصف ما يحدث فيه؟ أم هو شيء تم اختراعه من قبل البشر ليصفوا به العالم الذي يعيشون فيه؟.

يجيب إليس على هذه الأسئلة بمنطق أن: ” قوانين الطبيعة ليست جزءًا من الكون؛ بل هي إحدى مُشكِّلاته الأساسية؛ لأنها تحدد طريقة عمل المادة، وهذا ينفي بالطبع أن تكون هي نفسها مصنوعة من المادة، كما قوانين الفيزياء التي ليست مصنوعة من الرصاص أو اليورانيوم أو شيء ما”.

يرى إليس أن قوانين الفيزياء موجودة في كونٍ مثاليٍّ نظريٍّ مستقلٌ عن وجود الإنسان، يقول: إن “قوانين الفيزياء لا تعتمد على الإنسان في وجودها، و ما يعتمد عليه فيه هو فهمه لها، مما يوجب التمييز بينها ( القوانين نفسها) وما يُعرفه عنها، وما يغيب عنا في هذه الحالة، هو طبيعة وجود هذه القوانين، هل هي وصفية أم مفروضة، وهذه إحدى الصعوبات التي تتم مواجهتها”.

يتشابه هذا السؤال، مع بعض الأسئلة المعروضة في الرياضيات، ونقطة التشابه تكمن في اللغة التي بها قوانين الطبيعة المعروفة، وأحد هذه الأسئلة، هو: هل وجود الرياضيات وجود مخترع أم مكتشف؟ ( شيء يعيش في وجود نظري خاص).

يجيب إليس على ذلك بقوله: إن “الرياضيات – كما أظن – في فضاء مثالي، أي أنه يوجد واقع رياضي تم اكتشافه بطريقة ما عن طريق عقولنا، بفهم معين لا يتجاوز الكلية، فمثلًا: حقيقة أن جذر ال2 هو عدد غير منطقي، حقيقة مستقلة عن العقل البشري، تم اكتشافها بالتأكيد، وليس اختراعها، ومن ذلك فأنا أؤمن بعالم مثالي من الرياضيات، وعالم مثالي من الفيزياء، وإن كانا غير متصلين ببعضهما البعض”.

لا ينحو الجميع منحى إليس بوجهة نظره المثالية لعالَم الرياضيات والفيزياء، ويرى البعض أن الرياضيات شيء مخصص للبشر، يتشكل عن طريق فهم البشر للعالَم، ويقترح الرياضي البريطاني مايكل عطية أنّه إذا كان كل الذكاء العالمي يكمن في قنديل البحر، في أعماق محيط ما حيث لا يوجد أشياء فردية لتعدُّها، سيصبح مفهوم أرقام العد الذي يبدو كونيًّا بالنسبة لنا غير موجود.

وبشكل آخر، هناك أناس يؤمنون بأن قوانين الطبيعة هي تجارب من صنع البشر؛ يصفون بها النماذج التي يعيشون وفقها في هذا العالم ولا شي أكثر من ذلك.

يمكن لمثل هذه الأفكار أن تكون تأملية مثالية، ويناقش بعض الفلاسفة هذه الأفكار ويرون أنها ذات دلالات هامة.

ولا يزال البحث قائمًا حول معرفة الطريقة التي يؤثر فيها قانون الطبيعة على رأيك بالعالم والأسئلة التي تسألها حوله، وكيفية اختبار هذه النظريّات، وكيفية التعامل مع حقيقة أنها لا يمكن أن تكون قابلة للاختبار، وهذا أمر مهم جداً، ينقذ العالم من فخ العلوم المزيفة، نحو: التصميم الذكي وعلم الفلك، وهو أمر يتم الكشف عنه في مقال لاحق.

وقد تم التحدث إلى إليس حول كيفية عنونة هذه الأسئلة الفلسفية وغيرها كما يظهرها علم الكون، في مؤتمر الفلسفة العالمية لعلم الكون لمدة خمسة أيام، تم فيه جمع علماء الكون والفلاسفة على جزيرة تاناريف (Tenerife) الرائعة، والأروع كان صلاحية الدّخول التي منحت لنا، مما يساعدنا على إحضار المزيد من المقالات لكم، والمدونات الصوتية من المؤتمر، فابقوا على تواصلنا.


  • المترجمة: بتول حبيب
  • المدقق: رجاء العطاونة
  • تحرير : رغدة عاصي
  • المصدر