تريدنا عالمة الفيزيولوجيا Janelle Ayres أن نتوقّف عن القلق من محاربة الإنتانات وبدلاً من ذلك مساعدة أجسامنا لتحملّها!

توفيَ والد Ayres -اختصاصيّة في الفيزيولوجيا رفيعة المستوى -بإنتانِ الدم، وقضى آخر تسعة أيامٍ موجعةٍ على سريريه.

عندما أُصيب والدها بإنتان مجرى الدم الخبيث، حزنت ابنته وشعرت بعد ذلك بخيبة الأمل.

أيقنت بأنّه توجد طريقةٌ أفضل لمساعدة المرضى كحالة أبيها.

في الواقع هي تعمل الآن على أحد الطرق في مختبرها.

ركّز العلماء لعقود على كيفيّة محاربة الجهاز المناعي للعوامل الممرضة.

تعتقد Ayres أنّ العوامل الأخرى في فيزيولوجيا أجسامنا مهمّة على الأقل، لذا قامت بالبحث عن البكتريا النافعة التي يبدو أنّها تساعد بعض المرضى في المحافظة على صحة شهيتهم وترمّم النسج التالفة حتّى خلال هجمات الأمراض الخطيرة.

إذا استطاعت العثور عليها -وقد بدأت سابقًا -فإنّها تعتقد أنّ بإمكانها تطوير أدوية ستعزّز ميزاتٍ لدى المرضى الذين فقدوها وتساعدهم على الحفاظ على حياتهم خلال كفاحهم ضدّ إنتان الدم والملاريا (البُرَداء) والكوليرا والعديد من الأمراض الأخرى.

يعتمد أسلوبها بكلّ إيجازٍ على إيقاف القلق بخصوص محاربة الإنتانات. وبدلًا من ذلك مساعدة أجسامنا لتحملّها.

لم تتحدث عن بعض الترّهات كطقوس (جومبو مومبو mumbo jumbo) (طقوس أو تعاويذ دينيّة لا معنى لها) المنتشرة مؤخرًا في كاليفورنيا التي تترك الجسم لكي يلتئم ويشفى بنفسه.

وبالاشتراك مع بروفيسور في معهد سالك للقلب في سان دييغو، استخدمت Ayres كلّ الأدوات عالية التقنية في مجالات الأحياء الدقيقة وعلم الوراثة وعلم المناعة ومراقبة حديقة الحيوانات لفهم لماذا بعض الحيوانات تتحمل العدوى بشكلٍ أفضل من غيرها.

وعلى الرّغم من بدئنا في محاربة الإنتان باستخدام المضادّات الحيويّة ومضادّات الفيروسات غير الملائمة، فالأدوية لا تنفع من أجل كلّ الأمراض، فهي تقتل الجراثيم النافعة والضارة، وساهم الإسراف في الاستخدام للوصول إلى البكتريا المقاومة للمضادات الحيوية أو ’’Superbugs‘‘ التي يهابها علماء الأمراض لقلّة طرق إيقافها.

تطوّر إنتان الدم لوالد Ayres بعد جراحةٍ روتينيّةٍ للمرارة في عام 2015.

كافح لمحاربة الإنتان في وحدة الرعاية المركّزة ICU، واستخدم المستشفى ترسانةً من المضادّات الحيويّة. لكن لم ينجح أحدها.

تقول Ayres : ” كنا نركّز فقط على صنع مضادٍّ حيويٍّ جديدٍ ولكن يبدو أنّه لن نربح في سباق التسلح أبدًا”

بدأت رحلة Ayres مع آلاف الذباب المصاب بالطفرات.

كان ذلك منذ حوالي 10 سنوات في مختبر David Schneider البيولوجي في ستانفورد Stanford، عندما كانت Ayres طالبة دراساتٍ عليا.

قامت بعدوى أكثر من 10,000 ذبابة تحمل طفراتٍ وراثيةٍ متنوعةٍ من الليسترية.

وتقول:”قمت بجرح يدي لأتمكّن من تلقيح هذا العدد من الذباب”.

عندما كان الكثير من اختصاصيِّ المناعة يبحثون عن استجاباتٍ مناعيّةٍ محددةٍ جدًا، سألت Ayres سؤالًا بسيطًا لكنه أكثر أهمية: أيّ الذبابات بقي على قيد الحياة؟

بمقارنة الطفرات التي ماتت بسرعة مقابل التي نجت، وجدت مجموعةً محدّدةً من الجينات التي تقوم بوظيفة الإعاقة والكبح وحتّى إصلاح الضرر من عدوى الليسترية مهما كان مستوى الجراثيم في أجسام الذباب.

وصف Schneider وAyresاستجابة نجاة الذباب’’ بالتحمّل tolerance‘‘.

وصلوا إلى اقتراح بأنّ الاستجابة المناعيّة للعواملِ الممرضةِ لم تكن القصة الكاملة، فقد يلعب التحمّل (قدرة الجسم على تقليص الضرر من جراء عدوى) دورًا هو أيضًا.

أطلقت Ayres منذ ذلك الحين على دراستها اسم’’ جهاز التحمّل الدفاعي tolerance defiance system‘‘.

تقول Ayres : ” نحن نتحدث عن مرونة المناعة، ونحتاج لتغيير وجهات النظر”.

اختصاصيِّ المناعة لم يكونوا متأثرين

يقول Schneider: “لم نكن سعيدين لرؤية التركيز لفترة طويلة على تحدّيات الجهاز المناعي التي كُرِّسَت من قبل قسم الأحياء الدقيقة والمناعة في كلية الطب في جامعة ستانفورد.

فمصطلح’’ التحمّل “tolerance” أزعجهم بسبب عدد المصطلحات الاختصاصيّة النوعيّة في هذا المجال”.

ويضيف: ” كلّ مرة نستخدم فيها هذه الكلمة، يصرخ اختصاصيّو المناعة ويشتكون بأنّنا لا نستخدم مصطلحاتهم.

يبدو الأمر وكأنّه خلافٌ تافهٌ وسخيفٌ”

فاختصاصيّو بيولوجيا النبات استخدموا كلمة التحمّل لأكثر من قرن في وصف النباتات المصابة بالعدوى التي وبرغم ذلك بقيت بصحةٍ كافيةٍ لإعطاء الثمار.
ويضيف: “نحن لم نسرق مصطلحهم”.

بغضِّ النظر عن الاستقبال القاسي، فالفكرة مباشرةً لفتت نظر واحدٍ من أكثر اختصاصي المناعة شهرة وإبداعًا: روزلان ميدزيتوف Ruslan Medzhitov، الذي نال مؤخرًا جائزةً كبيرةً في البيولوجيا والذي ظنَّ العديد نيله جائزة نوبل عام 2011 بطريقةٍ غير شرعية لاكتشافه مستقبلات تشبه الجرس ومفتاح جزيئات تعرّف النمط للجهاز المناعي.

خاب أمل Medzhitov لسنين عديدة باكتشاف شيءٍ لا يمكنه تفسيره.

وبتطبيق التجربة تلو التجربة، لاحظ أن الحيوانات المصابة بالعدوى تختلف كثيرًا في معدلات بقائها ولا تُظهِر أهميّة كم من العوامل الممرضة والأمراض تسببها الجراثيم التي تحملها.

ويقول: “إذا قتلنا كل الجراثيم المهمّة، فنسب البقاء المتفاوتة للحيوانات المصابة لن تصنع أي فارقٍ لدى الكل”.

” كل الأفكار المعياريّة حول كيفيّة عمل الجهاز المناعي، كانت غير فعالةٍ بوضوح”.

لذا عندما قرأ أوراق Ayres وSchneider للمرّة الأولى وعمل مع Andrew Read وLars Rabergفي ولاية بنسلفانيا، أصبح مقتنعًا بأنّ التحمّل كان مفتاح مشكلة اختصاصيِّ المناعة التي أطالوا مراقبتها.

يقول: “وقعت في غرام الفكرة فورًا، إنّها تبدو منطقيّةً جدًّا ومقنعةً بيولوجيًا”.

من أجل قسمه، وصف Schneider التركيز الحالي على قتل الجراثيم بأنه (أسلوبٌ عسكريُّ وعنيف).
ويقول: “لم يقل أحدٌ لماذا لا يمكننا فقط العيش مع بعض؟” وهذا ما سألته Ayres في مختبرها.

الحرب التي لن نربحها

أكثر من 700,000 وفية كل سنة في العالم تُنسب إلى العدوى التي لائحتنا الحالية من الأدوية لا تستطيع صدّها.

حرّرت منظمة الصحة العالمية مؤخرًا قائمة “most wanted” للجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية الأكثر خطرًا في العالم.

ما تزال الاستجابة الصحيّة العامة حتّى الآن تطالب بالمضادّات الحيويّة الجديدة والأكثر فعالية.

بالاشتراك بين القطاع العام والخاص في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة تم استثمار عشرات الملايين في آخر ثلاث سنوات في عمليّة تطوير أدويةٍ جديدةٍ.

وفي الشهر الماضي، قدّم الديموقراطيون في الكونغرس فاتورةً بقيمة 2 بليون دولار لتأسيس صندوقٍ مخصَّصٍ للمضادات الحيوية الجديدة.

كلُّ ما تستطيع Ayres فعله هو التنهد. لقد درست الجراثيم بتعمّق وتحترمهم وتحبهم أيضاً وتعلم أنّهم في النهاية سيفوزون دائمًا.

يحتاج المجتمع للأدوية التي لا تستهدف الجراثيم التي يمكنها بسرعة جدًّا أن تتطور وتتجنب أفضل أدويتنا.

عوضًا عن ذلك، تعتقد Ayres أنّ بإمكاننا استغلال هذه الجراثيم، وأيضًا أحد الأصناف من المرضى، لصنع أدويةٍ جديدةٍ تنقذ حياتنا بمهاجمة نسج وأعضاء الشخص المصابة.

هو صنفٌ جديدٌ تمامًا من علم الأدوية، الذي يمكن أن يقلّل اعتمادنا على المضادّات الحيويّة ويساعدنا في إنقاذ الحياة في حالات مثل حالة والد Ayres عندما فشلت المضادات الحيوية.

يحثّ التحمّل في المريض “الذي ربما يفتقد لعناصر أساسيّة ليلحق بالمكونات الحاليّة لرعاية وعلاج إنتان الدم”، وفق ثلاث خبراء في إنتان الدم كما جاء في افتتاحية مجلةٍ طبيّةٍ في العام الماضي.

يمكن الاقتراب من المساعدة في الأمراض الفيروسية مثل الانفلونزا. ويمكن أن يصنع فرقاً مع السرطان.

مثلما لاحظ Schneider، يبدو التحمّل أن يكون مشكلة في الميدان، بعض مرضى السرطان بقوا على قيد الحياة رغم عبء الورم الكبير، في حين استسلم آخرون لأورام أصغر.

يمكن للأدوية أن تساعد المرضى في الاحتفاظ بشهيتهم وتقوية أجسادهم الضعيفة بالعلاج الكيميائي والإشعاعي ومن المحتمل رفع معدلات البقاء.

يقول Medzhitov : “الصنف الجديد من الأدوية واستراتيجية العلاج الجديدة أساسية تمامًا” وقد عنّون عملية التطوير باسم Vendanta، فالغاية منها البحث عن الأصناف الجديدة للأدوية الجرثومية لعلاج الالتهاب و أمراض المناعة الذاتيّة.

لم تشترك Ayres في هذا المشروع. فقد كانت تعمل بنشاط في مختبرها الذي يتدفّق بسلسلةٍ من الدراسات التي وجدت أهدافًا حاسمةً للأدوية الجديدة.

تركيزها الأساسيّ على تريليون الجراثيم -المعروفة مجتمعة باسم microbiome -التي تسكن في أجسامنا لكنّها لا تسبب لنا المرض. تظن Ayres بأنّها ربّما تلعب دورَ المفتاح في جهاز التحمّل الدفاعي.

لكن إذا كانت الجراثيم تساعد في زيادة التحمّل للأمراض، ما هي السلالات المتورطة وماذا تفعل بالضبط؟

للبحث عن إجابة، قامت Ayres والباحثون Michelle Lee وAlexandria Palaferri Schieberبجمع فئران من الريف واختبروا استجابتهم لالتهاب الرئة وإنتانٍ معويٍّ مُسبّبٍ بنوعٍ من السلمونية (جنس جراثيم من الأمعائيات).

في هذه الدراسة كانت الفئران متماثلة جينيًا لكن بسبب زيادة الاختلافات البيئيّة كان لديهم ’’ microbiomes‘‘ مختلفة تمامًا.

مجموعة من الفئران لم تعانِ من الضمور العضليّ بالرّغم من أنّها حصلت على مستوياتٍ مماثلةٍ من العوامل المُمرضة، يقترح ذلك بأن شيئًا ما في ’’microbiome‘‘ رفع من عتبة التحمّل.

عند مقارنة’’ microbiome‘‘للفئران المُتحمّلة للسلالة العادية، وجد الباحثون أنّه فقط الفئران المُتحمّلة كانت تحمل سلالةً محددةً من جراثيم الإشريكية الكولونية E. Coli، هذه السلالة عند إعطائها للفئران العادية قامت بحمايتهم من الضمور العضليّ بشكلٍ جيدٍ.

وجدت دراسةٌ أخرى أنّ E. Coli غادرت الأمعاء ورحلت إلى النسيج الشحمي، حيث فعلّت جزءً من الجهاز المناعي المُسمّى’’ inflammasome‘‘التي يمكن أن تثير الالتهاب لتساعد في محاربة الجراثيم.

في هذه الحالة استُخدمَت E. coli لنفس الآليات لتغذية العضلات.

تبحث الآن Ayres عن نظائر في البشر التي ربّما في يومٍ ما ستُستخدَم لعلاج الضمور العضليّ.

في يومٍ آخر، وجدت Ayres بروتين جرثومي يُدعَى SlrP (يُلفَظ slurpee) يمكن حماية الفئران من الموت من جرّاء الإصابة بالسلمونية.

الفئران المصابة بطفرة من سلالة سلمونية التي لا تتضمن بروتين بدرجة أقل ووزن أقل تسبّب الموت أسرع من الفئران المصابة بسلمونية اعتيادية.

وجدت Ayres والباحثة Sheila Rao أن بروتين SlrP في سلمونية وحشية أعاق إشارات تُرسَل عادةً إلى الدماغ ليأمرها بالتوقف عن التغذية ويساعد في بقاء الفئران المصابة على قيد الحياة وتحسين تغذيتها.

تقول Rao : “في الواقع طوّرت السلمونية طرقاً لتبقى متمتعة بصحتها”. كان لديهم مصالح شخصية من القيام بذلك، طالما نحن نأكل ونتحرك فالسلمونية يمكنها الاستمرار في ازدهارها والانتشار في مضيفين آخرين.

تأمل Ayres أن تستخدم هذه البصيرة لتطوير أدوية تعتمد على SlrP التي يمكن أن تزيد من شهيّة المريض أو تحمّل العلاج الكيميائي.

Ayres قلقةٌ من المضي قدمًا تجاه العلوم الأساسية للتحمّل فهي مقتنعةٌ بأنها ستقود إلى علاج جديد. فتقول: “أفكر دومًا في أن ذلك كان سينقذ والدي”.


  • تدقيق : بدر الفراك
  • تحرير: يمام اليوسف
  • المصدر