مسائل فيرمي: كيف يقدر العلماء أعداد الأشياء حتى بدون تعدادها واحدة واحدة؟


كلّنا سمع في مرحلةٍ ما من دراستنا الأكاديميّة ومتابعتنا لآخر التطوّرات في علوم الأحياء، الفيزياء، والفلك أعدادًا هائلة وفي كثيرٍ من الأحيان مثيرة جدًّا للدّهشة.

على سبيل المثال، ربّما سمعت أنّ هنالك قرابة الـ 100 مليار خليّة عصبيّة في دماغ الإنسان، ما بين 200 إلى 400 مليار نجم في مجرّة درب التبّانة، قرابة الـ (80^10) ذرّة في الكون، أو أكثر من 10 مليون نوع مختلف من الحشرات.

ولكن السّؤال الذي يحيّرنا دائمًا هو: كيف إستطاع العلماء تقدير الأعداد الهائلة لهذه الأشياء؟ هل قاموا بعدّها واحدةً واحدة، كما يعدّ أحدنا نقوده أو حاجيّاته؟

إذا أخبرناك أنّك ستحتاج إلى أكثر من 30 سنة لتعدّ من 1 إلى المليار (1000000000)، حيث تتقدّم رقمًا واحدًا في كلّ ثانية، ربّما ستخمّن أنّ العدّ الميكانيكي ليس السّبيل الأمثل لتقدير نسب وأعداد ضخمة كالتي ذكرناها أعلاه.

ولذلك، عوضًا عن أسلوب العدّ الميكانيكي، يلجأ العلماء إلى أساليب التّقدير الحسابي (Estimation)، وهي أساليب تقريبيّة تعتمد في كثيرٍ من أصولها على علم الإحصاء.

وبما أنّ هذه الأساليب هي تقريبيّة في المحصّلة، فعلينا أن نضحّي ببعض التّفاصيل غير الضّروريّة.

على سبيل المثال، إذا أردت أن تقدّر عدد ذرّات الرّمل على شاطئٍ ما، فبدلاً من بناء حساباتك على الشّكل الهندسي المعقّد والمتغاير الذي تتّخذه ذرّات الرّمل، بإمكانك أن تفترض أنّ جميع ذرّات الرّمل هي مكعّبة الشّكل وحجمها متساوٍ تقريبًا.

بعد ذلك، بإمكانك أن تستقي عيّنة من الرّمل (ربّما عيّنة بحجم 1 ميلمتر مكعّب)، أن تقدّر عدد أو نسبة ذرّات الرّمل وكثافتها في هذه العيّنة الصّغيرة (بناءً على إفتراضاتك)، ومن ثمّ تضرب النّاتج بحجم الشّاطئ ككلّ.

هذا الأسلوب الحسابي وهذه المسائل تعرف أحيانًا بإسم مسائل فيرمي (Fermi Problems)، نسبة إلى عالم الفيزياء الإيطالي الشّهير إنريكو فيرمي (Enrico Fermi).

فيرمي كان مولعًا بمثل هذه التّقديرات الحسابيّة، لدرجة أنّه يُذكر أنّه في أثناء عمله على اختبار القنبلة الذريّة في الولايات المتّحدة، استطاع أن يُقدّر قوّة القنبلة بدقّة عالية جدًّا فقط عن طريق مشاهدة أثرها على بعض الأوراق المتناثرة التي كانت بحوزته.

جميع هذه المسائل تتّخذ طابعًا مشتركًا: أنّنا نحاول أن نضع تخمينات مبرّرة عن كميّات أو أعداد يظهر لأوّل وهلة أنّه من المستحيل تقديرها، وذلك بسبب شحّ وقلّة المعطيات المتوافرة.

بالطّبع، الإفتراضات والمعطيات التي سنستخدمها لتقدير عدد أو نسبة الأشياء ستختلف بحسب المسألة التي بين أيدينا.

ولكن الطّابع والتوجّه العام سيبقى كما هو – مجرّد حسابات تقريبيّة تعتمد على بعض الإفتراضات والمعطيات الشّحيحة. على سبيل المثال، إذا أردنا أن نقدّر عدد النّجوم في مجرّة درب التبّانة، فبإمكاننا فعل ذلك في ثلاثة خطوات بسيطة (ولكن تفاصيلها معقّدة):

1) تقدير كتلة المجرّة: بإمكاننا تقدير كتلة المجرّة عن طريق ملاحظة ورصد مدار النّجوم المختلفة في قرص المجرّة، حساب السّرعة المداريّة لهذه النّجوم، ومن ثمّ إستخدام هذه السّرعة لتقدير كتلة المجرّة ككلّ.

2)طرح المادّة المظلمة: ولكن بما أنّ مجرّتنا مغطّاه بهالة ضخمة من المادّة المظلمة (والتي تشكّل 90% من من كتلة المجرّة) فعلينا أن نطرح الكتلة الكليّة للمادّة المظلمة من المجموع الذي تحصّلنا عليه في الخطوة السّابقة.

3)حساب معدّل كتل النّجوم: بعد ذلك بإمكاننا حساب معدّل كتلة النّجوم في المجرّة، والذي بإمكاننا التحصّل عليه عن طريق مشاهدة ورصد عيّنات مختلفة من النّجوم، حساب كتلتها، ومن ثمّ حساب المعدّل الكلّي لكتل هذه النّجوم.

وأخيرًا، إذا قمنا بتقسيم المجموع التي تحصّلنا عليه بعد الخطوة رقم (2) على المعدّل الكلّي لكتل النّجوم في المجرّة، فسنتحصّل على تقديرٍ تقريبيّ لعدد النّجوم في المجرّة: ألا وهو ما بين 200 إلى 400 مليار نجم.

هذه الأساليب تعود بنتائج عالية في الدقّة غالبًا لأنّ أحجام، كتل، أو قيم الأجسام التي نحاول تقديرها عادة ما تتوزّع بشكلٍ شبه متساو حول الوسط أو المعدّل.

ولذلك القيم الأصغر التي نتجاهلها توازن القيم الأكبر التي تجاهلناها، وفي المحصّلة نتيجتنا ستكون قريبة جدًّا من المعدّل.

ولكن بما أنّ هذه التّقديرات قد تعتمد في بعض الأحيان على إفتراضات خاطئة أو غير دقيقة، فإنّها قد تعدّل كلّ بضعة سنوات لتوافق أحدث الأدلّة، المعطيات، والمعلومات عن الكون الذي نعيش فيه.

مع كلّ العيوب التي قد تكون كامنة في هذه الأساليب الحسابيّة، إلاّ أنّها تذكّرنا أنّ هنالك دائمًا أساليب أيسر لفهم العالم من مجرّد الأساليب البدائيّة أو الصّعبة، كما أنّها كشفت لنا عن أسرار ما كنّا لنحلم حتّى بتخيّلها في القرون السّابقة.


المصادر: