الحلقة الثالثة من سلسلة “فهم العلم”
كيف يعتمد العلم على الأدلة وما هي علاقته مع المجتمع العلمي؟


اعتماد العلم على الدلائل:

في نهاية المطاف، ليس على الأفكار العلمية أن تكون قابلة للتجريب والاختبار فحسب، بل يجب أيضًا أن يتم القيام باختبارها وتجريبها فعليًّا، ويُفَضَّل أن يتم ذلك بواسطة دلائل مختلفةٍ من أشخاصَ مختلفين.

تشكل هذه الخاصية المُمَيِّزة القلب النابض لكل فروع العلم!

يبحث العلماء بشكلٍ مستمرٍّ وفعال عن الأدلة من أجل اختبار أفكارهم، حتى عندما يكون هذا الاختبار صعبًا أو بعيد المنال، كأن يستغرق العالم أعوامًا على التجربة ذاتها، أو أن يضطر إلى السفر إلى القارة القطبية لقياس مستويات ثنائي أوكسيد الكربون في قلب الجليد، أو أن يقوم بجمع عيناتٍ من الحمض النووي من آلاف المتطوعين حول العالم.

إن القيام بهذه الاختبارات هو أمرٌ غاية في الأهمية بالنسبة للعلم لأن قبول أو رفض فكرة ما في العلم يعتمد على الأدلة المرتبطة بها ليس على عقيدةٍ أو رأيٍ شعبيٍّ رائجٍ أو تقاليد معيّنة.

في العلم يتم رفض الأفكار الغير مدعومة بدلائل، كما أن الأفكار المحمية من الاختبار أو تلك التي يكون اختبارها غير مسموحٍ بقرارٍ من مجموعة معيّنة من الأشخاص الذين لديهم مصلحة خاصة في نتيجة الفكرة، فإن ذلك أيضًا لا يشكّل جزءً من العلم الجيّد.

نموذج علمي: راذرفورد والذرة

قام مختَبَر إرنست راذرفورد بتجريب فكرة أن الكتلة الموجبة للذرّة تكون منتشرةً بشكل واسع، وتمت التجربة بإطلاق شعاع جسيم ألفا عبر رقاقة من الذهب، إلا أن الدلائل الناتجة عن هذه التجربة كانت مفاجئة تمامًا: معظم جزيئات ألفا كانت قد عبرت من خلال رقاقة الذهب بدون أن تغيّر اتجاهها بقدر ما كان متوقّعًا، لكن بعض من جزيئات ألفا ارتدت عن الرقاقة في الاتجاه المعاكس وكأنها قد اصطدمت بشيءٍ كثيفٍ وصلبٍ في رقاقة الذهب.

فإذا كانت ذرات رقاقة الذهب فعلًا ككرات الثلج المتوزعة بشكل مبعثر وهش، فكان يجب على جميع جزيئات ألفا حينها أن تمر من الرقاقة، إلا أن ذلك لم يحدث.

انطلاقًا من هذا الدليل، استنتج راذرفورد بأن نموذج كرة الثلج المتعلق ببنية الذرات كان غير صحيح، على الرغم من أنها كانت فكرةً رائجة بين العديد من العلماء الآخرين.

وبدلًا من نموذج كرات الثلج الهشة، فقد نوّهَ الدليل على أن الذرة، في الحقيقة، معظمها عبارةٌ عن فراغ، وأن الشحنة الموجبة مركَّزة في كتلة كثيفة بمركزها مشكِّلة ما يعُرَف بالنواة. عندما يتم إطلاق جزيئات ألفا المشحونة إيجابيًا باتجاه رقاقة الذهب، فإن معظم الجزيئات عبرت من المساحة الفارغة لذرات الذهب مع حصول انحرافات قليلة، لكن القليل منها ارتد بشكلٍ كامل بعد اصطدامه بنواة ذرة الذهب الكثيفة والموجبة الشحنة (الموجب مع الموجب يتنافران).

إن فكرة أنه لدى الذرات نوى مشحونة إيجابيًا كانت أيضًا قابلة للاختبار، حيث أنه كان هنالك العديد من التجارب المستقلة التي قام بها باحثون آخرون لِيَرَوا ما إذا كانت الفكرة تتماشى مع نتائج تجريبية أخرى.

العلم متداخل في المجتمع العلمي

يعتمد تقدّم العلم على التفاعل المتبادل بين العلماء ضمن المجتمع العلمي (والمجتمع العلمي هنا هو مجموعة العلماء والباحثين والمؤسسات والمنظمات التي تقوم بتوليد الأفكار العلمية، تجريبها، نشرها، إعلانها، بالإضافة لتلك التي تقوم بتدريب وتأهيل العلماء وتوزيع التمويل الخاص بالأبحاث، وغيرها).
يوفّر المجتمع العلمي هذا القاعدة المعرفية التراكمية التي تمكّن العلم من أن يبني على نفسه.

كما أن المجتمع العلمي مسؤول عن المزيد من الاختبارات والتدقيق في الأفكار، بالإضافة للقيام بتحققات وموازنات على عمل أعضاء هذا المجتمع.

إضافة إلى ما سبق، فإن الكثير من البحث العلمي يكون تعاوني جماعي، مع وجود العديد من الأشخاص المختلفين الذين يساهمون بمعارفهم التخصصية لمعالجة جوانب مختلفة من مشكلة ما.

فعلى سبيل المثال، مقالة من عام 2006، تتحدث عن الاختلاف الإقليمي في الجينوم البشري، كانت نتيجة تعاون بين 43 شخص من المملكة المتحدة واليابان والولايات المتحدة وكندا وإسبانيا، وحتى تشارلز داروين، الذي قام بشكل مبدئي بالتحقيق بفكرة التطور عبر الانتقاء الطبيعي وذلك أثناء عيشه كناسك تقريبًا في منزله، إلا أنه أبقى على حد معيّن من المراسلات والمشاورات المباشرة مع أقرانه، مرسلًا ومستقبلًا العديد من الرسائل بهدف التعامل مع أفكاره والدلائل المرتبطة بها.

التواصل بين العلماء في المجتمع العلمي هو أمر غاية في الأهمية

في حالات نادرة، يعمل العلماء فعلًا في عزلة. جريجور مندل على سبيل المثال، أوجد المبادئ الأساسية للوراثة الجينية كراهب منعزل مع تفاعل علمي قليل للغاية. ورغم ذلك، حتى في حالات كهذه، فإن البحث يجب أن يتضمن في نهاية المطاف المجتمع العلمي إذا كان يراد من هذا العمل أن يكون له أي تأثير على تقدّم العلم.

في حالة مندل، التدخل النهائي للمجتمع العلمي عبر أعماله المنشورة كان حاسمًا وغاية في الأهمية، حيث مكّن علماء آخرين من تقييم تلك الأفكار بشكل مستقل، بالإضافة إلى التحقيق في خطوط دليلية أخرى وتطوير امتدادات لأفكاره. قد تكون هذه العملية المجتمعية فوضوية وبطيئة إلا أنها أيضًا حاسمة في تقدم العلم.

نموذج علمي: راذرفورد والذرة

مع أن راذرفورد ابتدع فكرة أنه لدى الذرات نوى مشحونة بشحنة موجبة، إلا أن البحث الذي قاد إلى هذه الفكرة كان نتيجة جهدِ تعاونيٍ مشتركٍ: حيث أن هانز جايجر ساعد راذرفورد، بالإضافة إلى أن التجربة (تبعثر “ألفا” التي ذكرناها سابقًا) قام بها إرنست مارسدن، الذي هو طالب جامعي عامل في مختبر راذرفورد.

وعلاوة على ذلك، فبعد اكتشافه لنموذج شكل الذرة، قام راذرفورد بنشر وصف للفكرة مع الأدلة المرتبطة بها، وذلك لكي يتم تدقيقها وتقييمها من قِبَل المجتمع العلمي.

وهذا بالضبط ما قام المجتمع العلمي به، فقد لاحظ العالم نيلز بور مشكلةً في فكرة راذرفورد: المشكلة هي عدم وجود أي مانع من اتخاذ الإلكترونات التي تدور حول النواة مسارًا حلزونيًا ينتهي باندماج الأخيرة مع الإلكترونات الخاصة بها، الأمر الذي سيتسبب حينها في انهيار الذرة بالكامل وفناءها!

قام بور بتعديل نموذج راذرفورد الأساسي عبر اقتراح فكرة أنه لدى الإلكترونات مستويات طاقية معينة، فكانت نتيجة هذا التعديل حلًّا لمشكلة نموذج راذرفورد وفوز نيلز بور بجائزة نوبل. ومنذ ذلك الوقت قام العديد من العلماء بالبناء على نموذج بور وتعديله.

نموذج بور للذرة

نموذج راذرفورد للذرة


إعداد: الياس سعود
تدقيق: بدر الفراك
المصدر