لأول مرة
فيزيائيون يتمكنون من التحكّم بالعدم


وفقًا لفيزياء الكم، فإن الفراغ ليس خاليًا على الإطلاق بل مملوء بالطاقة الكمومية والجسيمات التي تأتي وتختفي من الوجود للحظات عابرة، وهو ما يُعرف بالتموجات الكمومية.

ولعقود من الزمن لم يكن هناك سوى أدلة غير مباشرة على تلك التموجات، ولكن في عام 2015 أدعى باحثون بأنهم تمكنوا من رصد تلك التموجات النظرية بطريقة مباشرة.

والآن ادعى نفس الفريق من الباحثين بأنهم تمكنوا من خطو خطوة أبعد حيث تمكنوا من التعديل في الفراغ نفسه ورصد التغيرات في التموجات الكمومية في الفراغ.

لكن ما يُعد مهمًا حقًا هو أنه إذا تم تأكيد هذه النتائج التي خرج بها الفريق البحثي، فإنهم على الأغلب قد تمكنوا من اكتشاف طريقة ستمكننا من رصد واختبار البيئة الكمومية من دون التدخل فيها، وذلك مهم جدًا لأن واحدة من أكبر المشاكل في فيزياء الكم وفهمنا لها هو أنه في كل مرة نقوم برصد وقياس نظام كمومي فإننا نقوم بتدميره، وهو ما يمنعنا من معرفة ما يدور حقًا في العالم الكمي!

وهنا يأتي دور الفراغ الكمومي.

بدايةً دعونا نفكر في الفراغ بطريقة كلاسيكية، وهو عبارة عن مكان خالي تمامًا من المادة مع أقل طاقة ممكنة.

وفي هذه الحالة فإنه لا يوجد شيء على الإطلاق ليتداخل مع الفيزياء البحتة.

ولكن أحد نتائج مبدأ (هايزنبيرج- Heisenberg’s) لعدم الدقة، «وهو أحد المبادئ الأساسية في فيزياء الكم»، هو أنه يوجد حدود لمقدار المعرفة التي يمكن أن نمتلكها بخصوص الجسيمات الكمومية، وبناءً على ذلك فإن الفراغ ليس خاليًا بالفعل، ولكنه يمتلئ بطاقته الخاصة وبأزواج من الجسيمات والجسيمات المضادة التي تظهر وتختفي بشكل عشوائي.

تلك الجسيمات هي جسيمات افتراضية أكثر من كونها جسيمات مادية ولذلك فإنه من الطبيعي أننا لا نتمكن من رصدها.

ولكن على الرغم من أنها جسيمات خفية -كمعظم الأشياء في عالم الكوانتم- إلا أنها بشكل دقيق تقوم بالتأثير في العالم الحقيقي.

حيث تقوم التموجات الكمومية بإنتاج مجالات كهربية بتموجات عشوائية تؤثر في الإلكترونات، وتلك هي الطريقة التي وضَّح فيها العلماء وجود التموجات الكمومية في الأربعينات من القرن الماضي.

وبعد ذلك في عام 2015 تمكَّن فريق يقوده (ألفريد لتنستورفير- Alfred Leinstorfer) من جامعة كونستانز في ألمانيا بالادعاء بأنهم تمكنوا من رصد التموجات الكمومية بطريقة مباشرة عن طريق رصد تأثيرها على موجة ضوئية ونُشِرت النتائج في دورية «Science».

وللقيام بذلك أطلقوا نبضة ضوئية من ليزر- تستمر فقط لمدة تُقدَّر بـ الفيمتو ثانية إلى الفراغ، وتمكنوا من رصد تغيرات دقيقة في استقطاب الضوء.

فيقول الفريق أن تلك التغيرات تسبَّبت بها التموجات الكمومية، وهو ادعاء لايزال قيد المناقشة، ولكن الفريق البحثي أخذ تجربته إلى مستوى جديد عن طريق «عصر» الفراغ وادعاء أنهم تمكنوا من رصد تغيرات في التموجات الكمومية كنتيجة لذلك.

ولا يعد ذلك مجرد دليل إضافي على وجود التموجات الكمومية، ولكنه أيضًا يقترح أن الفريق البحثي قد وجد طريقة ما لرصد التجارب في عالم الكم بدون العبث في النتائج.

فعادةً عندما تبحث عن تأثيرات التموجات الكمومية على جسيم ضوئي «فوتون» واحد فسيتحتم عليك رصد ذلك الجسيم من أجل رصد التأثير، وهو ما سيُزيل «الأثر الكمي» المتبقي على ذلك الفوتون، وهو ما قام به الفريق في 2015.

أما هذه المرة، فبدلًا من ذلك درس الفريق الضوء بالنسبة للزمن.

قد يبدو هذا غريبًا ولكن في الفراغ فإن المكان والزمان يعملان بنفس الطريقة لذلك فإنه من الممكن دراسة أحدهما لمعرفة شيء ما عن الآخر.

وقد لاحظ الفريق أنهم عندما قاموا بـ «عصر» الفراغ كان شبيهًا بعصر بالون، وهو ما قام بإعادة توزيع التموجات الكمومية بداخل الفراغ.

وفي بعض الأماكن، كانت التموجات أعلى بكثير من الضوضاء الخلفية للفراغ الذي لا يُعصر.

وفي أماكن أخرى، كانت التموجات أهدأ. ويشبِّه لتنستورفير ما حدث بالتكدس المروري، حيث أن السيارات تتكدس قبل ما يُعرف بـ «عنق الزجاجة» ولكن بعد ذلك فإن كثافة السيارات ستقل مجددًا.

نفس الشيء يحدث في الفراغ.

فعندما يتم عصره في نقطة ما فتوزيع التموجات يتغير ويمكنها أن تزيد أو تقلل سرعتها كنتيجة لذلك.

ويمكن قياس ذلك التأثير بالنسبة للزمن، كما يظهر في الرسم أدناه، حيث أن النتوء في الوسط هو العصر الذي يحدث للفراغ.

كما يتضح، فإن العصر يتسبَّب في حدوث تغيرات صغيرة في التموجات

ولكن شيء آخر غريب يحدث أيضًا، وهو أن التموجات في بعض الأماكن تكون أقل من مستوى ضوضاء الخلفية والتي هي أقل من الحالة القاعية للفضاء الفارغ.

ويُسمي العلماء ذلك الحادث بالظاهرة المذهلة.

وبما أن الطريقة الجديدة التي استخدمها الفريق في عملية الرصد لا يتوجب عليها امتصاص الفوتونات من أجل قياسها، فإنه من الممكن رصد الضوضاء الكهرومغناطيسية للخلفية الفراغية بطريقة مباشرة، وبالتالي أيضًا الانحرافات عن الحالة القاعية للفراغ.

وعلى الرغم من أن النتائج الحالية مدهشة إلى درجة كبيرة، إلا أنه لا يزال يوجد احتمال بأن الفريق البحثي تمكن فقط من تحقيق ما يُسمى بالقياس الضعيف أو غير المهم، وهو نوع من القياس لا يُعكِّر الحالة الكمومية ولكنه أيضًا لا يُخبر الباحثين الكثير عن النظام الكمومي.

وإذا تمكن الفريق من معرفة أشياء جديدة باستخدام هذه الطريقة، فإنهم يريدون أن يستكملوا استخدامها لاستكشاف الحالة الكمومية للضوء، والتي هي السلوك الغير مرئي للضوء في المستوى الكمومي والذي لازلنا في بداية طريقنا لفهمه.


إعداد: عمرو السيد
تدقيق: هبة فارس
المصدر