سلسلة تاريخ الرياضيات
الرياضيات عند الإغريق- فيثاغورس


يُقال أن فيثاغورس هو مؤسس علم الرياضيات وأول عالم رياضيات حقيقي.
إلا أنه يبقى شخصية جدلية على الرغم من أهمية إنجازاته.
لم يترك لنا فيثاغورس أي مخطوطات حسابية كتبها بنفسه، وأغلب ما نعرفه عن أفكاره أتت من كتابات (فيلولاوس) وغيره من الباحثين التابعين لفيثاغورس.
لهذا لا يوجد أي دليل قاطع على أنه حل أيًّا من النظريات المنسوبة له بنفسه، لا أحد أتباعه.

أسست المدرسة _التي أسسها فيثاغورس في كروتون في جنوب إيطاليا عام 530 قبل الميلاد_ النواة لمذهب غريب تابع له.
فعلى الرغم من سيطرة الرياضيات على معظم الأفكار الفيثاغورية (نسبة الى فيثاغورس)، إلا أنها كانت تحمل جانبًا روحيًا أيضًا.
أرغم فيثاغورس أتباعه على أفكار فلسفية دينية، نظام غذائي نباتي صارم، المشاركة المعيشية، طقوس دينية سرية، بالإضافة لبعض القواعد الغريبة (تضمنت عدم التبول باتجاه الشمس، عدم الزواج من امرأة ترتدي الحلى الذهبية، عدم أكل أو حتى لمس الفول الأسود وغيرها).

انقسم أتباع مذهبه الى قسمين: المتعلمين (ماثيماتيكوي)، الذين وسعوا وطوروا المزيد من الأعمال الحسابية والعلمية التي بدأها فيثاغورس، والمستمعين (أكوسماتكوي)، الذين ركزوا على المزيد من الجوانب الدينية والطقسية في تعاليم فيثاغورس.
دائمًا ما كان هناك الكثير من المشاحنات بين الفريقين، التي تصاعدت بينهم حتى أصبح أتباع المذهب في حالة معارك داخلية مستمرة أدت إلى تشتتهم في النهاية.
تراكم الاستياء والغضب على مذهب فيثاغورس لسريته وخصوصيته، مما أدى إلى حرق وتدمير كل أماكن اجتماع أعضائه، وقتل حوالي 50 عضوًا منهم في كروتون وحدها في عام 460 قبل الميلاد.

كان شعار مدرسة فيثاغورس (الكل رقم) أو (الإله رقم).
مارس الفيثاغوريون بالفعل عبادة الأرقام، واعتبروا الأرقام الفردية مؤنثة والأرقام الزوجية مذكرة، بالإضافة إلى أنهم حددوا لكل شخصية ومعنى رقمه الخاص، على سبيل المثال، الرقم واحد هو خالق الأرقام، اثنان هو رمز الرأي، ثلاثة رمز التناغم، أربعة رمز العدل، خمسة رمز الزواج، ستة رمز الخَلق، سبعة رمز الكواكب التي عرفت وقتها باسم (النجوم الجوالة)، وهكذا.

التيتراكتيس الفيثاغوري

كان الرقم عشرة أو (تيتراكتيس) هو الأقدس، وهو عبارة عن مجموع الأرقام التي تشكل المثلث كما هو موضح بالشكل المرفق.
يعتبر ذلك إنجازًا رائعًا للفكر الفيثاغوري، الذي استخلص مكانة الرقم عشرة من محاججة رياضية عقلية وليس من شيء تقليدي كالعد على أصابع اليدين.

يتحمل فيثاغورس ومدرسته _بالإضافة لبعض علماء الرياضيات الإغريق_ مسؤولية كبيرة عن تقديم رياضيات صعبة نسبيًا مقارنة بالقواعد الأساسية التي أُسست قبلهم بديهيًا ومنطقيًا.
فالهندسة مثلًا، كانت بكل بساطة مجموعة من القواعد المتفرقة المستنبطة من القياسات العملية.
بينما اكتشف فيثاغورس أن نظامًا حسابيًا كاملًا يمكن بناؤه، بحيث تتوافق العناصر الهندسية مع الأرقام الصحيحة وكسورها ليكون هذا كل ما يتطلبه بناء نظام كامل منطقي وحقيقي.

يشتهر فيثاغورس بنظريته التي يُطلق عليها اسم نظرية فيثاغورس، التي تنص على أنه في مثلث قائم الزاوية، مربع طول الوتر (الضلع المقابل للزاوية القائمة) يساوي مجموع مربعي الضلعين المحاذيين للزاوية القائمة، وعادة ما تكتب في هذه الصيغة: (a2 + b2 = c2). هذه القاعدة تنطبق على أي شكل من الأشكال، فمثلًا، مساحة شكل سداسي الأضلاع مبني على الوتر، تساوي مجموع مساحتي الشكلين السداسيين الآخرين المبنيين على الضلعين الآخرين.
الأمر الذي ينطبق على نصف الدائرة أيضًا أو أي شكل منتظم (أو حتى غير منتظم)، وهذا ما لم يعرفه فيثاغورس وأتباعه.

النظرية الفيثاغورية

أبسط الأمثلة على المثلثات الفيثاغورية وأشهرها، مثال المثلث الذي يتكون من أضلاع أطوالها 3-4-5 وحدات، (32 + 42 = 52) عن طريق رسم مربعات مقسمة إلى مربعات أصغر على كل ضلع من أضلاع المثلث.
يوجد عدد لا نهائي تقريبًا من الثلاثيات الفيثاغورية مثل (5-12-13)، (6-8-10)، (7-24-25)، (8-15-17)، (9-40-41).
من الجدير بالذكر أن (6-8-10) لا يعد ثلاثي فيثاغوري أساسي لأنه أحد مضاعفات الثلاثي (3-4-5).

تعتبر نظرية فيثاغورس وخصائص الزاوية القائمة من أقدم وأكثر القواعد الحسابية انتشارًا، فقد ورد ذكرها في بعض أقدم المخطوطات الحسابية البابلية والمصرية، التي تعود لأكثر من 1000 سنة قبل عصر فيثاغورس، بالإضافة إلى ذكرها في مخطوطات الصين القديمة التي تسبق ميلاد فيثاغورس كذلك.
على الرغم من أنه ليس معروفًا إذا ما كان فيثاغورس هو من أثبت هذه النظرية أم أنه وصفها فقط، إلا أنه يبقى الشخص الذي يعود له الفضل في صياغة هذه النظرية بصورتها الواضحة.
على كل حال، أصبحت النظرية أكثر النظريات الحسابية شهرة، ولها حاليًا أكثر من 400 إثبات مختلف، بعضها هندسي وبعضها جبري، بينما يتضمن البعض الآخر معادلات تفاضلية متقدمة، وغيرها.

بعد ذلك، أصبح من الواضح أن الحصول على حلول من أعداد غير صحيحة ممكنًا، فالمثلث الذي يبلغ طول أضلاعه 1-1 و √2 هو مثلث قائم صحيح _مثلما اكتشف البابليون قبل ذلك بعدة قرون _ لكن عندما حاول (هيباسوس) تلميذ فيثاغورس حساب قيمة √2، لم يستطع التعبير عنها بصورة كسر، الأمر الذي جعل فكرة وجود عالم جديد من الأرقام ممكنة.
دمر اكتشاف الأرقام الغير نسبية (الأرقام التي لا يمكن التعبير عنها في صورة كسر بسيط من أرقام صحيحة) عالم الأرقام الأنيق الذي بناه فيثاغورس وأتباعه، ووجود مثل هذه الأرقام لا يمكن التعبير عنها كرمز بين اثنين من مخلوقات الإله (مثل ما كانوا يصفون الأرقام الصحيحة) مما هدد النظام العقائدي الكامل للجماعة.

أُغرق الفيثاغوريون هيباسوس المسكين لأنه نشر هذا الاكتشاف للعالم الخارجي.
إلا أن استبدال فكرة الأرقام الصحيحة المقدسة بمفهوم التواصل الأغنى كان تقدمًا حسابيًا مهمًا، وميلادًا حقيقيًا للهندسة الإغريقية التي تتعامل مع الخطوط والمستويات والزوايا، وكلها تعتبر قيم متصلة لا منفصلة.

من ضمن إنجازاته الأخرى في الهندسة، اكتشف فيثاغورس (أو على الأقل تلاميذه الفيثاغوريون) أن مجموع زوايا المثلث يساوي زاويتين قائمتين أي 180 درجة، وعمموا هذه القاعدة بحيث يكون مجموع الزوايا الداخلية لأي شكل مضلع عدد أضلاعه (س) يساوي (2س-4) من الزوايا القائمة، بينما مجموع الزوايا الخارجية لنفس الشكل يساوي 4 زوايا قائمة.
استطاعوا أيضًا بناء أشكال ذات مساحة محددة، واستخدام الجبر الهندسي، مثل حل المعادلات التي تشبه أ(أ-س)=س2 باستخدام وسائل هندسية.

وضع الفيثاغورين أيضًا الأساس لنظرية الأرقام من خلال أبحاثهم في الأرقام التربيعية والتكعيبية والأرقام الكاملة (الأرقام التي تساوي مجموع الأرقام التي تقبل القسمة عليها مثل رقم 6 ومجموعه 1و 2و 3).
واكتشفوا خصائص جديدة مختلفة للأرقام التربيعية، فمثلًا تربيع الرقم س يساوي مجموع الأرقام الفردية الأولى التي عددها س (مثلًا 42=16=1+3+5+7). اكتشفوا كذلك زوجًا من الأرقام الصديقة 220 و 284 (الأعداد الصديقة هي زوج من الأرقام يكون مجموع الأرقام التي يقبل العدد الأول القسمة عليها تساوي العدد الثاني والعكس صحيح، حيث أن الأرقام 1-2-4-5-10-20-22-44-55-110 هي الأرقام التي يقبل الرقم 220 القسمة عليها ومجموعها 284، بينما الأرقام 1-2-4-71- 142 هي الأرقام التي يقبل 284 القسمة عليها ومجموعها 220).

يعود الفضل لفيثاغورس في اكتشاف نسب الأرقام الصحيحة بين فاصلات الموسيقى المتناغمة

يُنسب الفضل أيضًا لفيثاغورس في اكتشاف أن هناك نسب أرقام صحيحة بين الفاصلات الموسيقية المتناغمة.
فمثلًا، عزف نصف طول وتر الجيتار ستعطي نفس النغمة للوتر الكامل ولكن طبقة أعلى، ثلث طول الوتر يعطينا نغمة مختلفة ولكنها متناغمة، وهكذا.
لكن عزف نسب غير صحيحة تعطي أصواتًا غير متناغمة.
وضع فيثاغورس حجر الأساس للنغمات الموسيقية، ووصف النغمات التوافقية الأربع الأولى، التي أصبحت الفاصلات الموسيقية الأكثر شهرة وحجر الأساس للنغمات الموسيقية، وهي: أوكتاف (1:1)، الخمس الكامل (3:2)، الربع الكامل (4:3) والثلث الكبير (5:4). (تناغُم فيثاغورس) هو الاسم الذي أُطلق فيما بعد على أقدم طريقة لضبط نغمات السلم الموسيقي ذي النغمات الإثني عشر، التي بُنيت على مجموعة من الأخماس الكاملة، وضُبطت نسبة كل منها على 3:2.

كان فيثاغورس الصوفي سعيدًا بتلك الاكتشافات حتى انه اعتقد بأن الكون كله مبني على الأرقام، وأن الكواكب والنجوم تتحرك بناءً على معادلات رياضية تشبه النغمات الموسيقية، عازفةً سيمفونية معينة، تدعى موسيقى الأفلاك.


ترجمة: جورج فام
تدقيق: آلاء أبو شحّوت
المصدر