إشعاع الخلفية الكونية الميكروي: بقايا الانفجار العظيم


يوضح الشكل أعلاه، صورة لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي التقطها مرصد بلانك الفضائي التابع لوكالة الفضاء الأوربية عام 2013، تُظهر وجود اختلافات طفيفة عبر السماء. تُعزى هذه الصورة إلى مرصد بلانك الفضائي التابع لوكالة الفضاء الأوربية.

يُعتقد أن الخلفية الكونية الميكروية هي بقايا الإشعاع المتخلف عن الانفجار العظيم، أو الزمن الذي بدأ فيه الكون. بينما تقضي النظرية بأن الكون خضع لعملية تضخم وتوسع سريعة عند ولادته (ما زالت مستمرة وتتسارع حتى اليوم، لأسباب غير معروفة). يُمثِّل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي الحرارة المتخلفة عن الانفجار العظيم.
بالطبع، لا يمكنك مشاهدة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بالعين المجردة، إلا أنها موجودة في جميع أرجاء الكون. ولا يمكن للبشر رؤيتها لأنها باردة للغاية؛ إذ لا تتجاوز درجة حرارتها 2.725 درجة فوق الصفر المطلق (أي ناقص 459.67 درجة فهرنهايت، أو ناقص 273.15 درجة مئوية). وهذا يعني أن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي يكون أكثر وضوحًا في نطاق الموجات الميكروية من الطيف الكهرومغناطيسي.

أصل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي وكيفية اكتشافه

نشأ الكون قبل نحو 13.7 بليون سنة، ويعود تاريخ الخلفية الكونية الميكروية إلى نحو 400.000 سنة بعد الانفجار العظيم. ذلك لأن الكون في أطواره الأولى، عندما كان حجمه واحد على مائة مليون من حجمه الحالي، كانت درجة حرارته القصوى 273 مليون درجة فوق الصفر المطلق، وفقًا للإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا-NASA).

ما لبثت جميع الذرات الموجودة آنذاك أن تحطمت إلى جسيمات صغيرة (بروتونات، وإلكترونات). وأدى الإشعاع الناتج عن الخلفية الكونية الميكروية على شكل فوتونات _وهي الجسيمات التي تُمثل كمات الضوء أو الإشعاع الآخر_ إلى تشتت الإلكترونات. تقول ناسا: «بهذه الطريقة، انتشرت الفوتونات عبر الكون المبكر، وهي ذات الطريقة التي ينتشر بها الضوء المرئي عبر ضباب كثيف».
بعد حوالي 380.000 سنة من الانفجار العظيم، أصبح الكون باردًا إلى الحد الذي يكفي لإمكانية تشكل ذرات الهيدروجين. ونظرًا إلى أن فوتونات الخلفية الكونية الميكروية لم تتأثر تقريبًا باصطدامها بذرات الهيدروجين، فقد انتشرت في خطوط مستقيمة. يستخدم علماء الكونيات مصطلح (سطح التشتت الأخير) للإشارة إلى الاصطدام الأخير لفوتونات الخلفية الكونية الميكروية بالمادة؛ الذي أصبح الكون بعدها كبيرًا جدًا. لذلك، عندما نرسم خريطة للخلفية الكونية الميكروية، فإننا نعود بالزمن إلى 380.000 سنة بعد الانفجار العظيم، بعد أن كان الكون معتمًا للإشعاع.

اكتشف (روبرت ويلسون) بالاشتراك مع (أرنو بنزياس) إشعاع الخلفية الكونية الميكروي في العام 1964، واضعين نظرية الانفجار العظيم على أساس راسخ. فاز عن هذا الاكتشاف كلٌّ من ويلسون وبنزياس بجائزة نوبل في الفيزياء للعام 1978، وشاركهما الجائزة العالم السوفيتي (بيوتر كابيتسا). تُعزى هذه الصورة إلى (كلايف جرينجر، مركز هارفارد-سميثونيان للفيزياء الفلكية_CFA).

على حد قول ناسا، تنبأ عالم الكونيات الأمريكي (رالف ألفر) لأول مرة بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي عام 1948، عندما كان يعمل على هذا البحث مع (روبرت هيرمان) و(جورج جاموف). كان هذا الفريق يُجري البحوث المتعلقة بالتخليق النووي للانفجار العظيم، أو إنتاج العناصر في الكون بجانب إنتاج أخف نظائر (أنواع) الهيدروجين. وقد تخلّق هذا النوع من الهيدروجين في وقت مبكر جدًا من تاريخ للكون.

رُصد إشعاع الخلفية الكونية الميكروي للمرة الأولى _بمحض الصدفة_ عام 1965؛ عندما كان اثنان من الباحثين في مختبرات شركة بيل للاتصالات، وهما: )أرنو بنزياس( و)روبرت ويلسون(، يختبران جهازًا للكشف عن الموجات الراديوية، وكانا في حيرة من أمرهما جراء التشويش الذي يلتقطه الجهاز. لكن سرعان ما أدركا أن التشويش آتٍ من كافة أقطار السماء بانتظام. في الوقت ذاته، كان فريق من جامعة (برنستون) بقيادة (روبرت ديك) يحاول رصد إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وعندما تناهى إلى مسامع فريق ديك خبر تجربة مختبرات شركة بيل، أدركوا أن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي قد اكتُشِف.

سرعان ما نشر كل من الفريقين أوراق بحثية في مجلة الفيزياء الفلكية عام 1965، مع حديث لبنزياس وويلسون عما شاهداه، بالإضافة لتفسير فريق ديك لما يعنيه ذلك في سياق علم الكونيات. (فيما بعد، حصل كل من بنزياس وويلسون على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1978).

دراسات أكثر تفصيلًا

تُعد الخلفية الكونية الميكروية مفيدة للعلماء؛ فهي تساعدهم على معرفة كيفية تشكُّل الكون في بداياته الأولى. لقد كان الكون ذي درجة حرارة منتظمة، تتخللها تقلبات صغيرة جدًا لا يمكن رؤيتها إلا بمَقارِب عالية الدقة. تقول ناسا: «من خلال دراسة هذه التقلبات، يتمكن علماء الكونيات من التعرف على أصل المجرات، وبنيتها على المقياس الكبير، كما يمكنهم قياس البارامترات الأساسية لنظرية الانفجار العظيم».

في عام 1993 _بينما كانت تُرسم أجزاء من الخلفية الكونية الميكروية في العقود التالية لاكتشافها_ انتهت المهمات العلمية لبعثة ناسا التي انطلقت عام 1989 بقيادة مستكشف الخلفية الكونية (كوب)، حيث أجرت البعثة مسحًا شاملًا للسماء بأسرها لأول مرة. وأيدت هذه الصورة (للكون الوليد) _كما تطلق عليه ناسا_ تنبؤات نظرية الانفجار العظيم، وألمحت إلى اكتشافات عن بنية الكون لم تكن معروفة من قبل. عام 2006، حصل (جون ماثر) و(جورج سموت) من جامعة كاليفورنيا-بيركلي، على جائزة نوبل في الفيزياء _من مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لناسا_ عن أعمالهما على مستكشف الخلفية الكونية.

رُسمت بعد ذلك _في عام 2003_ خريطة أكثر دقة وتفصيلًا، بفضل مسبار ويكلسون لقياس تباين الموجات الراديوية (WMAP)، الذي انطلق في حزيران عام 1200، وانتهت مهمته العلمية في عام 2010. قَدَّرت الصورة الأولى عمر الكون بحوالي 13.7 بليون سنة، وكشفت أيضًا عن مفاجأة؛ هي أن أقدم النجوم بدأت بالسطوع بعد نحو 200 مليون سنة من الانفجار العظيم، في وقت يسبق كثيرًا ما كان متوقعًا.

تابع العلماء تلك النتائج من خلال دراسة أطوار التضخم الأولى للكون (بعد واحد على تريليون من الثانية من بدء تكوُّنه)، وتقديم بارامترات أكثر دقة حول كثافة الذرة، تجعد الكون، وغيرها من الخصائص الأخرى بعد فترة وجيزة من تشكُّله. رصد العلماء أيضا لا تماثلية غريبة في متوسط درجات الحرارة في نصفي القبة السماوية، بالإضافة إلى رصدهم «لبقعة باردة» كانت أكبر مما كان متوقعًا.

في العام 2013، عُرضت معظم الصور العالية الدقة للخلفية الكونية الميكروية حتى الآن، بعد إزاحة الستار عن المعلومات الواردة من مرصد بلانك الفضائي التابع لوكالة الفضاء الأوربية. كشف العلماء عن سر آخر من خلال هذه المعلومات؛ هو أن التقلبات في الخلفية الكونية الميكروية على مقاييس الزاوية الكبيرة لا تتطابق مع التنبؤات. وأيّد مرصد بلانك الفضائي ما سبق رصده بمسبار ويكلسون لقياس تباين الموجات الراديوية بشأن اللاتماثلية الغريبة والبقعة الباردة.

حاولت جهود بحثية أخرى النظر إلى جوانب مختلفة للخلفية الكونية الميكروية. وأحد هذه الجوانب هو تحديد أنواع الاستقطاب، فيما يُسمى بالنمط E _المكتشفة من خلال مِقراب قاس درجة التداخل الزاوي القائم في القارة القطبية الجنوبية (أنتارتيكا) عام 2002_ والنمط B. من الممكن أن يكون النمط B ناتجًا عن التأثير العدسي التثاقلي للنمط E _الذي رصده مِقراب القطب الجنوبي لأول مرة عام 2013_ بالإضافة للموجات التثاقلية (المُتنبأ بها ولم ترصد بعد).

في عام 2014، أعلن مِقراب قياس استقطاب إشعاع الخلفية الكونية الميكروي القائم في القارة القطبية الجنوبية أنه اكتشف الموجات التثاقلية من النمط B. إلا أن عمليات رصد أخرى _بالإضافة لتلك الواردة من مرصد بلانك الفضائي_ أوضحت أن هذه النتائج نشأت عن الغبار الكوني.


ترجمة: د. خالد أبو زهرة
تدقيق: آلاء أبو شحّوت
المصدر