يتكوّن الدّماغ من 100 مليار خليّة عصبيّة، وهو بهذا يسمح لنا بفعل كثيرٍ من الأشياء المدهشة مثل تعلّم العديد من اللّغات، وبناء المركبات التي ترسل أشخاصًا إلى الفضاء الخارجي!

لكنْ على الرّغم من هذه الإمكانات المدهشة، فنحن في العادة لا نستطيع تذكّر أين وضعنا مفاتيحنا، وننسى سببَ ذهابنا إلى البقاليّة، ونفشل في محاولة تذكّر بعض أحداث حياتنا الشخصيّة.

هذا التّناقض الواضح في الوظائف يدعونا للتّساؤل لماذا ننسى بعض الأمور بينما نتذكر بعضها الأخر؟ّ! وبشكل أساسيّ ما الّذي يسبّب النّسيان؟؟

سيتواجد كتابي “وهم الذاكرة” في كندا هذا الأسبوع، وكفتاةٍ كنديّةٍ أريد أن أحتفل بهذا من خلال عرض بعض الباحثين الكنديّين الّذين قدّموا لنا نظرة ثاقبة فيما يتعلّق بهذا السّؤال.

نشرت تاليا ساديه وزملاؤها في معهد أبحاث روتمان في تورنتو مقالةً في موقع “سايكولوجيكال ساينس” في الآونة الأخيرة تتناول نقاشًا طويلًا في مجال علم الذاكرة.

هل ننسى بسبب الاضمحلال أم بسبب التّداخل في الذاكرة؟!

رسالة في الرّمال

الاضمحلال: المؤيّدون لنظريّة الاضمحلال يقولون إنَّ ذكرياتنا تختفي ببطء، وتتلاشى بسبب مرور الوقت دون استعادتها.

يمكنك تشبيه هذا الأمر إلى حدّ كبير برسالة خطّيّة في الرّمال، فكلّ موجة تتدفّق على الشّاطئ من المحيط تجعل الكتابة أقلّ وضوحًا حتى تختفي الكتابة في النّهاية تمامًا. وتمثّل الرّمال شبكة الخلايا الدّماغيّة التي تشكّل الذّاكرة في الدّماغ، بينما تمثّل أمواج المحيط مرور الزّمن.

التّداخل: غالبًا ما يناقض هذا مضمونَ التّداخل، إلّا أنَّ ساديه وزملاءَها يعتقدون أنَّه <<تصعب استعادة الذّكريات بسبب تداخل معلومات مشابهة لها تمَّ اكتسابها قبلَ أو بعدَ تشكيل هذه الذّكريات>>.

نعود إلى مثال الشّاطئ، ولكنْ هنا بَدَلَ أنْ تتآكل الرّسالة ببطء بسبب الأمواج، يأتي طفل إلى الشّاطئ ويخطّ فوق هذه الكتابة. وهذا يجعل قراءة الرّسالة أمرًا صعبًا، بل مستحيلًا.

الطّفل في هذا المثال يمثّل تجربة جديدة، والرّسالة التي كتبها هي المعلومات التي تركتها هذه التّجربة في الدّماغ، وهذا يؤدّي إلى النّسيان لأنّه بشكل أساسيّ يستبدل الذّكرى الأصليّة. هذه العمليّة يمكن أن تؤدّي أيضًا إلى تشكيل ذكرياتٍ كاذبة، وهو موضوعي المفضّل.

نظريّة التّمثيل

وضّحت ساديه وزملاؤها الكنديّون أنّ هاتين النّظريّتين لا تناقضان بعضهما بالضّرورة، فكلٌّ من نظريّتي الاضمحلال والتّداخل مهمّة لفهم النّسيان.

وفقًا لبحثهم الّذي يهتمّ بــ “نظريّة التّمثيل للنّسيان” فإنَّ السّبب الأوّل للنّسيان يعتمد على طبيعة الذّكرى الأساسيّة.

وجد الباحثون دعمًا لنظريّتهم عن النّسيان من خلال إجراء تجربة ذاكرة الكلمات، حيث ضمّت التّجربة 272 طالبًا من جامعة تورونتو.

تمّ تقسيم المشاركين عشوائيًا، وكانت شروط التّجربة تختلف من حيث مدّة تعلّمهم لبعض الكلمات، ومدّة تذكّر هذه الكلمات، وإلى أيّ حدّ تداخلت ذاكرة كلماتهم مع الأشياء كان عليهم القيام بها بين التّعلّم و التّذكّر.

وفقًا للكتّاب فقد وجدوا دعمًا لفكرة أنّ الذّاكرة يمكن أن تتّخذ أحدَ شكلَين من التّمثيلات المختلفة في الدماغ، الألفة أو التّذكّر.

“الألفة” هي عمليّة الذّاكرة الّتي تسمح لنا أن نتذكّر شيئًا، ولكن دون تفاصيل محدّدة. هي فكرة أنّنا “نعرف” أنّه قد حدث شيء على الرّغم من أنّه لا يمكن أن نتذكّر سياقها الأصلي.

وهذا هو الحال عندما كنت تشعر بأنّك تعرف هذا الوجه، وهذا الرّجل يبدو مألوفًا جدًا، ولكنّك لا تستطيع أن تتذكر كيفَ عرفت هذا الشخص!

وخلافًا لذلك، إن كنت قد “استرجعت” شيئًا ما، فأنت تستطيع تذكّر سياق الذّاكرة. في هذه العملية تتعرّف على هذا الرّجل، وتذكر اسمه، أو تفاصيل أخرى حاسمة، هذا هو إد.

دعونا نلقِ اللّوم على الحصين

يشير فريقنا الباحث الكنديّ أنَّ هذين النّوعين من تمثيلات الذّاكرة يعملان بشكلٍ مختلفٍ، ويبدوان مختلفَين في الدّماغ. ويُعتقد أنَّ كلّا منهما يعتمد بشكل مختلف على جزء أساسيّ من الدّماغ، ويسمَّى الحُصَيْن الّذي يعدّ هامًا لتشكيل الذّكريات.

<<الذّكريات القائمة على الاسترجاع -بدعم من الحصين- مقاومة نسبيًا للتّداخل فيما بينها. وهنا يكون الاضمحلال مصدرًا رئيسًا للنّسيان. وعلى العكس فإنّ الذّكرياتِ القائمةَ على الألفة -بدعم من البنى خارج الحُصين- معرّضة للتّداخل>>.

بالجمع بين الاستعارات، هذا الرجل الّذي يبدو مألوفًا هو المعلومات الّتي من المرجّح أن تغيب عن البال لأن الطّفل يكتب فوقها في الرّمال، في حين يتلاشى غالبًا تذكّر أنّه إد بسبب الأمواج الّتي تمحو الذّكرى بمرور الوقت.

إذًا ماذا تعلّمنا؟؟ سبب نسياننا يبدو أنّه يعتمد على طريقة تخزين الذّكرى في الدّماغ. الأشياء الّتي نتذكّرها تكون عرضةً للتّداخل، والأشياء الّتي نشعر أنّها مألوفة تضمحلّ بمرور الوقت.

الجمع بين كلّ من عمليتيّ النّسيان يعني أنّه من غير المرجّح أن تبقى أيّة رسالةٍ بالطّريقة نفسها الّتي كتبت بها.


  • ترجمة: إلهام حج علي
  • تدقيق: سيلڤا خزعل
  • المصدر